لم يكن نجيب محفوظ أديباً أريباً ينتج الروايات والقصص من برج عاجيّ فحسب، بل كان رجلاً مصرياً بسيطاً يعيش الحياة العادية؛ يجلس في المقاهي، ويعيش في الحارة مع الناس البسطاء، ويذهب إلى عمله في الوظيفة الحكومية، ويعمل بانضباط الرجل العادي الذي يعيش الحياة العادية الروتينية. أجرى رجاء النقاش حوارات عدة مع نجيب محفوظ، ضمَّنها كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ". من خلال هذه الحوارات نلتقط لحظات تُقرّبنا من حياة نجيب محفوظ الرجل العادي البسيط الذي يحب الحياة والناس، وليس نجيب محفوظ الأديب العالمي و"النوبليّ".
رجل يحبّ الناس ويحبونه
كثيرٌ من المشاهير لديهم حالة من النرجسية والغرور تجعلهم لا يصبرون على الناس، ولا يفتحون بابهم لهم بسهولة. لكن نجيب محفوظ على رِفعة مكانته وموهبته العظيمة لم يكن إلا رجلاً بسيطاً صبوراً وكريماً.
يقول رجاء النقاش: "وفي أوَّل آب/أغسطس سنة 1990، بدأت لقاءاتي مع نجيب محفوظ، وكنت أطرح عليه الأسئلة فيجيبني عنها بصبر شديد ورحابة صدر كاملة وتوضيح لأي استفسار من أي نوع، وكنا نلتقي في الصباح الباكر في حدود الساعة الثامنة، ونواصل هذا اللقاء ما يَقرُب من ثلاث ساعات، واستمرت هذه اللقاءات حتى أواخر عام 1991. وكنت ألتقي مع نجيب محفوظ في هذه المواعيد أربعة أيام في الأسبوع، وأحياناً كنا نُعيد الأسئلة ونعيد تسجيل الإجابات طلباً لمزيد من الدقة والوضوح".
كان رجلاً مصرياً بسيطاً يعيش الحياة العادية؛ يجلس في المقاهي، ويعيش في الحارة مع الناس البسطاء، ويذهب إلى عمله في الوظيفة الحكومية، ويعمل بانضباط الرجل العادي الذي يعيش الحياة العادية الروتينية
ولم يكن هذا حال نجيب محفوظ مع المثقفين والإعلاميين فحسب، بل كان كذلك مع عامة الناس من رواد المقهى الذي كان يرتاده، وهو نفسه المقهى الذي أجرى رجاء النقاش فيه حواراته معه.
يقول النقاش: "وكانت لقاءاتنا تتم في مقهى صغير بميدان التحرير في وسط القاهرة، هو مقهى ‘علي بابا’. وقد حرصت أن أعرف شيئاً عن هذا المقهى الذي نلتقي فيه، وهو مقهى من دورين، وقد تعوّد نجيب محفوظ لسنوات طويلة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أن يجلس في ركن من أركان هذا المقهى في الدور العلوي، على منضدة صغيرة تطلّ على ميدان التحرير".
وعن علاقته بروّاد المقهى، يقول النقاش في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ": "كان بعض رواد المقهى يطلبون الحديث معه، والسلام عليه، وكان الغرسون يصعد ليستأذنه أولاً، ولم يحدث أن ردَّ نجيب محفوظ أحداً من الذين يطلبون تحيته وتبادل حديث سريع معه".
مع شلّة أحد أعضائها فاسد لطيف
كان للصداقة مكان كبير في حياة نجيب محفوظ. يقول محفوظ: "لا تخلو مرحلة من حياتي من مجموعة أصدقاء أجد عندهم ومعهم التسلية والتجاوب". ولم تكن صداقات محفوظ مع أدباء ومثقفين فقط بل كان من أصدقائه من هو غير ذلك. وأول شلة من الأصدقاء انضم إليها محفوظ كانت شلة أصدقائه في منطقة العباسية وهي المنطقة التي انتقلت أسرته لتسكن فيها بعد أن كانت تعيش في الجمالية.
يقول محفوظ: "ومن شلة العباسية مصطفى كاظم، شقيق السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبد الناصر، وأحمد الحفناوي وهو غير الموسيقار المعروف، والألفي مأمون، والمعلم كرشو". ويضيف: "كما ضمت الشلة نجيب الشويخي الذي كنا نعتبره شرير الشلة، وقد اعتدى بالضرب على معظم أعضائها، حاملاً تهديده الدائم لأي عضو يختلف معه بألا يخرج من بيته إلا ويتعرض للضرب".
وكانت عائلة الشويخي التي منها نجيب هذا، من العائلات الثرية في العباسية، إلا أنَّ نجيباً كان من فرع العائلة الفقير، وبرغم فقره فإنه لم يُعدم حيلةً لمجابهة الحياة.
يقول نجيب محفوظ: "أما نجيب فهو أساساً من الفرع الفقير في العائلة، ولم يُكمل تعليمه، ومع ذلك كان بإمكانه الحصول على أي عمل في أفضل الأماكن، لأنه لديه الاستعداد التام لفعل أي شيء دون وازع من ضمير. فمثلاً إذا طلب منه رئيسه في العمل أن يجلب له نساء عاهرات فلن يتورع عن القيام بهذه المهمة غير النظيفة".
وبرغم فساد نجيب إلا أنه "كان لا يخلو من طرافة" كما يصفه محفوظ، وهو السبب الذي جعلهم يبقونه في الشلة.
مع توفيق الحكيم "على القهوة"
بعد أن قرأ الأديب الشهير توفيق الحكيم، رواية نجيب محفوظ، طلب أن يلتقي بمحفوظ. يحكي نجيب محفوظ عن هذا اللقاء: "ذهبت إليه في مقهى اللواء الذي كان يقع في مواجهة البنك الأهلي، وجلست معه في حضور مترجم اللغة الألمانية المعروف محمود إبراهيم دسوقي، وفي نهاية اللقاء سألني الحكيم عما إذا كنت أسافر إلى الإسكندرية لقضاء الصيف ومتى؟ فأبلغته بأنني أسافر في شهر أيلول/سبتمبر بانتظام. فطلب مني لقاءه في سيدي بشر".
وبالفعل التقى محفوظ بالحكيم في الإسكندرية في شهر أيلول/سبتمبر عام 1948. يقول محفوظ: "وفي الطريق إلى المقهى الذي يجلس عليه الحكيم في سيدي بشر اكتشفت مقهى آخر أجمل وأنسب اسمه ‘بترو’، كما أنه أقرب إلى البيت الذي يسكن فيه الحكيم".
يواصل محفوظ: "وعرضت عليه أن ننتقل إلى هذا المقهى وننشئ ركناً نسمّيه ركن الحكيم ووافق". ويحكي محفوظ عن هذا الركن: "كان ركن الحكيم في ‘مقهى بترو’ يقصده الباشوات والإقطاعيون من المهتمين بالأدب والثقافة، وأذكر منهم شمس الدين باشا عبد الغفار وبرهان الدين باشا نور".
ويحكي عن مشاعره عند انضمامه إلى هذا الركن: "وعندما انضممت إليهم شعرت بتحفظهم نحوي وخوفهم من وجودي. ولاحظ الحكيم ذلك وحاول إزالة هذه التحفظات والمخاوف ونجح في ذلك، وأصبحت من أعضاء الشلة، ودخلت في نسيجها الإنساني، وأخذنا نتبادل الضحك والمزاح".
مع يحيى حقي في الوظيفة
وكانت تربط نجيب محفوظ بالأديب الكبير يحيى حقي، علاقة صداقة وودّ كانت بدايتها اللقاء في الوظيفة. يقول محفوظ: "عرفت الأستاذ يحيى حقي في الوظيفة. فقد أنشأ وزير الإرشاد فتحي رضوان ‘مصلحة الفنون’، واستمرت هذه المصلحة خلال الفترة الممتدة من سنة 1955 إلى 1959، وتم تعيين يحيى حقي في منصب مدير المصلحة. وطلب اثنين من المساعدين واختارني أنا وعلي أحمد باكثير، وعملت مديراً لمكتبه".
وعن علاقته الشخصية بيحيى حقي في الوظيفة، يقول: "البساطة التي وجدتها في أدب يحيى حقي، كانت هي نفسها ما يميزه في الوظيفة، قد كان صديقاً لمرؤوسيه، أما صداقتنا الخاصة فقد ازدادت بمرور الأيام عن طريق الحوار والمؤانسة، وكنا نمضي اليوم معاً في مصلحة الفنون، ثم يصطحبني بسيارته لتوصيلي إلى بيتي في العباسية".
نجومية الموقع لا القيمة
عمل نجيب محفوظ كموظف حكومي لمدة 37 سنةً بعد التخرّج من الجامعة. خلال هذه السنوات عمل في وزارة الأوقاف، ثم الجامعة، ثم مؤسسة السينما التابعة لوزارة الأوقاف، وترقَّى في الدرجات الوظيفية حتى بلغ رتبة "نائب وزير" في مؤسسة السينما، وذلك قبل تقاعده سنة 1971.
أول شلة من الأصدقاء انضم إليها محفوظ كانت شلة أصدقائه في منطقة العباسية وهي المنطقة التي انتقلت أسرته لتسكن فيها بعد أن كانت تعيش في الجمالية.
تحدث نجيب محفوظ مع رجاء النقاش عن ظروف العمل في وظيفة حكومية في مصر في الفترة التي سبقت ثورة 23 تموز/يوليو 1923. وعن مكانة الوظيفة في المجتمع يقول محفوظ: "وعرفت مكانة الوظيفة في مجتمعنا، وكيف أنه مجتمع بيروقراطي والقيمة الحقيقية فيه هي قيمة البيروقراطية والمكانة الوظيفية، والجميع يحرص على الوظيفة حتى أنَّ أي متخصص في مجال فني أو هندسي قد يحرص على الترقية ليصبح إدارياً، وينسى الفن والهندسة، وهما عماد حياته وتألّقه، ويكون هدفه الوحيد أن يصبح وكيل وزارة مثلاً".
وكان الناس -بمن فيهم الأدباء والمثقفين الذين يفترض أن تكون مكانتهم مستمدةً من أدبهم وثقافتهم- في هذا الزمان يسعون إلى الوظيفة بحثاً عن مكانة. وفي هذا الصدد يقول نجيب محفوظ: "جوائز الدولة تذهب كلها إلى موظفين كبار، ولذلك لا أستغرب رؤية أديب نابغ يبحث عن وظيفة في مؤسسة إعلامية أو صحافية، أو يرأس صفحةً أدبيةً ليصبح نجماً بالموقع وليس بالقيمة الحقيقية".
ويتعجب محفوظ لأنَّ بعض هؤلاء الأدباء موهوبون ولهم إنتاج جيّد، إلا أنَّهم لا يتألقون إلا بالحصول على وظيفة تفتح لهم باب التألق والظهور.
مصالح حزبية وشخصية وشذوذ جنسي للترقي الوظيفي
عمل نجيب محفوظ موظفاً وتنقّل في الوظيفة من وزارة الأوقاف إلى مجلس النواب إلى إدارة الجامعة. وكان محفوظ في وزارة الأوقاف يلتقي بالمستحقين في الوقف للعائلات القديمة، وكان يتابع الصراعات الحزبية في مجلس النواب، ويسجل ما لاحظه من فساد في أثناء عمله: "ولاحظت كم أنَّ الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضرّ بمصالح الناس".
وحرص على أن يجعل في أدبه مساحةً لتسليط الضوء على ممارسات الفساد التي واجهها في مساره الوظيفي. يقول: "أما في إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى، فبطل ‘القاهرة الجديدة’ عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن سقوطه بدأ وهو طالب".
ويحكي نجيب محفوظ عن الفساد الأخلاقي الذي رآه: "كما اصطدمت في الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسي بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشيء إلا بسبب ممارسته الشذوذ مع أحد كبار الموظفين، وكان شذوذ البعض معروفاً لا يكاد صاحبه يخفيه".
وحكى نجيب محفوظ عن إلغاء ترقيته إلى الدرجة الرابعة، وإعطائها لأحد هؤلاء الذين وصفهم بالشاذّين. يقول: "كانت مثل هذه الحادثة من الأشياء المتكررة في الحكومة، وكان الشاذون جنسياً في نعيم حقيقي، وكانوا يجدون دائماً من يساندهم". ويقول محفوظ أيضاً: "وكان الأديب كامل كيلاني يسخر من هؤلاء الشاذين، ويقول لي إذا كان الشذوذ أوصلهم إلى الدرجة الرابعة فإنه لن ينفعهم أكثر من ذلك، سيظلون في الرابعة".
لعبت لقاءات محفوظ بالناس على المقهى واحتكاكه بهم في الوظيفة دوراً محورياً في أدبه، ويؤكد هو بنفسه ذلك: "أعطتني الوظيفة فكرةً جيدةً عن النظام والبيروقراطية، وعرّفتني بنماذج بشرية كثيرة
عمل محفوظ موظفاً حكومياً لمدة 37 سنةً، وأصبح في آخر مشواره الوظيفي مستشاراً لوزير الثقافة حتى خرج على "المعاش" سنة 1971، وكانت أعلى درجة وظيفية وصل إليها هي رئيس مؤسسة وهي تعادل درجة نائب وزير .
لعبت لقاءات محفوظ بالناس على المقهى واحتكاكه بهم في الوظيفة دوراً محورياً في أدبه، ويؤكد هو بنفسه ذلك: "أعطتني الوظيفة فكرةً جيدةً عن النظام والبيروقراطية، وعرّفتني بنماذج بشرية كثيرة، وأظن أنَّ الوظيفة والمقهى والحارة هي مصادر ثلاثة رئيسية في أدبي، وتجد أنَّ الموظف موجود في الكثير من أعمالي القصصية والروائية".
لقاء عابر بالمازني وتحذير من الواقعية
يحكي نجيب محفوظ عن لقائه الوحيد بإبراهيم عبد القادر المازني، وكان محفوظ يحبّه جداً، ويتابع ما يكتب بحبّ شديد. وبرغم ذلك لم يحرص محفوظ على التواصل معه بشكل كبير بسبب تركه الأمور للصدفة وعدم الحرص على ترتيب مثل هذه اللقاءات. يقول محفوظ: "وكان من عاداتي السيئة أنَّ كثيراً من الأدباء الذين أحببتهم، لم أحاول الاتصال بهم أو زيارتهم، إذ كنت أترك هذه الأمور للمصادفة".
وعن لقائه الوحيد بالمازني يقول: "ذهبت إلى المازني في موعد حدده هو مع السحَّار، واستقبلني استقبالاً حاراً وأفاض عليّ من المديح ما أخجلني منه". ويواصل محفوظ: "ثم صمت قليلاً وقال لي إنه يريد أن ينصحني وأنا في بداية حياتي الأدبية، وما زالت كلمات المازني محفورةً في ذاكرتي حتى الآن. قال لي إن الأدب الذي أكتبه هو الأدب الواقعي، وإنَّ هذا النوع يسبب لصاحبه مشاكل كثيرةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه