لم يكن الفنان محمد النيساني يعلم بأن عودته من إحياء أحد الأفراح في محافظته ستكون إلى السجن، ولم يكن يعلم بأن مهنته كفنان ستصبح "محرمة" و"تمنع ممارستها".
ففي 19 من حزيران/يونيو الماضي، ولدى عودته من إحياء أحد الأعراس في مدينة كوكبان المجاورة لمحافظة عمران الخاضعة لسلطة جماعة الحوثيين شمالي البلاد، أوقفت نقطة أمنية تابعة للجماعة الفنان واعتقلته بتهمة "ممارسة الغناء". يقول النيساني في حديثه لـ"رصيف22": "كنت عائداً إلى بيتي في محافظة عمران، بعد إحيائي لعرس في مدينة كوكبان المجاورة للمحافظة، أوقفتني نقطة أمنية تابعة لإدارة أمن عمران، وعندما سألتهم عن سبب إيقافي قالوا "لأنك فنان"، ثم اقتادوني أنا وثلاثة من زملائي الإيقاعيين الذين يعملون معي إلى سجن إدارة الأمن".
سُجن النيساني وزملاؤه الإيقاعيون لخمسة أيام في سجن إدارة الأمن، ثم أُطلق سراحهم بالضمانة، بعد أن أُجبروا على الالتزام والتعهد بعدم الغناء في الأعراس ومصادرة أدواتهم الموسيقية. إذ يقول النيساني: "احتجزونا لخمسة أيام وبعد متابعة من أهالينا اشترطوا أن نلتزم خطياً بعدم العودة للغناء في الأعراس نهائياً، وصادروا العود الخاص بي والأورج وبقية أدوات الإيقاعيين".
يقول النيساني إنه لم يتوقع منع الغناء واعتقد ما تعرضوا له بأنه قد يكون تصرفاً فردياً، لذا حاول مع زملائه مناشدة المحافظ والمسؤولين في المحافظة والاجتماع بهم، وأخبروهم أن عملهم في الغناء في الأعراس هو مصدر رزقهم الوحيد وناشدوهم بعدم قطع أرزاقهم وأرزاق أسرهم. إلا أنه وبحسب النيساني كان الرد بأن هذا المنع رسمي ولا نقاش فيه. فاتجه إلى محافظة صنعاء لمواصلة عمله في الغناء هناك، حيث مازال الأمر مسموحاً في العاصمة.
منع الغناء وحملات اعتقال
النيساني لم يكن هو الوحيد الذي تم اعتقاله، إذ يشن الحوثيون منذ شهرين حملات اعتقال استهدفت عشرات الفنانين والمغنيين الشعبيين في محافظة عمران، بعد تعميمات بحظر الغناء في الأعراس بحجة "تحريم الغناء". في حديثه لرصيف22، يقول المغني الشعبي بلال العامري بأنه في 18 من حزيران/يونيو الماضي، "ثالث أيام عيد الأضحى وأثناء إحيائي لأحد الأعراس في مدينة عمران تفاجأت باقتحام مسلحين لخيمة العرس. أوقفونا عن الغناء واقتادوني أنا ومهندس الصوت مع أدواتنا الموسيقية إلى أطقمهم العسكرية المنتظرة خارج الخيمة، وأخذونا إلى السجن الذي قضينا فيه أربعة أيام ثم أطلقوا سراحنا بالضمان بعد أن صادروا أدواتنا وألزمونا بكتابة تعهد بعدم الغناء في المحافظة".
لم يكن الفنان محمد النيساني يعلم بأن عودته من إحياء أحد الأفراح في محافظته ستكون إلى السجن، حيث أودع وزملاؤه الإيقاعيون لخمسة أيام في سجن إدارة الأمن، ثم أُطلق سراحهم بالضمانة، بعد أن أُجبروا على الالتزام والتعهد بعدم الغناء في الأعراس ومصادرة أدواتهم الموسيقية
يُضيف العامري: "بعد استكتابنا للتعهد والالتزام بدفع غرامة في حال عاودنا الغناء، هددونا بأننا في حال مخالفتنا لقراراتهم بأنهم سيحولوننا إلى السجن المركزي. قلت لهم ما الذي اقترفناه؟ والله لو أننا قتلة ما تتعاملوا معنا هكذا".
العامري يُشير بأنها لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها للاعتقال، فقد تم اعتقاله مرتين بسبب غنائه في الأعراس وفي المرة الثالثة نجا من الاعتقال بعد فراره من إحدى النقاط التي أوقفته، لكن الأطقم الأمنية لاحقته وحاصرت منزله ليتدخل أعيان القرية الذين أقنعوا الأطقم الأمنية بالعودة مقابل التزام العامري بعدم الغناء في أعراس المدينة.
اعتقال المغنيات وتهديدهن
المغنيات النساء أيضاً طالتهن حملات الاعتقال الحوثية، حيث داهمت عناصر مسلحة تابعة للجماعة مع عناصر نسائية "الزينبيات" إحدى قاعات الأعراس في محافظة عمران واقتادوا ثلاث فنانات شعبيات إلى السجن المركزي "سجن سحب". يقول شقيق إحدى المُغنيات -فضل عدم ذكر اسمه- والذي كان شاهداً على عملية الاعتقال: "في 24 من حزيران/يونيو الماضي، بعد مدة بسيطة من وصولنا للقاعة تفاجأنا بأطقم عسكرية وعناصر مسلحة ملثمة على دراجات نارية وصلت إلى أمام القاعة مع مجموعة من "الزينبيات" وهي عناصر شرطة نسائية تابعة للحوثيين تعرف بهذا الاسم.
داهمت عناصر مسلحة تابعة للجماعة إحدى قاعات الأعراس في محافظة عمران برفقة "الزينبيات"، حيث اقتادوا ثلاث فنانات شعبيات إلى السجن المركزي، و"الزينبيات" هن عناصر شرطة نسائية تابعة للحوثيين.
داهمت الزينبيات قاعة الأفراح وأخرجن المغنيات الثلاث. وعندما حاولت التدخل والسؤال عن السبب، اعتقلوني معهن، وقاموا بمصادرة هواتفهن وتفتيش السيارة التي وصلن بها إلى القاعة، ومن ثم أحالوهن إلى السجن المركزي (سجن سحب) وأنا حبسوني في المجلس المحلي بالمحافظة".
يضيف شقيق الفتاة بأنهم "أطلقوا سراح الفنانات بعد يومين من اعتقالهن وبعد أن استكتبوهن التزامات بعدم الغناء مرة أخرى في المحافظة، وأنا أبقوا عليّ في السجن لخمسة أيام ثم أطلقوا سراحي بالضمان بعد أن التزمت أنا أيضاً".
يختم شقيق الفتاة حديثه لرصيف22 بقوله: "تعاملت الزينبيات مع النساء بوقاحة وكأنهن ارتكبن جرائم، ولم يحترموهن كنساء، ولم يحترموا حرمة المرأة في المجتمع اليمني".
استبدال الغناء بالزوامل الحربية
حملات الاعتقال لم تقتصر على الفنانين والمغنيين الشعبيين فقط، بل شملت متعهدي الأعراس ومؤجري أجهزة الصوتيات الذين يؤجرون الأجهزة والأدوات للمغنيين، بالإضافة إلى مُلاك صالات الأفراح بالمحافظة. أحد متعهدي الأعراس، والذي فضّل عدم ذكر اسمه، يؤكد لرصيف22 وصول تعميمات لهم بحظر تأجير أي أدوات للمغنيين أو التعامل معهم، أو الغناء في أي عرس. "وصلتنا تعميمات من أمن المحافظة بمنع الغناء في الأعراس ومنعنا من تأجير الأدوات للمغنيين أو التعامل معهم، واستبدال الأغاني بالزوامل في الحفلات التي نحييها".
ويشير إلى أن أعمالهم شبه متوقفة منذ صدور هذه التعميمات، كونهم تعودوا على التعامل مع الفنانين والمغنيين الذين يستأجرون أدواتهم وأجهزتهم الصوتية ويشغلون معهم مساعدين من الإيقاعيين في إحياء الأعراس. "بمنع الغناء واستبداله بالزوامل، فإن عمل الفنانين سيتوقف وبالتالي عملنا سيتوقف أيضاً"، مضيفاً بأن ما يُمارس ضدهم يعتبر "قطع أرزاق عشرات الأسر التي تعمل في هذه المهنة ولا تتقن غيرها".
في هذا السياق، يقول العامري بأنه منذ خروجه من السجن وهو متوقف عن العمل ولا يجد حتى قوت يومه، فالغناء كان يمثل له مصدر رزقه الوحيد. "منذ خروجي من السجن وأنا راقد في البيت، ولا نملك حتى قيمة كيس الطحين".
يقول العامري بأن استبدال الأغاني بالزوامل الحربية في الأعراس أوقف عملهم بشكل كلي، فحضورهم لأي عرس يشترط أداؤهم للزوامل بدلاً من الأغاني الشعبية والتراثية التي تعودوا على أدائها. "نحن فنانون نغني أغانينا اليمنية التي تعودنا عليها في أعراسنا". وعن تحريمهم للغناء يقول العامري مستغرباً: "ما يفعلونه بحقنا لم تفعله أي جماعة دينية من قبل، وتحريمهم للغناء لا أعلم على أي أساس ديني، حتى الرسول لم يمنع الغناء ولم يفعل ما يفعلونه هؤلاء".
سياسة ممنهجة في منع الغناء وقمع الفنانين
منذ سنوات وجماعة الحوثيين تنتهج سياسة رسمية وممنهجة في منع الغناء وإلغائه من الأعراس محافظة تلو الأخرى. فبعد أن تم حظر الغناء نهائياً في محافظة صعدة "معقل الحوثيين" ومنعه أيضاً في محافظة حجة، تعمل الجماعة من خلال هذه الاعتقالات على منعه نهائياً في محافظة عمران واستبداله بالزوامل الحربية كما حدث في صعدة وحجة. حملات الاعتقال هذه أثارت جدلاً وسخطاً لدى اليمنيين، وكانت هناك حملات تضامن من فناني المحافظات الأخرى وناشطين تحت هاشتاج #حبسوهم_ليش.
وفي منشور له على فيسبوك، يقول رشاد عماد: "أخبروا الجهلة والعقليات الرجعية المتخلفة بأن التراث والفن اليمني موجود منذ الأزل، جزء من تاريخنا وثقافتنا، فلا تسول لهم أنفسهم انتزاع كل جميل في هذا الشعب واستبداله بضجيج وعواء مرافق له موسيقى حماسية صاخبة
مزعجة محرضة للعقل البشري ومقرفة ومحاولة فرضه على المجتمع في مناسباته الرسمية والاجتماعية من أعراس واحتفالات تخرج. #حبسوهم_ليش".
من جانب آخر، أثارت هذه الحملات مخاوف بقية الفنانين في المحافظات الأخرى، منها العاصمة صنعاء والتي شهدت خلال السنوات السابقة حوادث اقتحام لبعض قاعات الأفراح ومحاولات لمنع الغناء فيها. بالإضافة إلى انتشار خطاب ديني تحريضي من قبل شخصيات تابعة للجماعة تحرم في خطبها الغناء وتحرض على الفنانين، أبرزهم مفتي الديار التابع للجماعة، والذي انتشر له مقطع من خطبة يقول فيها: "نقول للناس اكتفوا بما شرع الله لكم في مناسباتكم، ولا تُدخلوا المُغنيين والمُغنيات، لا تستأجروا المُغنيين والمُغنيات"، مُستشهداً "كما قال النبي بأن كسب المغني سُحته وحقٌ على الله أن لا يُدخل الجنة لحماً نبت من السُحت، بئس التجارة الغناء وبئست المهنة هذه".
بعد أن تم حظر الغناء نهائياً في محافظة صعدة "معقل الحوثيين" ومنعه أيضاً في محافظة حجة، تعمل الجماعة من خلال هذه الاعتقالات على منعه نهائياً في محافظة عمران كاملةً، واستبداله بالزوامل الحربية خلال الأعراس، مما أثر موجة من الاعتراضات في عموم اليمن
في هذا السياق، يرى الكاتب الصحفي جمال حسن بأن توجه الحوثيين لمنع الغناء توجه واضح منذ البداية، إذ يقول في حديثه لرصيف22: "هذا واضح بأنه توجه بدأوه في مدينة صعدة بعد سيطرتهم عليها، ثم حجة والآن عمران، ومافيش شك أنه بينتقلوا للمدن الأخرى زي صنعاء وغيرها". مشيراً إلى أنهم قد يواجهون صعوبة أكثر في صنعاء "بسبب ما ستثيره تلك التوجهات من ردود فعل على مستوى الفضاء العام. لكن احتمال كبير، إن لم يكن شيئاً مؤكداً، أننا سنرى جولة أخرى تستهدف قمع الموسيقى وحظر نشاطها في مدن أخرى، بما في ذلك صنعاء".
ويعتبر جمال استبدال الأغاني بالزوامل الحربية الخاصة بالجماعة بأنه "تكريس لنوع معين من الغناء المرتبط بالزامل والذي يعبر عن ثقافة اجتماعية محصورة بالقبيلة أولاً، أقصد بموروثها الواسع، ثم الأكثر من ذلك حصرها بنوع من الزامل أصبح يُنتج لأغراض التحشيد وما إلى ذلك. وليس الزامل التقليدي المعروف بمفهومه الاجتماعي كغناء للقبائل في اليمن".
ويرى جمال بأن منع هذا التراث الغنائي واستبداله بالزوامل سيؤثر على هذا التراث حيث يقول في ختام حديثه لرصيف22: "بكل تأكيد أن هذه الممارسات ستؤثر بشكل عميق على هذه الموروثات الغنائية، وحظر النشاط سيلغي الفرص التي يوفرها هذا الغناء للشباب، وستقل فرص ممارساته بصورة تحول دون تطور الشباب بسبب تراجع ممارساته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...