منذ القدم، زرع الإيرانيون زهرة الزعفران، أو كما كانوا يسمّونها "الزربران" (بالفارسية: زَرْپَران، بمعنى ذات البتلات الذهبية)، في وسط إيران أي في مدينة أصفهان الحالية. يُعَدّ الإيرانيون والسومريون أول الشعوب التي قامت بزراعة زهرة الزعفران لخصائصها الطبية، وربما في ذلك الوقت، لم يتخيل هؤلاء الأشخاص أن مكانة هذا "التابل" سترتفع بعد آلاف السنوات، لكي يصبح هذا النبات البرّي أغلى أنواع التوابل وأكثرها خصائص وميزات في العالم.
وبعيداً عن تاريخ زراعة الزعفران في إيران، لا يزال هذا البلد يُعدّ أكبر منتج لهذا المحصول في العالم، إذ يُزرع فيه نحو تسعين في المئة من الزعفران المتوفر في العالم. ووفقاً لبحوث اقتصادية، فإن معيشة نحو ستة ملايين شخص حول العالم، منهم نسبة عالية جداً من سكان المحافظات الشرقية والوسطى في إيران، تعتمد على زراعة هذا النبات، الذي يُزرع منذ نحو ثلاثة آلاف سنة في هذه المناطق.
نبات الزعفران الهش والحساس يُزهر عادةً في شهرَي أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر، ويُقطف في الصباح الباكر، مباشرةً بعد تبخر الندى وقبل أن يتفتح ويُزهر كاملاً
يتم الحصول على الزعفران من ميسم زهرة الزعفران (اسمها العلمي: Crocus Sativus)، وهي زهرة رقيقة وحساسة تنمو في المناطق الجافّة أو شبه القاحلة مثل محافظة خراسان (شرق إيران وشمال شرقها). وبرغم أن زراعة الزعفران لا تحتاج إلى ريّ مستمر، إلا أنها مهمة حساسة وصعبة تتطلب ظروفاً مناخيةً خاصةً، ففي الصيف يجب أن يكون مناخها جافّاً وحارّاً، وفي الخريف بارداً ورطباً.
نبات الزعفران الهش والحساس يُزهر عادةً في شهرَي أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر، ويُقطف في الصباح الباكر، مباشرةً بعد تبخر الندى وقبل أن يتفتح ويُزهر بالكامل، لأنه إذا تفتّح بالكامل، لن يكون ذا جودة عالية ويفقد خصائصه. ولكن لماذا يحظى الزعفران، هذا "الذهب الأحمر" الذي يدلّ على الأصالة والثروة والجودة، بشعبية كبيرة بين الإيرانيين؟
الزعفران في الثقافة والأدب الفارسيَين
جاء في تاريخ الطبري أن العرب قبل الإسلام كانوا يعطّرون الثياب التي يغطّون بها أصنامهم في الكعبة بالزعفران الإيراني. في هذا الكتاب أيضاً يُذكر أن العرب استخدموا الزعفران في "تنعيم اللحية"، كما أن هناك العديد من الأدلة والآثار التاريخية التي تدلّ على أهمية هذه النبتة في الثقافة الإيرانية، ومنها يمكن ذكر نقوش زهرة الزعفران في الأواني والرسوم القديمة في إيران، كما يُعدّ هذا النبات في الثقافة الإيرانية رمزاً للرقي والنفاسة.
وقد جاء الكثير عن الزعفران وخصائصه في أشعار كبار الشعراء الإيرانيين، مثل الفردوسي، وجلال الدين الرومي، وصائب التبريزي، وعطار النيشابوري، وسعدي الشيرازي، وقوامي الرازي، ففي أشعارهم إشارات إلى رائحته ولونه وجماله، ويكون الزعفران أحياناً رمزاً لاصفرار وشحوب وجه العاشق، وأحياناً علامةً على الإثارة. كما أنه تارةً يرمز إلى السعادة وتارة أخرى يكون محل تقدير لكونه غالياً ونادراً.
استخدام الزعفران في الصباغة
استُخدم الزعفران في الصبغ والتلوين منذ آلاف السنين، ويمكن القول إن اللون الأصفر الذهبي البرتقالي لهذا النبات لا يشبه أي لون آخر، وكذلك التوابل المحضرة منه. ومن الصعب استخلاص مثل هذا اللون من مواد طبيعية أخرى. يعود تاريخ صباغة الألياف في إيران إلى آلاف السنين، حيث كانت الأصباغ الطبيعية وأحياناً الحيوانية تُستخدم لصبغ الألياف، وبين هذه الأصباغ الطبيعية، كان للزعفران مكانة خاصة، حتى أن استخدامه في الصباغة وصل إلى أوروبا في القرن الثامن الميلادي.
في عصرنا الحالي، وعلى الرغم من أن استخدام الأصباغ الكيميائية والصناعية شائع جداً في المصانع، إلا أن فن الصباغة بالزعفران لا يزال موجوداً ومحدوداً في إيران. فقد استخدم الإيرانيون في سابق الزمن الكثيرَ من الزعفران لصبغ الحرير والمنسوجات الثمينة التي كانت تُستخدم في ملابس كبار رجال البلاط والشخصيات الدينية المهمة. ويُذكر في المخطوطات التاريخية اليونانية القديمة أن لون الزعفران هو اللون الملكي.
الجزء الرئيسي من نبات الزعفران، والذي يُستخدم لصبغ القماش، هو وصمة النبات، إذ تتسبب التركيبات الموجودة في ميسم الزعفران في الحصول على مجموعة من الألوان المتدرجة من الأصفر إلى البرتقالي، وحالياً يُستخدم الزعفران في صبغ الأقمشة باهظة الثمن مثل الحرير. ومن المثير للاهتمام، أن هذا النبات له خصائص مطهّرة ومضادة للعفن، فهو يحمي النسيج من العوامل المدمّرة، كما يُعدّ استخدام بتلات زهرة الزعفران الأرجوانية، أمراً شائعاً في صباغة الأقمشة، واللون الذي يتم الحصول عليه من هذه البتلات، هو اللون الأرجواني المحمّر.
الزعفران في الطب التقليدي ومستحضرات التجميل
تتمتع المُركبات الكيميائية الموجودة في الزعفران بخصائص طبية فريدة من نوعها، فهو مضاد للاكتئاب ومهدّئ طبيعي، وتأثيراته المبهرة على صحة الجهاز الهضمي والقلب كثيرة، كما أن للزعفران مكانة مميزة في الطب التقليدي الإيراني، ولذلك يصف العديد من أطباء الطب التقليدي الزعفران، لعلاج الربو وتشنجات العضلات وفقر الدم وقصور القلب، ولتخفيف القلق.
ويُستخدم هذا النبات في الطب التقليدي لتحضير المراهم وعلاج الجروح وأنواع مختلفة من الالتهابات الجلدية، كما تُعدّ منه عصائر ومشروبات كثيرة، نظراً إلى خصائصه العالية، فهو مضاد للأكسدة والبكتيريا والسرطان، فضلاً عن رائحته وطعمه الفريدين. وقد أشار العالم والفيلسوف الإيراني ابن سينا، في كتابه الطبي "القانون"، إلى الخصائص العلاجية التي لا تُعدّ ولا تُحصى لهذا النبات، وأوصى به لعلاج الأرق والاكتئاب وتعب العين وآلام الدورة الشهرية ومشكلات المعدة والكبد والجهاز الهضمي.
جاء الكثير عن الزعفران وخصائصه في أشعار كبار شعراء الإيرانيين، ففي أشعارهم إشارات إلى رائحته ولونه وجماله، ويكون الزعفران أحياناً رمزاً لشحوب وجه العاشق
ميزة الزعفران المضادة للالتهابات، جعلته واحداً من أهم مكونات مستحضرات التجميل، خاصةً للبشرة الملتهبة والحساسة، ومن الممكن أنه استُخدم تقريباً في جميع منتجات البشرة الموصى بها لعلاج حب الشباب والأكزيما والجلد الجاف والتجاعيد والبقع الجلدية. بجانب ذلك يُستخدم هذا النبات في جميع أنواع أقنعة البشرة نظراً إلى خصائصه في التفتيح والتنقية.
وتشير النقوش المتبقية في بلاد ما بين النهرين وإيران ومصر القديمة، إلى استخدام الزعفران كمرهم لتجميل لون البشرة، إذ يقال إن كليوباترا كانت تستحمّ بالحليب والزعفران لتجعل بشرتها أكثر جمالاً ونعومةً، كما أن نساء البلاط الأخميني (330-550 قبل الميلاد)، استخدمن مزيج الحليب والزعفران والعسل لتنعيم بشراتهنّ.
الزعفران ملك توابل المطبخ الإيراني
وبالنظر إلى خصائص هذا النبات السحري، فليس من الغريب أن يحظى التابل المستخرَج منه بمعجبين كثر بين الإيرانيين الذين افتتنوا بلون الزعفران ورائحته منذ العصور القديمة، ومن الطبيعي أن يكون الزعفران، هذا التابل الثمين والملون والعبِق واللذيذ، هو الرائد في جميع أنواع الأطباق الإيرانية، لأنه يتمتع بخصائص كثيرة، تزيد من لذة الأطعمة الإيرانية التقليدية.
كما يُستخدم الزعفران في صناعة الحلويات اللذيذة، فهناك العديد من أنواع الحلويات والآيس كريم والكعك والبسكويت، التي يتم دمج الزعفران بموادها الأخرى، لصنع حلويات تناسب أذواق الإيرانيين المحبّين لهذا النبات العريق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...