لسنوات ظلت الشابة اليمنية فرح قائد تحلم بزيارة محمية "الحسوة" التي تتصف بالطبيعة الساحرة في عدن، جنوب اليمن، خاصة بعد أن شاهدت جمال المحمية على التلفاز، وقرأت عنها الكثير، حتى أصبحت تتشوق لرؤية هذا المكان، والاستمتاع بالبقاء فيه لساعات طويلة ولحظات ستؤرخ في ذاكرتها.
وأخيراً، حزمت فرح حقيبتها وتوجهت إلى المحمية لإجراء جلسة تصوير مع الأشجار الخضراء والتعرف على المكان الذي كانت تتمنى زيارته منذ سنوات، وعندما وصلت إلى البوابة الرئيسية، انفتح أمامها مشهد خلاب لأشجار كثيفة وطيور تغرد بهدوء.
"لم أصدق عيني عندما رأيت هذا الجمال الطبيعي،" تقول فرح بحماس أثناء حديثها لرصيف22، "كان مشهداً مذهلاً، وشعرت وكأنني ابتعدت عن ضوضاء المدينة وزحامها تماماً".
شعرت بخيبة أمل لرؤية هذا المكان الجميل في هذه الحالة من الإهمال.
إهمال "محزن"
تجولت فرح بين الأشجار، مبهورة بالمناظر الخلابة والأصوات الطبيعية المحيطة بها، والتقطت صوراً مع بعض الحيوانات والطيور، لكن سرعان ما لاحظت أن البنية التحتية للمحمية لم تكن على ما يرام.
"رأيت المجاري المفتوحة والبعوض الذي كان يؤرق الزائرين والحيوانات في المحمية طوال الوقت،" تقول فرح بحزن وتتابع: "شعرت بخيبة أمل لرؤية هذا المكان الجميل في هذه الحالة من الإهمال. عندما نشرت الصور في حسابي لم يصدق الكثيرون أنها في عدن، وظنوا أنها في دولة أخرى".
رغم ذلك، لم ينل هذا الإهمال من إعجاب فرح بالمحمية، فهي لا تزال تعتبرها "كنزاً طبيعياً" داخل عدن يستحق الرعاية والاهتمام.
أهمية المحمية
يوضح المهندس فيصل الثعلبي، مدير حماية البيئة في وزارة البيئة، بأن محمية الحسوة هي إحدى محميات الأراضي الرطبة في محافظة عدن، والتي أُعلنت بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 249 لعام 2008، وهي محمية ذات أهمية بيئية واقتصادية.
تضم المحمية أكبر غطاء من النباتات المحلية في محافظة عدن، وتعتمد عليها اقتصادياً شريحة واسعة من المجتمع القاطن في المناطق القريبة منها، كما تعتبر ملاذاً آمناً للعديد من الطيور المهاجرة من آسيا وأفريقيا، إضافة إلى الطيور المتوطنة.
وبحسب منشورات وزارة المياه والبيئة والهيئة العامة لحماية البيئة، فإن محمية الحسوة البيئية في مديرية المنصورة تعد إحدى محميات الأراضي الرطبة الرسمية في اليمن، وتمتاز بموقعها عند مخرج تصريف مياه الصرف الصحي المعالجة من محطة المنصورة، مما أسهم في نمو غطاء نباتي كثيف على مساحة 185 هكتاراً، وتشير الآثار إلى استخدام الموقع لاستخراج الملح منذ عام 1923.
تسببت الحرب في تجريف مناطق أشجار النخيل المروحي وحرقها، واستبدالها بمناطق زراعية، كما أن قطع الأشجار المعمرة في عمليات الاحتطاب والرعي الجائر من مواشي السكان المحليين المجاورين للمحمية أدى إلى القضاء على أغلب الرقعة الخضراء في المحمية
تحتوي المحمية على 23 نوعاً نباتياً من 9 عوائل، منها نبات نخيل البهش، كما تشكل بيئة مناسبة لنباتات محلية يمكن أن تصبح مصدراً مهماً للجينات الوراثية النباتية، مثل الصد والكحيلة.
وبوقوع المحمية على أحد سواحل خليج عدن، في مسار هجرة الطيور من آسيا وأوروبا إلى إفريقيا، تجد الطيور المهاجرة خاصة في فصل الشتاء، ملاذاً آمناً فيها، مع توثيق 39 نوعاً من الطيور داخل المحمية، منها أربعة مهددة بالانقراض: النورس أبيض العينين، وأبو منجل المقدس، وبلشون أسود الرأس، والنحام الصغير. كما تنتشر في المحمية الأرانب والثعالب والزواحف والعقارب والخفافيش.
تعديات وأضرار بالجملة
منذ عام 2014، بدأت محمية الحسوة بالتدهور بعد انتهاء مشروع برنامج الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية الممول من الأمم المتحدة، الذي كان يدعم الأنشطة البيئية والسياحية فيها. تفاقم الوضع مع الحرب عام 2015، فأصبحت موقعاً عسكرياً وتعرضت للنهب والتدمير، وفقدت بنيتها التحتية، مما أدى إلى تحوّل أجزاء منها إلى أراضٍ زراعية دون وجود مؤسسات حكومية لحمايتها.
ويؤكد المهندس الثعلبي أن الحرب أثرت بشكل كبير على محمية الحسوة، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وإلحاق العديد من الأضرار الأخرى بها، ويقول لرصيف22: "منذ عام 2007 عملنا على إعداد محمية الحسوة الطبيعية كمتنفس لأبناء عدن وللسياحة البيئية، من خلال تجهيز مختلف مواقعها بالتعاون مع المجتمع المحلي المستفيد من المحمية ممثلاً بجمعية الحسوة البيئية، وحققت خلال الفترة ما قبل الحرب تقدماً محلياً ودولياً وحصدت العديد من الجوائز العالمية، أهمها جائزة خط الاستواء من الأمم المتحدة ضمن 26 موقعاً على مستوى العالم".
يشير الثعلبي إلى أن هناك جهوداً تُبذل من وزير المياه والبيئة والهيئة العامة لحماية البيئة لإعادة تأهيل المحمية، وقد أُدرج الأمر ضمن مشاريع الدورة الثامنة من صندوق البيئة العالمي GEF-8، وهي آلية تمويل متعددة الأطراف تأسست عام 1992 لمساعدة البلدان النامية والاقتصادات في مرحلة انتقالية على التصدي لتحديات بيئية في مجالات منها الزراعة والغابات والموارد البحرية والمائية.
بدوره يشير الدكتور عبدالله ناصر الهندي، عميد كلية العلوم بجامعة عدن، إلى الآثار البيئية التي تسببت بها الحرب على محميات الحسوة، وذكر منها توقف محطة معالجة مياه الصرف الصحي في المنصورة، مما أدى إلى خروج مياه الصرف إلى المحمية دون معالجة، مسببة أضراراً ومخاوف من التلوث البيئي في المحمية وكذا تلوث البيئة البحرية المحاذية لها بما تحويه من كائنات حية، ومهددة أحواض صناعة الملح بالتلوث.
ويضيف لرصيف22: "تسببت الحرب في التعدي على مساحة المحمية من قبل العديد من الأشخاص، وتجريف مناطق أشجار النخيل المروحي وحرقها، واستبدالها بمناطق زراعية، كما أن قطع الأشجار المعمرة في عمليات الاحتطاب والرعي الجائر من مواشي السكان المحليين المجاورين للمحمية أدى إلى القضاء على أغلب الرقعة الخضراء فيها، بالإضافة إلى الاعتداء على برج مراقبة الطيور ونهب جميع محتوياته من مناظير وكاميرات وأثاث وأبواب ونوافذ".
وينوه أيضاً بتأثير النزاع على التنوع الحيوي في المحمية، إذ ازدادت عمليات قتل وصيد الطيور المهاجرة والمستوطنة، وتناقصت أعداد النباتات والأشجار والشجيرات فيها.
"كانت متنفساً طبيعياً لنا"
يوضح الصحافي البيئي بديع سلطان بأن أبرز ما جنته الحرب على محمية الحسوة هي الإهمال واللامبالاة التي نتجت عن غياب مؤسسات الدولة المعنية، كالهيئات البيئية المختصة، عن تأدية دورها في حماية ما تبقى من تنوع حيوي في المحمية، فتُركت تواجه مصيرها وحيدة، دون اهتمام أو رعاية رسمية، وهذا الإهمال منح الكثيرين من ضعاف النفوس الجرأة على التعدي على أراضيها، والبناء داخلها، ما أدى إلى القضاء على مساحات واسعة من غطائها النباتي، وجعل الأراضي الرطبة داخلها ملاذاً غير آمن للطيور المهاجرة.
ويأسف في حديثه مع رصيف22 من جرأة الناس على الاحتطاب الجائر من أشجار المحمية، التي كانت تستخدم كمساحات ومتنفسات يؤمها المواطنون في إجازاتهم، غير أن غالبيتها أزيلت نتيجة ممارسات الاحتطاب الجائر.
تضم المحمية أكبر غطاء من النباتات المحلية في محافظة عدن، وتعتمد عليها اقتصادياً شريحة واسعة من المجتمع القاطن في المناطق القريبة منها، كما تعتبر ملاذاً آمناً للعديد من الطيور المهاجرة من آسيا وأفريقيا، إضافة إلى الطيور المتوطنة
ويلفت سلطان إلى أن المحمية كانت توفر فرص عمل مدرّة للدخل لكثير من الأسر المنتجة والنساء معدومات الدخل، اللاتي كن يصنعن من سعف أشجار النخيل أدوات منزلية ومنتجات للاستخدام المحلي، وكانت مقصداً للتجار ورجال الأعمال، والزائرين من المواطنين. كل ذلك تلاشى تماماً نتيجة الصراع والحرب التي أتت على كل التنوع الحيوي، وقضت على الأنشطة البشرية التي كانت إحدى موارد المحمية.
من جانب آخر تصف أمل عبد القادر أحمد، وهي مديرة روضة محلية في عدن، محمية الحسوة كمكان ساحر كان يشكل متنفساً رئيسياً للمواطنين قبل النزاع، يذهب إليه طلاب المدارس في رحلات استكشافية، وتقول لرصيف22: "كانت المحمية تزخر بالحياة، وكان الأطفال يستمتعون برؤية الأبقار والماعز والدواجن والطيور النادرة فيها، لكن النزاع دمر المحمية، مما حرم الناس من متنفسهم الطبيعي".
هل إعادة الحياة إلى المحمية ممكنة؟
يقدم الدكتور عبدالله ناصر الهندي العديد من الخطوات التي يمكن اتخاذها لإعادة الحياة إلى المحمية، تشمل إعادة محطة معالجة مياه الصرف الصحي إلى العمل بكفاءة عالية للحد من التلوث، وإزالة جميع الاستحداثات التي تمت في مساحة المحمية، ومنع تحطيب وقطع الأشجار داخلها، ووقف عمليات الرعي لفترة معينة، وإعادة تأهيل برج مراقبة الطيور، واستزراع وإكثار أشجار النخيل المروحي وبقية الأشجار في المحمية، والأهم تفعيل القوانين والتشريعات والعقوبات والغرامات ضد كل من يعبث بالمحمية والتنوع الحيوي الذي تزخر به.
في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها محمية الحسوة الطبيعية، يتضح أن الجهود المبذولة لإعادة تأهيل هذا الكنز البيئي تتطلب تعاوناً مشتركاً من جميع الجهات المعنية، بدءاً من المؤسسات الحكومية وصولاً إلى المجتمع المحلي بكل مكوناته، فالإهمال والتعديات الناجمة عن الحرب لم تؤثر فقط على التنوع البيئي للمحمية، بل أيضاً على حياة أناس كانوا يعتبرونها متنفساً طبيعياً ومورد رزق لهم ولأطفالهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...