قبل نشوب الحرب المستعرة، اعتاد المهندس المعماري أحمد هاني من شمال قطاع غزة على الخروج يومياً من منزله عند الساعة السابعة والنصف صباحاً، قاصداً المكتب الذي كان يعمل فيه رفقة عدد من زملائه.
كان يعيش الشاب الثلاثيني حياته بين المخططات الهندسية والقرطاسية وزملائه من أبناء المهنة. يقضي يومياً أكثر من 10 ساعات في المكتب. يحب مهنته ويعتبر الضغط العملي حافزاً للإنجاز والإبداع، بحسب تعبيره.
أما اليوم، ومع دخول حرب الإبادة على غزة شهرها العاشر، وتوقُّف العمل في معظم المجالات المهنية في القطاع، خسر أحمد عمله وبات مزارعاً.
راكم المهندس خبرة عمرها 6 سنوات. ثم توقفت فجأة عملية التراكم والتعلم والبناء، ليجد نفسه في مجال مختلف كلياً، يحاول أن يوفر المال الزهيد ليسد به رمق أسرته المكونة من خمسة أفراد.
لم يكن أمام أحمد وغيره من الموظفين والعاملين في القطاعات المهنية المختلفة سوى بعض مهن الحرب القليلة: بائع على بسطة، بائع متجول، سائق عربة، أو مزارع.
في البداية كنت أخجل من نظرات الناس الذين يعرفونني كمدرس. شعرت أن البعض ينظر إليّ بعين الشفقة
وقد لا يجد المرء مهنة جديدة فيظل جليساً في بيته أو خيمته تحت نيران الحرب. فقد زادت الحرب الإسرائيلية على غزة، منذ 7 تشرين أول/أكتوبر الماضي، من معدلات البطالة في القطاع، حيث وصلت إلى حوالي 80٪. وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 83.5%، بحسب منظمة العمل الدولية.
هي نسب مرتفعة تدلل على حجم الخسارة التي لحقت بالقطاعات المهنية والسوق والحياة المدنية في قطاع غزة. فقد خسر آلاف الموظفين وظائفهم بعد أن تعمد الجيش الإسرائيلي تدمير البنى التحتية والمباني الخدماتية والأبراج وغيرها من المقدرات التي كانت توفر فرص العمل للسكان.
وجاء اليوم الأسود
"قتلت الحرب الحلمَ وأخذت معها خبرة السنين والأناقة والوضع الاجتماعي. وجاءت لنا بالخوف والتعب والإرهاق وبالروتين اليومي القاتل للنفس"، يقول أحمد لرصيف22.
ويتذكر بحرقة تفاصيل حياته المهنية قبل الحرب، قائلاً: "هو خط متكرر بين العمل المكتبي والميداني. أهندم نفسي قبل الخروج، وتختار زوجتي لمى معي ملابس أنيقة نحرص على تناسقها وألوانها، ثم أتنقل بين الناس الذين اعتادوا على مناداتي 'الباش مهندس'".
ويردف: "شكل اليوم، التفاصيل، الملابس، كل شيء تغير. ما يحتاجه العمل في الزراعة مختلف تماماً عن احتياجات عملي السابق في الهندسة".
كلما أتذكر كيف كان شكل حياتي وطموحي قبل الحرب وكيف هو الآن، أشعر بغصة كبيرة
درس أحمد الهندسة لمدة 5 سنوات في جامعة محلية في قطاع غزة، قبل أن يتدرب في مكتب هندسي لمدة عامين ويلتحق به كموظف.
"تتويجاً لهذه الجهود الطويلة، كنت على أعتاب افتتاح مكتبي الخاص، لولا أن الحرب لم تنشب"، يؤكد أحمد.
قبل 4 أشهر تقريباً، نفد كل ما ادّخره أحمد من مال "لليوم الأسود". "اضطررت للبحث عن فرصة عمل، فانحصرت الخيارات بين بائع متجول أو سائق سيارة مياه أو مساعد فني لتصليح الدراجات الهوائية أو مزارع. فاخترت الأخيرة كونها تبعدني عن عيون الناس والمارة الذين يعرفون مهنتي القديمة"، يقول.
"أقدر جميع المهن وأعتبرها أصيلة ومكملة لبعضها بعضاً. لكن تعزّ عليّ نفسي كثيراً، حين أتذكر حياتي السابقة وكيف قضت الحرب عليها"، يضيف أحمد شارحاً.
من محاضر جامعي إلى بائع مثلجات
يعيش حسن أبو عودة (29 عاماً)، من بلدة بيت حانون شمالي قطاع غزة، تجربة مشابهة. فقد حصل قبل الحرب بثلاث سنوات على شهادة الماجستير في علم النفس. وعمل محاضراً في بعض الكليات الجامعية في القطاع، إضافةً إلى عمله كمرشد نفسي في عدد من المؤسسات المحلية.
"ما حصل في هذه الحرب يفوق الخيال. من المفترض أن أجهز نفسي في هذه اللحظة لدراسة الدكتوراه والتفرغ من أجل العمل الجامعي والتدريس الأكاديمي بشكل كامل"، يقول حسن لرصيف22.
مشيراً إلى أن الحرب جاءت لتنسف معها تعب السنين، "فحولتني من خبير بالإرشاد النفسي إلى بائع مثلجات على أحد البسطات في شوارع مخيم جباليا".
"كلما أتذكر كيف كان شكل حياتي وطموحي قبل الحرب وكيف هو الآن، أشعر بغصة كبيرة"، يضيف حسن.
ويردف: "يتلخص جلّ همي حالياً في أن أحصل على ربح زهيد في نهاية اليوم، حتى أوفر بعض الطعام لأولادي وبناتي وزوجتي المرضعة التي وضعت طفلنا الثالث قبل أيام".
يتخيل حسن أنه لو كان على علم مسبق بهذه الحرب وبما ستخلفه من آثار، لما تجرأ على إنجاب طفل وسط الدمار، موضحاً أنه يعيش حياة النزوح رفقة عائلته منذ بداية الحرب، وأن التشرد والتنقل من مكان لآخر يقتل النفس والأمل.
"حياتي قبل الحرب كانت منظمة وراقية، هكذا أحب أن أصفها. دخلي كان ممتازاً وكان يتيح لي أن ألبي حاجات عائلتي. اليوم خسرت الرقي والدخل والاستقرار وكل شيء جميل".
الخجل من نظرات الناس
لمدة اثني عشر عاماً عمل محمد اشتيوي (36 عاماً) مدرساً للغة الإنكليزية في المدارس الحكومية في مدينة غزة. لكن الحرب قلبت الأرض وما عليها، وحوّلته إلى بائع مكسرات على بسطة.
دمّرت إسرائيل في بداية الحرب منزل عائلة اشتيوي في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، فنزحت العائلة إلى قلب المدينة. لكن القصف لاحقهم في آذار/مارس الماضي، فأصيب عدد من أفراد أسرته.
"يعرفني سكان منطقة الزيتون كمدرس مجتهد ومنظم في عملي. وقد وجدت أنا فيه عملاً ممتعاً وسهلاً. أفضل الحصص الصباحية لأكون في قمة نشاطي وتفاعلي مع الطلاب"، يقول محمد لرصيف22.
ويردف: "كنت دائماً حريصاً على تطوير نفسي ومعلوماتي من خلال مصادر توفر الجديد حول أدوات التعليم وتطبيقها مع الطلاب"، إلى أن جاءت الحرب وتوقفت العملية التعليمية برمتها في القطاع، ومعها توقف صرف الرواتب، وباتت عائلة محمد، المكونة من ستة أفراد، لا تجد شيئاً تأكله.
عانت عائلة اشتيوي كغيرها من عائلات شمال القطاع، من حرب التجويع التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي. عن ذلك يقول: "لم أحتمل رؤية أسرتي في هذا الوضع، فقررت فعل أي شيء كي لا يموت أبنائي من الجوع".
افتتح محمد بسطة في أحد الشوارع، يبيع فيها المكسرات والقهوة، بعد أن استدان رأس مال وأمن بضاعتها.
يعيش حلم محمد وحلم ملايين الغزيين بين التقارير الأممية التي تتحدث عن سنوات طويلة ومدى زمني مثير للإحباط واليأس يحتاجه قطاع غزة كي يتعافى من الأهوال التي ألحقتها به الحرب
"في البداية كنت أخجل من نظرات الناس الذين يعرفونني كمدرس. شعرت أن البعض ينظر إليّ بعين الشفقة. لكن تأثير ذلك لم يدم أمام هدفي الأسمى وهو إطعام عائلتي".
اعتاد محمد أن يرتدي بدلة بشكل يومي، يتأنق ويستخدم أنواع العطور الفاخرة، قبل أن يتوجه إلى المدرسة.
"اليوم، أقف ساعات طويلة إلى جانب البسطة وتحت أشعة الشمس، لأحصل مبلغاً لا يتجاوز الـ20 دولاراً. لا يكفي هذا المبلغ لتوفير وجبة طعام واحدة، في ظل غلاء المواد الغذائية في شمال القطاع"، يؤكد محمد.
ويتمنى كغيره من أبناء غزة أن تنتهي الحرب قريباً وتعود الحياة لما كانت عليه قبل ذلك؛ "أتخيل أننا نعيش في حلم طويل تقترب نهايته، وسيعود كل شيء كما كان"، يقول خاتماً.
يعيش حلم محمد وحلم ملايين الغزيين بين التقارير الأممية التي تتحدث عن سنوات طويلة ومدى زمني مثير للإحباط واليأس يحتاجه قطاع غزة كي يتعافى من الأهوال التي ألحقتها به الحرب؛ آخرها تقرير للأمم المتحدة الذي أفاد بأن الحرب خلّفت حتى اللحظة أربعين طناً من الركام، قد تستغرق إزالتها نحو خمسة عشر عاماً. وهو تعاف للحجر لم يأخذ بالحسبان تعافي المجتمع المدني والقطاعات المهنية المختلفة ونفوس صانعيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.