شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف يمكن سحب

كيف يمكن سحب "سمّ" الوظيفة من الإبداع؟... دروس من نجيب محفوظ "الموظف"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 21 ديسمبر 202201:50 م

"ليست في نجيب محفوظ ذرة من طبائع الموظفين، ولا تستغرب إن قلت لك إنه مع ذلك موظف مثالي، لم يحدث أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة". هكذا تحدث الكاتب والقاص يحيى حقي عن أديب نوبل نجيب محفوظ، بالأحرى عن "الموظف الأديب"، هذه الثنائية المتضادة التي حكمت حياة محفوظ 37 عامًا، تنقل خلالها في عدد من الوظائف بجامعة القاهرة، ووزارة الأوقاف، والرقابة على المصنفات الفنية، حتى وصل إلى درجة "نائب وزير" في مؤسسة السينما ثم أحيل إلى المعاش سنة 1971.

هذه الوظائف في المؤسسات الحكومية المظلمة، والمتحجرة، قادرة على قتل روح المبدع، قتلاً ناعماً، وسحب دم الإبداع من عروقه، فالوظيفة بكل ما تمثله من رتابة وجمود، هي العدو الأول للمبدع الذي يسعى إلى الحرية عبر تمرده على السائد، فماذا إذا كان هذا السائد هو البيروقراطية المصرية الراسخة والمتجذرة منذ عهد الفراعنة؟! وسط هذا النظام القاسي الذي يحكم عالم الوظيفة في مصر، عاش نجيب محفوظ حياته الأدبية والوظيفية، دون أن يُعفر تراب الوظيفة روحه القوية، الحرة، فظل الأديب بداخله متوهجاً حتى آخر أيام عمره المديد.

المعادلة المستحيلة

إنها المعادلة المستحيلة التي حققها أديب نوبل باستثنائيته المعهودة؛ تعامل محفوظ مع الوظيفة، كمصدر رزق، يستطيع من خلاله أن يؤمن ضرورات حياته، وحتى لا ينال النظام الصارم من روحه، فقد أخذ منه ما يُفيده وهو تنظيم وقته؛ نصف اليوم للعمل الوظيفي، والآخر للقراءة والكتابة، وبدلاً من أن ينظر إلى الوظيفة كعدوٍ له، كما باقي الأدباء، أصبحت مصدراً أساسياً من مصادر كتاباته، بجوار الحارة والمقهى، حيث تعرف في هذا العالم الثري على العديد من النماذج البشرية العجيبة التي كانت أبطالًا للعديد من رواياته، بل إن الموظف المصري، بتركيبته النفسية وتسلقه وانتهازيته، شخصية محورية في أعمال محفوظ، عكست جزءاً مهمًا من التاريخ الاجتماعي لمصر في القرن العشرين.

عاش  أديب نوبل صراعاتٍ هائلةً في دهاليز ومكاتب العمل الحكومي، لكنه بحكمة وذكاء كان يقوم بسحب "السّم" من هذه الصراعات، حتى لا تنال من روحه كأديب

يُمثل نجيب محفوظ الروحَ المصرية في أعلى تجلياتها، وكذلك الشخصية المصرية، وهذه الشخصية لا توجد في أعماقها أيّ بذورِ تمرّد، لكنها ابنة "التحايل"، ويبدو أن هذا ما أعان نجيب محفوظ "الموظف"، فلم يكن محفوظ متمرداً لأنه يعرف أن المتمرد والموظف لا يلتقيان في مصر. وحتى يمسك بهذه الثنائية (الموظف والأديب) للنهاية كان عليه أن يكون ابناً مخلصاً لـ"التحايل" المصري، وحين نتطلع على سيرته الوظيفية، سيتضح أن أديب نوبل عاش صراعات هائلة في دهاليز ومكاتب العمل الحكومي، لكنه بحكمة وذكاء كان يقوم بسحب "السم" من هذه الصراعات، حتى لا تنال من روحه كأديب.

كان الكاتب والناقد رجاء النقاش قد أجرى على مدار 18 شهراً حوارات موسعة مع نجيب محفوظ، تتناول بالتفصيل كل ما يخص أدبه وحياته، سجل خلالها نحو 50 ساعة، وكان نتاج ذلك كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" الذي يُعد سيرة ذاتية لأديب نوبل، وعلى مدار صفحات مذكراته، تبرز "الوظيفة" كجزء أصيل من السيرة الحياتية لهذا الأديب الكبير. يحكي محفوظ عن عذاباته في عالم الوظيفة والموظفين، ويُقدم تشريحاً فكرياً للبيروقراطية المصرية، ويتتبع جذورها منذ عهد الفراعنة، ويأخذنا معه إلى دهاليز الوظيفة الحكومية في عصر ما قبل ثورة يوليو 1952، ويكشف لنا الكثير من الأسرار عن هذا العالم الراسخ والمعتم في آن واحد.

يعترف محفوظ أن حياته في الوظيفة منحته مادة إنسانية عظيمة، وأمدته بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتابته، وعلمته كيف يستغل كل دقيقة في حياته بطريقة منظمة، ومن ثم كان لديه الوقت الكافي للعمل على مشروعه الإبداعي، لكنه في الوقت نفسه، يراها نظاما، قاسياً وضاراً، إذ "أخذت الوظيفة نصف يومي ولمدة 37 سنة. وفي هذا ظلم كبير. ولو كنا مثل أوروبا وصدر لي كتاب متميز لتغيرت حياتي. وكنت استقلت من الوظيفة وتفرغت للأدب".

فور تخرجه من كلية الآداب قسم الفلسفة في عام 1934، دخل محفوظ عالم الوظيفة، وكان آنذاك في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت أولى المؤسسات التي عمل بها هي "إدارة جامعة القاهرة"، قبل أن ينتقل إلى وزارة الأوقاف، ثم مجلس النواب، ومصلحة الفنون بوزارة الإرشاد القومي، التي كان يرأسها الكاتب والقاص يحيى حقي، حتى اتجه إلى المؤسسات السينمائية مثل مؤسسة دعم السينما والرقابة على المصنفات الفنية.

وسط النظام القاسي الذي يحكم عالم الوظيفة في مصر، عاش نجيب محفوظ حياته الأدبية والوظيفية، دون أن يُعفر تراب الوظيفة روحه القوية الحرة، فظل الأديب بداخله متوهجاً حتى آخر أيام عمره المديد

في كل وظيفة، كان محفوظ يصطدم بنماذج بشرية مختلفة عن الأخرى، ففي إدارة الجامعة، عرف بطل روايته "القاهرة الجديدة"، منذ أن كان طالبًا وظل يتتبعه إلى أن حصل على وظيفة، أما بطل "خان الخليلي"، واسمه أحمد عاكف، فكان زميلًا له في إدارة الجامعة، وهنا يحكي "محفوظ": جاء أحمد عاكف يشكرني بعد قراءته للرواية على محبتي له، للدرجة التي جعلتني أطلق اسمه على بطل الرواية. والإبقاء على اسم "أحمد عاكف" كما هو كان تحديًا مني، لأنني أغير في الشخصية ومصيرها التي تجعل صاحب الشخصية لا يعرفها. وشخصية أحمد عاكف في خان الخليلي بها الكثير من ملامح الشخصية الحقيقية ولكنه لم يكن يشعر بها. ومن هذه الملامح الأساسية: غروره الكاذب، ولأن أحداً لا يعترف بأن لديه غروراً كاذباً. فإنني كنت مطمئناً وأنا أضع اسمه كبطل للرواية".

يعتبر محفوظ أن عمله في وزارة الأوقاف هو أكبر احتكاك له بعالم الوظيفة والموظفين، وكان لهذا العمل آثار واضحة في رواياته، وتحديدًا "المرايا"، أما نماذج الشخصيات التي التقى بها أثناء عمله في المؤسسات السينمائية، فقد استفاد منها في "الحب تحت المطر" و"أفراح القبة". وبجرأة غير معهودة عن صاحب "الحرافيش"، يحكي محفوظ عن "الشذوذ الجنسي" بين الموظفين في وزارة الأوقاف، وهو الأمر الذي تسبب في ضياع الترقية التي كان قد حصل عليها، لصالح موظف آخر، كانت تربطه علاقة خاصة برئيس الديوان الملكي آنذاك "إبراهيم باشا عبد الهادي".

يُمثل نجيب محفوظ الروح المصرية في أعلى تجلياتها، وكذلك الشخصية المصرية، وهذه الشخصية لا توجد في أعماقها أي بذور تمرد، لكنها ابنة "التحايل"، ويبدو أن هذا ما أعان نجيب محفوظ "الموظف"، فلم يكن محفوظ متمرداً، لأنه يعرف أن المتمرد والموظف لا يلتقيان في مصر

يقول محفوظ: اصطدمت في الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسي بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشيء إلا لممارسته للشذوذ الجنسي مع أحد كبار الموظفين. وكنت قد ظلمت بسبب ذلك، وتعرضت لأكثر المواقف حرجًا في حياتي. فبعد أن أخبرت الجميع بحصولي على الترقية للدرجة الرابعة. تم التراجع فيها لصالح منافسي الذي كان أقل مني بكثير في الكفاءة والعمل، وكان السبب في ذلك أن هذا الشخص كانت تجمعه علاقة خاصة برئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت".

حتى تَركِه العمل بوزارة الأوقاف، يحكي محفوظ: "لم يكن أحد يعرف أنني أديب سوى الكاتب كامل كيلاني، وعبد السلام فهمي رئيس السكرتارية وزوج ماري منيب"، وكان الأديب كامل كيلاني، قد نصح محفوظ بأن يُخفي عن الموظفين بالوزارة أنه أديب، تجنباً للأحقاد التي ستلتهمه إن عرفوا ذلك. فقد شرب كيلاني السّمَّ لأنه أديب، وامتدت سهام الحقد والكراهية إليه، فثمة حقد مروع يكنه الموظفون المصريون للأدباء والفنانين، وهذا أمر شائع ومعروف في عالم الوظيفة، فالفنان دائماً ما يُمثل خطراً وتهديداً على الموظف، أو كما ذكر نجيب محفوظ: يضيف إلى حياتهم هاجسًا جديداً يُنذر بالخطر عليهم. نفذ محفوظ نصيحة كيلاني بصرامة، وظل متكتمًا على كونه أديباً طوال فترة عمله بوزارة الأوقاف.

أجمل فترات حياته الوظيفية

ويذكر محفوظ أن أجمل فترات حياته الوظيفية، تلك التي عمل فيها في مكتبه تابعة لوزارة الأوقاف بـ"قبة الغوري"، تطل على "الغورية"، المشهد الأثير إلى قلب صاحب "الثلاثية"، وهناك قرأ أعمال الروائي الفرنسي مارسيل بروست، لكنه لم يمكث بها طويلًا، إذ عُيّن رئيساً لمكتب مدير الشؤون الدينية بوزارة الأوقاف. أما أسوأ فترة في حياة محفوظ الوظيفية، فهي تلك الفترة التي شغل فيها منصب رئيس مؤسسة السينما، وكانت أول وظيفة كبيرة يقبلها كارهاً ومرغماً، إذ اقترح وزير الثقافة آنذاك اسم نجيب محفوظ على الرئيس عبد الناصر، وقد وافق عليه بعد أن أقنعه عكاشة، ومن ثم لم يستطع محفوظ رفض الوظيفة.

ترأس "محفوظ" مؤسسة السينما لمدة عامين، يقول إنه لم يفتح فيهما كتابًا، ولم يكتب كلمة، وعاش في اكتئاب عام، وكانت السينما مفلسة، ولا توجد سيولة "كانت وظيفة مقلقة للراحة، كان الممثلون يأتون لمكتبي في شارع طلعت حرب، ويهددون بإلقاء أنفسهم من النافذة بسبب البطالة. وكنا نعمل في أجواء من الاتهامات والتشكيك وهي الفترة التي حدثت فيها هزيمة 67.

عمل محفوظ  في الرقابة

وقبل رئاسته لمؤسسة السينما، تولى محفوظ منصب "مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية"، وهو الأمر الذي رسم علامة استفهام كبيرة على وجوه الكثير من أصدقائه، فكيف يدعو رجل للحرية وينادي بها، ويتخذ من الديمقراطية شعارًا ثابتًا له، ثم يرضى أن يكون رقيباً على الفن، ويحد من حرية الفنانين؟

يذكر محفوظ أنه طوال فترة عمله في الرقابة، كان منحازاً للفن، قاطعاً الطريق على من يُحاول أن يحد من حرية الفنان، ويضيف أنه قضى على الفساد الذي كان مستشرياً في الرقابة قبل أن يتولى المنصب

ولكي يزيل "محفوظ" علامة الاستفهام الكبيرة هذه، أوضح أن الرقابة كما فهمها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته، ووظيفتها ببساطة هي أن تحمي سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول في مشاكل دينية قد تؤدي إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده في حدود المعقول، وفيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء ويعبر عن نفسه بالأسلوب الذي يراه مناسباً.

ويذكر محفوظ أنه طوال فترة عمله في الرقابة، كان منحازاً للفن، قاطعاً الطريق على من يُحاول أن يحد من حرية الفنان، ويضيف أنه قضى على الفساد الذي كان مستشرياً في الرقابة قبل أن يتولى المنصب، ومن بين صور هذا الفساد، تمرير السيناريوهات عن طريق الرشوة.  

وأشهر موقفين لـمحفوظ خلال رئاسته للرقابة، أحدهما إجازته لأغنية "يا مصطفى يا مصطفى" التي كاد أن يمنعها مراقب الأغاني بحجة أنها موجهة لـمصطفى النحاس، والموقف الآخر هو حذفه لبعض أغاني صباح من أحد أفلام المخرج عز الدين ذو الفقار، بحجة أن صباح كانت تؤديها بطريقة مثيرة، على إيقاع ألحان عبد الوهاب التي رآها محفوظ تبث إثارة جنسية فاضحة "في أحد أفلام المخرج الراحل عز الدين ذو الفقار رأيت حذف بعض الأغاني، لأن المطربة صباح تؤديها بطريقة مثيرة، وألحان عبد الوهاب لهذه الأغاني كان فيها إثارة جنسية فاضحة".

في روايته "حضرة المحترم" يقول نجيب محفوظ: "الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفاً معيناً من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي. ووادينا وادي فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة ولكن رؤوسهم ترتفع لدى انتظامهم في سلك الوظائف".

وخلال حواراته مع رجاء النقاش، يواصل محفوظ تشريحه الفكري لنظام الوظيفة في مصر، حيث يرى صاحب "ثرثرة فوق النيل" أن المجتمع المصري بيروقراطي بطبعه، وأن القيمة الحقيقية فيه هي قيمة البيروقراطية والمكانة الوظيفية التي يحرص الجميع عليها حتى الأدباء، ومن ثم فهو مجتمع معادٍ للفنان، بل يُجبره أن يكون موظفاً.

ويضيف محفوظ أن هذا النظام البيروقراطي هو نخاع مصر، وهو الهيكل الأساسي بها منذ عهد الفراعنة: "هذه هي مصر منذ أيام الفراعنة، الفرعون إله، وهؤلاء الموظفون أنبياؤه ورسله. وقد دعم المجتمع هذه النظرة للوظيفة. إن تركيبة المجتمع في مصر على هذه الحال منذ قديم الزمان، ربما منذ أن فكر مينا في توحيد القطرين، وأصبح للحاكم مندوبون في الأقاليم، ومن يومها تكون جهاز وظيفي بيروقراطي مقدس، وينظر أغلبية المصريين لهذا السبب إلى الموظف على أنه مندوب الله".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard