شدّة الحرارة والرطوبة في الأهواز جنوب غربي إيران، المصنّفة ضمن أعلى المناطق حرارةً عالمياً، جعلت موسم جني التمور يبدأ هذا العام قبل موعده المعتاد في كلّ عام، فباشر الفلاحون بجني التمور، ويقدَّر أن يتخطى إجمالي الإنتاج 230 ألف طن.
تبلغ مساحة واحات النخيل في الأهواز حيث الأرض الخصبة بأنهارها وأهوارها، 40 ألف هكتار، ما يعني وجود 6 ملايين نخلة، متجاوزة بذلك إجمالي نخيل 6 دول عربية، هي الكويت والبحرين وقطر والأردن وفلسطين وموريتانيا.
وتشتهر مدن كالمُحمّرَة وعَبّادَان والفَلاحيّة ومَعشور وكوت عبدالله، بأنها أكثر مناطق المحافظة إنتاجاً للتمور، إذ تربط الإنسان الأهوازي علاقة حميمة مع شجر النخيل وثماره، فالتمور هنا غذاء وفاكهة مقدسة، وتُقدّم للضيوف مصحوبةً بالقهوة والشاي.
2000 سنة من تصدير التمور
ويُعتبر شهرا آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر فرصة كبيرة لالتقاء الناس من شتى مدن الأهواز في أسواق التمور، حيث تشهد حركة تجارية نشطة ومزدهرة محلياً، يعمل فيها نحو 40 ألف شخص، ويحدث ذلك مرةً واحدة في كلّ عام.
وتصدر الأهواز نحو 90 ألف طن من منتوجها السنوي إلى دول آسيوية وأوروبية وخليجية تتقدمها سنغافورة وتركيا وروسيا وأستراليا وكندا، وتحتل بذلك المرتبة الأولى في تصدير تمور إيران.
تصل مساحة واحات النخيل في الأهواز إلى 40 ألف هكتار، ما يعني وجود 6 ملايين نخلة، متجاوزةً بذلك إجمالي نخيل 6 دول عربية، هي الكويت والبحرين وقطر والأردن وفلسطين وموريتانيا
ولم يكن هذا التصدير وليد الساعة، بل يحدثنا التاريخ أن الأهواز من المناطق الأوائل عالمياً في إنتاج التمور، وذلك خلال ألفي سنة الماضية، إذ يذكر كتاب "مملكة ميسان والأهواز أم الأحواز؟" للباحث عبد النبي القيّم، أن التمور كانت من أهم البضائع المحلية التي كانت تصدَّر في حقبة المملكة الميسانيّة، والتي حكمت في الأهواز المحاذية للعراق والمطلة على الخليج خلال 4 قرون من 143 قبل الميلاد حتى 224 م.
ويدلنا هذا على وجود بساتين واسعة للنخيل، والعلاقة الوثيقة التي ربطت الإنسان الأهوازي بالنخلة، تلك الشجرة العريقة التي تخطى وجودها على هذه الأرض آلافَ السنين، فلم ينس المؤرخون والرحّالة الإشارةَ إلى ذلك في كتبهم عبر زياراتهم لهذا الإقليم العربي في إيران.
وبعد كل أزمة كالكوارث الطبيعية والتغييرات المناخية والحروب عبر الأزمنة المتعددة، يحرص سكان الأهواز على زراعة النخيل في أراضيهم من جديد، تلك الشجرة الصامدة والصابرة والمقاومة أمام أحداث الزمن وتقلباته، وهي الرفيقة الملهمة في السراء والضراء بالنسبة لهم.
وسجل فنانو الصابئة وهم ضمن أقدم سكان الأهواز، اهتمام أبناء جلدتهم بهذه الشجرة، عبر نقش النخلة على مجوهرات الذهب والفضة، فصياغة المجوهرات هي مهنتهم الرئيسية عبر 3 آلاف سنة، حتى شكلّ رسم النخلة ميزة منفردة لصياغتهم إزاء الآخرين.
الفترة الكعبية وانتعاش بساتين النخيل
ومن ضمن الأحداث التي أثّرت في تنمية زراعة النخيل خلال القرون الأخيرة، اهتمامُ الحاكم المحلي الشيخ سلمان بن سلطان الكعبي (1737-1768)، بتشجيع الناس على الزراعة وبناء سد السابلة، وحفر الأنهر في الفلاحية والتي جاءت نتائجها في تصدير التمور عبر السفن البريطانية الهندية التي ترسو في مينائي البصرة والمحمرة.
كما قام الشيخ مزعل بن جابر الكعبي (1881–1897)، بخطوة مهمة إذ أعفى المزارعين من الضرائب لفترة 15 سنة بغية تنشيط الأراضي الزراعية وغرس النخيل في عبادان، حسب كتاب "خمسمائة عام من تاريخ خوزستان".
واستمر الاهتمام بتجارة التمور في حقبة الشيخ خزعل بن جابر الكعبي (1897–1925)، إذ كان يتعاقد الشيخ الذي كان يستولي على معظم الأراضي، مع الفلاحين الذين يطلق عليهم "التّعَاب" بغيةَ فلاحة الأرض، كما نمت الصادرات إلى الدول الأوروبية.
أنواع التمور الأهوازية
وتنتج الأهواز 80 صنفاً من أصناف التمور، متفوقة بذلك على أصناف تمور جمهورية مصر التي تحتل المركز الأول في الإنتاج عالمياً. وأبرز أنواع التمور في الأهواز: الگِنطِار، والبِرحي، وسعمران، والبْرَيم، والزاهدي، والدِيري، وبنت السَبِع، والسويداني، والبلياني، والحمراوي، والهدَل، والحلاوي، والأشْگَر، ولِيلُويي، وذلك حسبما جاء في "الأطلس المصور لأنواع تمور الأهواز"، الذي أصدرته وزارة الجهاد الزراعي.
"كان الفلاح يحرص في بستانه، على غرس كل أنواع النخيل، ولكن التجار البريطانيين وخلال حكم الشيخ خزعل وما بعده، ضمنوا شراء نوعين من التمور وحسب وهما إستعمران وحلاوي، وهذا ما أثر على زيادة إنتاج هذين الصنفين"؛ هكذا يشرح لنا الباحث في مؤسسة تمور الأهواز، عزيز تُراهي، سبب كثرة نخلة الإستعمران في المنطقة.
وعكف الباحثان الأمريكيان نيكسون وداوسون خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على معرفة النخيل في الشرق الأوسط، وعند وصولهما إلى إقليم الأهواز، قاموا بجمع الأصناف المتعددة من النخيل وغرسها في موقع زراعي، بغية الأبحاث، ما أطلق عليه في ما بعد "مركز الأبحاث الزراعية"، وهو موجود إلى اليوم. كما نقلا فصائل نخيل البرحي والحلاوي والخضراوي والزاهدي من الأهواز وزرعاها في ولايتي كاليفورنيا وأريزونا، حسب قول عزيز.
واقترحا الباحثان على الدولة البهلوية أن يتم غرس النخيل على جانبي نهر كارون (أکبر الأنهار في إيران)، بعمق كيلومترين في كل جانب وعلى تمتداد النهر في مدينة الأهواز حتى مدينة عبادان، لتشكل واحات تتسع لـ56 ألف هكتار تتضمن 10 ملايين نخلة، وبينما المقترح بقي حبراً على ورق، كما يحدثنا عزيز.
باتت زراعة التمور دون مردود اقتصادي بالنسبة للكثير من المزارعين في الأهواز الذين قرروا ترك مهنتهم التراثية لصالح العمالة
ويذكر كتاب "موسوعة اللهجة الأهوازية" للباحث عبد الأمير حسوني زاده الشويكي وجودَ عشرات المفردات المتعلقة بالنخلة وثمارها، منها: "النَّخَل إمْدَلِّي" أي متَهدِّل الأغصان والثمار، "النَّخل مْصُوبِط" أي عذوقه ممتدة على الأغصان، "مْعَسَّل"، وهو خليط من التمر والدِّبس والسمسم وبعض التوابل، "چِرْداغ" وهو مكان صناعة وتعليب التمور، "البَلْ" وهو الحصير المنسوج من خوص النخيل.
كما تتربع النخلة وتمورها على مكانة مرموقة في الأدب الأهوازي، وهي من أبرز الرموز المحلية التي لا يتغافل عنها الأدباء في نتاجهم الأدبي، فيتغنى بها الشعراء في الحديث عن العشق والمثابرة والجهد والاستقامة والتسامح والعطاء والكرم، ويتحدث عنها اليوم كثيرٌ منهم بحسرة من فقد حبيبته أو أمه.
كل المؤشرات الراهنة تؤكد تراجع المحاصيل، فباتت الزراعة دون مردود اقتصادي بالنسبة للكثير من المزارعين الذين قرروا ترك مهنتهم التراثية لصالح العمالة، ولم يعد هناك أمل في التأمينات الحكومية، ولكن يبدو أن السكان ورغم كل ما تمّ ذكره ما زالوا يقاومون كالنخلة، فهم يعرفون أن الأرض شهدت الكثير من التحولات الطبيعية وغير الطبيعية عبر القرون المديدة، ولكنها صمدت واستمرت وأنتجت وصدّرت فاكهتها المقدسة.
تقهقر النخيل من 7 ملايين إلى 6
ورغم النعم التي تتمتع بها الأهواز من تربة جيدة ومياه عذبة وفلاحين مثابرين، إلا أن عدد النخيل تقلص إلى 6 ملايين، فيقول تُراهي لنا: "المشكلة بدأت عندما قررت الحكومات في نهاية التسعينيات وبداية القرن الجاري بناء السدود ونقل المياه نحو الهضبة الإيرانية".
وكانت هذه بدايةَ المعاناة، إذ تسببت بالعطش وتملّح التربة وموت ملايين النخيل، بل ويتوقع الباحث المزيد من فقدان واحات النخيل الخضراء الجميلة في الأهواز ومحاصيلها، إثر عدم إنصات المعنيين لدراسات وأبحاث مؤسسة التمور التي كانت تنذر بالأحداث الجارية اليوم.
ويؤمن الكثير من سكان الأهواز أن السياسات المائية الحكومية، جاءت لإعمار المصانع في المحافظات الصحراوية الإيرانية على حساب ثروات محافظتهم، فما للجفاف والعطش الحاصل في الاستهلاك الزراعي والمنزلي إلا سياسات تعمدية.
لم تكن مؤسسة التمور وحدها من نددت بسياسات وزارة الطاقة، بل دقّ ناقوس الخطر عشراتُ الناشطين المحليين والأكاديمين والأهالي منذ سنوات كي ينقذوا هذه الثروة التاريخية والاجتماعية المهددة بالاندثار الكامل عبر المطالبة بسياساتٍ تنموية تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في عودة المياه إلى مجاريها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين