سكت نجيب محفوظ عن صورة ذهنية خاطئة للمرأة في أدبه. السينما التجارية رسخت الصورة، وتناسلت في أفلام ومسلسلات تستثمر الرائج، بإغراء تقليد الأصل الدرامي، لا بقراءة العمل الأدبي واستيعابه. أرجّح أن البعض يهاب أعمال محفوظ، مثل أي كلاسيكيات تتوارث الألسنة والأجيال عناوينها، فتتأجل قراءتها.
ومن خطايا الدراما أنها وزعت نساء نجيب محفوظ على طائفتين؛ الأولى مستكينة تستسلم للقدر، والذكور في الأسرة تمثيل لهذا القدر. والطائفة الثانية تتحدى الذكور، بشهوة والْتذاذ يحققه الانتقام من ميراث القهر. الطائفة الأولى رمزها أمينة في الثلاثية. والطائفة الثانية تجسدها زهيرة في "الحرافيش"، ونعمة الله في قصة "أهل الهوى" أولى قصص مجموعة "رأيت فيما يرى النائم".
في الجزء الأول من الثلاثية، "بين القصرين"، انتقادٌ لأمينة، على لسان ابنتها خديجة ذات العشرين عاماً. تقول خديجة لأمها: "أنت يا نينة لا تصلحين لتربية أحد". أمينة خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها الرهيب، وظلت رهينة الجدران، لا ترى من الدنيا إلا المآذن وأسطح البيوت. أما خديجة فأنصتت إلى آخر نصائح أبيها قبل الزواج: "ربنا يسدد خطاك... وما من نصيحة تسدى إليك خيراً من أن أقول: اقتدي بأمك في كل كبيرة وصغيرة". لكن خديجة استعارت شخصية أبيها، وصارت سيدة البيت، وفرضت إرادتها على زوجها وعلى أمه ذات الأصل التركي. وضاقت الحماة باستبداد خديجة ابنة الرجل الطيب الذي أنجب "شيطانة".
من خطايا الدراما أنها وزعت نساء نجيب محفوظ على طائفتين؛ الأولى مستكينة تستسلم للقدر، والذكور في الأسرة تمثيل لهذا القدر. والطائفة الثانية تتحدى الذكور
تتضرع الحماة العجوز إلى الله، وتقول لخديجة "أنا أستحق ضرب الشبشب جزاء اختياري لك". فتمضي خديجة وهي تغمغم، حتى لا تبين المرأة كلامها: "أنت تستحقين ضرب الشبشب.. لا أجادلك في هذا". ثم تتخلخل دائرة سيطرة خديجة على الأسرة، بقرار ابنها أحمد العمل بالصحافة، فتحتال على ضعفها بالسخرية منه: "قلت أشتغل جورنالجي قلنا: اشتغل عربجي!"، وتستنكر اقترانه بزميلته سوسن حماد "جورنالجية هي الأخرى!... وهل تتوظف إلا الفتاة البائرة أو القبيحة أو المسترجلة!".
تنتمي سوسن إلى جيل التمرد والحداثة، أما خديجة فتمثل تمرداً فطرياً تزامن مع سلوك زنوبة العوادة التي رفضت استبداد "سي السيد"، وثارت على استمرارها كعشيقة تنتظره ليلاً في العوّامة.
زنوبة، في لحظة إفاقة، تهدد السيد الجبار. تقرر أنه لن ينالها إلا بالزواج. تعي ضعفه، وتراهن على قوتها، فينحني للعاصفة، ويطلق الكلام اللين: "أنت أعز عليّ من نفسي". كسرت كبرياءه وتحدت جبروته، فغادرها "ولم ينكر شعوره الذليل بالرغبة فيها والحرص عليها". ثم عاد بعد ساعة؛ لإذلالها بأن نساء من طبقتها "يرتزقن في بيتي خادمات". وينفجر غضبه سباباً وتهديداً، فتزداد ثقة، وتذكره بأنه كان يقبل يدها، "والخشوع في عينيك". يثور فيأمرها بمغادرة العوامة، فتهدده بأن عقد الإيجار باسمها، وتنصحه بالمغادرة في صمت، "قبل أن تذهب في زفّة". لقد انكسر في تلك الليلة، وما زواج زنوبة من ابنه ياسين إلا ثمرة للهزيمة.
ريري في رواية "السمان والخريف" نموذج لتمرد مختلف. بنت ليل تصادف عيسى الدباغ الذي أسقطت ثورة تموز/يوليو 1952 طبقته، وقضت على امتيازاته. يقبل ضيافتها، ثم تفاجئه بحملها. لا يصدق أن الحمل "وقع رغم الحذر"، ويطردها. ثم تراه في مطعم، وتقترب من طاولته فيخشى ما يحسبه مكراً، ويتنكر لها، فيخيب أملها وتنهض غاضبة.
وبعد سأم الزواج، يذهب إلى الإسكندرية وحيداً، ويعثر على ريري، ويرى ابنته التي حملت اسم رجل آخر. ظنّ عيسى تلك الحقيقة "دعوة أخيرة يائسة إلى حياة ذات معنى. معنى في حياة أعياه أن يجد لها معنى". تنكره ريري، وترفض اعتذاره. وتأمره بالابتعاد، "أنت أعمى ومجنون، ويجب أن تختفي".
بنت الليل التي صارت أمّاً بالمصادفة، ذات كبرياء، تستطيع إذلال الباشا، وترد إليه الصفعة، غير عابئة بتوسلاته: "الجنون يعصف برأسي، أنا أعلم مدى نذالتي، ولكن يجب أن تتكلمي، قولي إن البنت هي ابنتي". تضن عليه الأم الصغيرة بنطق هذه الحقيقة، وتأمره بالاختفاء. ثم يعود إليها راجياً أن تتكلم، فتحتفظ بصلابتها أمام عذابه وانهياره، ولا تريحه إلا بوصفه بالجبن، وأنه لا يستحق أن يكون أباً. أما الرجل الآخر، في سجنه، فهو أبوها، "تبناها بأخلاقه فملكها إلى الأبد، وأنا مثلها". يسترحمها فلا تلين. وتحذره أن يعود، ويتأكد له ما قاله يوماً لصديقه: "نحن في حاجة إلى أن نعود للحياة مراراً حتى نتقنها".
تمرد ريري نوع من الدفاع السلبي. لا تملك محدودة الثقافة إلا وعياً فطرياً يصون كرامتها. لكن الصحفية سمارة بهجت، في رواية "ثرثرة فوق النيل"، تتسلح بيقظة تواجه بها سكارى العوامة. ليسوا أقل وعياً، يعملون بالأدب والمحاماة والترجمة والتمثيل والنقد الفني. فائضون على الحاجة، في سفينة يستغني قائدها عن مشورتهم. استعصت سمارة على المجون والسكر وسط السكارى. وقبل أن تقتحم خلوتهم السرية قال عنها أحدهم: "إذا حكمنا عليها بما تكتب، فهي جادة لدرجة الرعب". وأنيس زكي يسأل عم عبده الحارس: "ألم تعلم بأن سمارة نبية جديدة؟"، فيستغفر الله. ويضيف أنيس: "وقد جندت منا جيشاً سنحارب به العدم ثم نسير إلى الأمام".
سُكر أنيس زكي ليس إلا حيلة دفاعية تعصمه من الجنون. لا يكف الرجل، حتى المشهد الأخير، عن تحدي سمارة، ومجاراتها في محاورات فلسفية حول المصائر، وفي مسرحية تكتبها سمارة، وكيف تطورت إحدى شخصياتها إلى النقيض فجاءت النهاية مفتعلة. تقول سمارة إنها تحارب العبث، إذا اعترضتها نوباته، بالعقل والإرادة. فيسألها عن الهزيمة، وينصرف عنها إلى عالمه، وتأتيه كلماتها وشوشاتٍ من نثار الحروف. وما كان لفتاة، ولو كانت نبية كما وصفها أنيس، أن تهدي المطمئنين بعبثهم، ولا يبالون حتى بارتكاب القتل والتهرب من المسؤولية عن الخطأ. لديهم ما يكفي من مسوّغات الهروب، فلا يكون أمام التي تعتصم بالعقل والإرادة إلا الخلاص الفردي.
الجمهور، من القراء والمشاهدين، لا يفضل قرينات منى زهران من المتمردات. يذهبن إلى النسيان، ويعلو نموذج الست أمينة، وتلقى أضواء على زهيرة في "شهد الملكة"، ونعمة الله في قصة "أهل الهوى"
في رواية "الحب تحت المطر" شخصية شديدة الاعتداد بذاتها، منى زهران التي تفسخ خطوبتها لقاضٍ، قبل إعلانها. وفي نبرة حادة أخبرت صديقتيها عليات عبده وسنية أنور بالسبب:
ـ عرفت عن يقين أنه يقوم بتحريات عني!
ـ أهذا ما أخذته عليه؟
ـ وهو كاف وفوق الكفاية.
فقالت عليات:
ـ أراهن على أنه فعل ما فعل بحسن نية!
ـ أنا لا أتهمه بسوء النية ولكن بسوء العقلية أتهمه...
ثم مستدركة بانفعال شديد:
ـ ولم أتردد فواجهته بالتهمة، تلعثم وحاول أن يفسر سلوكه بغير بواعثه الحقيقية، ولكني رفضت تفسيره وطالبته باحترام نفسه فاعترف واعتذر بسخافات لا أذكرها ولا أحب أن أذكرها فلم أقبل عذره... وقلت له إني أحتقر تحرياته وأحتقر النتائج التي وصل إليها، وإنه خدع أو إنه لم يحسن التحري. وقلت له إن ماضيّ ملكي وحدي كما أن ماضيه ملكه وحده وإنني أرفض كافة أنواع العبودية في أي زي تزيت وبأي اسم تحلت، وإنه لا يصلح لي كما لا أصلح له...
لعل منى زهران، في رواية "الحب تحت المطر" التي يهملها النقاد، أكثر تمثيلات الطبقة الوسطى تمرداً وصلابة في أعمال نجيب محفوظ. هي موظفة بالسياحة منذ عام، وأبوها مدير إدارة قانونية، وأمها ناظرة مدرسة متقاعدة باختيارها، ولها شقيقان أحدهما مهندس في بعثة في روسيا، والآخر طبيب يتوقع اختياره في بعثة. لم تعلن الفتاة شعارات صاخبة، وإنما ترجمت أفكارها إلى سلوك رافض، وهي مستعدة لدفع ثمن الرفض. قالت بعجرفة: "أفضل أن أبقى بلا زواج إذا كان الثمن كذبة سخيفة وجراحة دنيئة! لا يمكن أن أتهاون في مبادئي وأخلاقي".
الجمهور، من القراء والمشاهدين، لا يفضل قرينات منى زهران من المتمردات. يذهبن إلى النسيان، ويعلو نموذج الست أمينة، وتلقى أضواء على زهيرة في "شهد الملكة"، ونعمة الله في قصة "أهل الهوى" التي تحولت إلى الفيلم التجاري "وكالة البلح"، للاعتبار. كأن لسان الحال يقول: من تتمرد تنتظر نهاية كارثية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...