على حائط من حيطان مبنى المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة، طُبعت قصة مثيرة تحكي عن الطفل كيغام دجيغاليان الذي جاء إلى بلاد الشام هارباً مع أمه من مذابح الأرمن عام 1915، وتنقَّل بين مدن عدة حتى تزوج واستقرّ وأسَّس أول إستوديو تصوير في غزّة 1944، وظل يمارس شغفه بالتصوير، ولم يغادر المدينة حتى وفاته سنة 1981.
ولتكتمل الإثارة، ظهر لكيغام حفيد ورث عن جدّه الاسمَ ذاته، كما ورث جيناته الشغوفة في الفنون البصرية مدعماً ذلك بالدراسة الأكاديمية في مصر وفرنسا.
مصادفةً، عثر كيغام الحفيد ووالده على ثلاثة صناديق حمراء تحوي نيغاتيفَ أفلام من تصوير الجدّ، وعمل لسنوات على فتح تلك الصناديق والتعامل مع محتواها بما يملكه من أدوات احترافية.
بتنسيق منه، وبالتزامن مع حرب الإبادة التي تتعرض لها غزّة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أقام كيغام معرضاً فنيّاً عاطفياً مؤرِّخاً أرشيف جدّه "مصوّر غزّة الأوّل".
عند مدخل المعرض تستقبلكم تفاصيل القصة كما اختصرتها مقدمة هذه المقالة، وفي داخله قصة أخرى لرحلة طويلة شيّقة عن غزّة التي لا نعرفها.
صورة أولى... إسقاط إجباري
أخمّن أن تلك صورة من حفل تنكُّري، تتوسط صوراً أخرى لأشكال مختلفة من الاحتفالات ومراسم الزواج والأعياد.
جاء كيغام دجيغاليان. إلى بلاد الشام هارباً مع أمه من مذابح الأرمن عام 1915، وتنقَّل بين مدن عدة حتى تزوج واستقرّ وأسَّس أول إستوديو تصوير في غزّة 1944، وظل يمارس شغفه بالتصوير، ولم يغادر المدينة حتى وفاته سنة 1981
قاطعني في أثناء محاولتي تفكيك هوية الصورة صوتٌ تنبيهي من تطبيق حضانة ابنتي ذات العامين، يفيد بتنظيمها احتفالاً "حول العالم" يتعرَّف فيه الأطفال على ثقافات البلدان، مع توصية باختيار بلد ما لترتدي طفلتي زيَّه.
تنقّلت عيناي بين إعلان الحضانة وصور الحفل "التنكري" أكثر من مرة، وخلال دقائق قررت أن ابنتي سوف تلبس ثوباً فلسطينياً.
ربما لن نستطيع شرح أهوال الحرب لطفل في سنّ الحضانة، لكن سيكون من الضروري أن نغرس في وجدانه بشكل دائم صوراً عن غزّة وتراثها.
اليوم تلبس ابنتي الثوب الفلسطيني، وغداً تتأمل صورتها وهي تقرأ 'أكاذيب' شريط الأخبار، فتتشكك وتبحث وتصل إلى الحقيقة.
صورة ثانية... "أرض بلا شعب"!
في بداية جولتي في المعرض، رحت أبحث عن معلومات حول كل صورة؛ تاريخ التقاطها، وفي أي مكان داخل غزّة بالتحديد، ومَن هم هؤلاء الأشخاص الذين يضحكون لي وأنا لا أعرفهم؟ أريد حقاً معرفتهم!
بعد بضع صور، وجدتُني أكرر محاولات التعرف والتقرب من روح الصور، متجاهلةً المعلومات المباشرة. فضَّل منسق المعرض عدم الإفصاح عنها، وترك لنا فرصةً أكبر للتورط عاطفياً فيها.
هنا صورة أسرة تبدو كأنها تحتفل بعيد ميلاد، وهناك أخرى تحتفي بأول نزهة لها بالسيارة الجديدة. أما هذه البنت، فربما جاءت إلى إستوديو كيغام لتأخذ صورةً شخصيةً لها من أجل شهادةِ تخرّجِها من الجامعة، وتلك فتاة احتاجت إلى صورة لاستخراج جواز سفرها الأول أو لتوثيق زواجها.
تلك رحلة فنية وليست ورقةً بحثيةً أو قانونيةً. كيغام نفسه لم يكن يوماً مصوّراً صحافياً. تحولت أعماله إلى أرشيف غني يوثّق المدينة، وكان الحب دافعه الوحيد. تصاويره تجسد المحبة وارتباطاً جلياً بهذه الأرض وتفاصيل الحياة فيها دون تخطيط مسبق
كل صورة تغرقنا في تفاصيل حياة ممتلئة بالأحداث والخطط والأحلام. تُخبر الصور كم كانت غزّة مدينةً مفعمةً بالحياة، وكم كان أهلها مسالمين سعداء!
تلك رحلة فنية وليست ورقةً بحثيةً أو قانونيةً (حتى الآن). كيغام نفسه لم يكن يوماً مصوّراً صحافياً. تحولت أعماله إلى أرشيف غني يوثّق المدينة، وكان الحبُّ دافعه الوحيد. تصاويره تجسد المحبة وارتباطاً جلياً بهذه الأرض وتفاصيل الحياة فيها دون تخطيط مسبق.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 40 سنةً على رحيل جسده، يسدد الدَّين لغزّة التي تبنَّته طفلاً، بفنّه الباقي برغم كل محاولات المحو الصهيونية.
صورة ثالثة.. "هزمتْك يا موتُ الفنونُ جميعها"
فتيات يدرسن التصوير الزيتي في تلك الصورة، وبالقرب منهن صورة ثانية لأخريات يجلسن حول ماكينة خياطة، أو ربما تطريز، ويحملن أقمشةً، وثالثة يتعلمن فيها مهارات التمريض وغيرها.
تصورات عدة عن الفنون التي مارستها الغزّيات، بالإضافة إلى فنّ التصوير الفوتوغرافي الذي احترفه ودرّسه بطل قصتنا، كيغام.
قرأت تقريراً لزميلتنا الكاتبة وعد أبو زاهر، عن مصير أثواب الغزّيات بعد الحرب. حسب التقرير، دمّر الجيش الإسرائيلي أكثر من 50 مركزاً نسائياً للتطريز اليدوي ومئات من المشاريع الخاصة للمطرزات الفلسطينية. سياسة مقصودة وممنهجة لتهديد الهوية الجمعية الفلسطينية.
علمت خلال جولتي في المعرض أن المصور مروان الطرزي، آخر من أدار إستوديو كيغام في غزّة، قُتل وعائلته في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ربما بقتله فُقد أرشيف الإستوديو إلى الأبد، وربما بعد أربعين سنةً أخرى سيعثر أحدهم مصادفةً على صناديق حمراء جديدة خزّنها أو سرّبها مروان إلى مكان ما، وتتكرر نبوءة الكنز الذي سيظل يجدد ميلاده ويهدم في لحظة، بهدوء، أسطورةَ المحتل التي عاش يبنيها في عقود.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش أكد هذا المعنى من الخلود والنصر في معلّقته "جدارية" بقوله:
"هزمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها
هزمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرّافدين
مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارةِ معبدٍ
هزمتْك وانتصرتْ،
وأفلتَ من كمائنك الخلود!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...