يكبر طفلي عاماً فأكبر معه أعواماً، يقترب من الوعي المناسب لعمره، فأقترب من الوعي أضعافاً. يزيد على تقويمه عام آخر، أزداد معه بالإدراك أعواماً أكثر، يدرك مفهوم وجود "الماما" بالجوار، فأعيش في تيه لأحاول بفضله أن أفهم ماذا يعني وجود "الماما" بجواري.
يبكي قليلاً كأي طفل صغير تغمره البراءة، فأتذكر بكائي المتواصل على أمي الذي لا جواب له إلا الصدى. يخطئ طفلي مرة، فأتذكر أخطائي الكثيرة. يتسلّل الغضب بداخلي، فأتذكر غضب أمي. كردّة فعل مني، أرفع يدي لأصفعه بعد محاولات عديدة لإسكاته، فأتذكّر الصفعات التي وشمت قلبي قبل جسدي، فأتراجع وأمسك يده وأقبلها. ينظر إلي نظرة استفهام، فأرى البراءة في عينيه، ثم أشرح له الصواب من الخطأ، وأعاهد نفسي أنه لو كرّر الخطأ ألف مرة سأظل أقبّل يديه حتى ينبت عليهما زهر النصائح، ولا ينطبع على قلبه وشم من ذاكرتي المؤلمة.
يشعر طفلي بالملل، فأبتكر له الألعاب والتسالي، ثم تتداخل في ذاكرتي مشاهد ضجر أمي مني حين كنت أعبّر ببكائي عن مللي. تتشابك الأفكار في رأسي كأن أرى طفولتي أمامي على هيئة طفلي. أرى نفسي أبكي وأتوسّل لأمي أن تغمرني كي تزيح الضجر عني، فأُسقط الألعاب من يدي وأغمر طفلي، وأربّت على شعره الأملس كأني أداري نسختي الصغيرة مني.
يبدأ طفلي بالزحف، فيزحف قلبي معه، وأصير معه باللاوعي طفلة. تُعلّم على ركبتيه بقع حمراء فتؤلمني ركبتاي، يبكي فتسيل دموعه من ثقب في قلبي.
يبدأ بالكلام المتلعثم وينطق كلمته الأولى "بابا"، فأتذكّر أبي ويسير شريط الأبوة في دماغي كاملاً. أدرك بفضل طفلي ماذا يعني أن يكون "البابا" بجانبي، أنا التي لا أذكر من والدي إلا رائحة الكحول، فأقطع عهداً على نفسي بأن تكون صورة "الماما" و"البابا" أفضل ما يمكن أمامه.
يبدأ طفلي بالزحف، فيزحف قلبي معه، وأصير معه باللاوعي طفلة. تُعلّم على ركبتيه بقع حمراء فتؤلمني ركبتاي، يبكي فتسيل دموعه من ثقب في قلبي
رغم انفصالنا نحن الوالدين، إلا أن طفلي علّمني أن أكون نبيلة حتى في الخصام، كأن أجلس أنا وأبوه على أريكة واحدة، وطفلنا بيننا، نتناول العشاء ونخترع ذكريات جميلة لتنحفر في ذهنه. نحن اللذين لم ينغرس في ذاكرتنا سوى النفور. فأعود لطفولتي لأتذكر كم مرة حظيتُ بجلسة بين أمي وأبي، لتخذلني ذاكرتي ولا أرى مشهداً واحداً يجمعنا. فأزيد على تفاصيل يومي وجود والد طفلي يومياً بجواري. أختلق الأحاديث والذكريات الكثيرة لأجله، ولأجل أن أرى ابتسامته الفضولية لسماع المزيد والمزيد من الذكريات.
أعلّمه المشي وأنا حتى الآن تخونني خطواتي نحو المستقبل، فيمشي أسرع مني، وتسبقه خطواته نحو قلبي، فاتحاً ذراعيه ليهوي بين أحضاني. قبل أن يصل إليّ تخونه قوة قدميه، فيسقط وينجرح. أعقّم له جرحه وأحمله لساعات طوال وأهدهده. رغم أن ساعديّ لا يقويان على حمل كأس من الماء، لكني ماما خارقة لأجله فقط، فأصير طبيبة، أنا التي لا تقوى على رؤية الحقنة ولا تعرف كيف تثبت لصاقة طبية على جلد.
تتداخل مشاهد سقوطي من على الدراجة وأنا طفلة. أتذكر كيف كنت أخبّئ ندباتي كي لا تصفعني والدتي، وتحسب أن ذلك تعبير عن خوفها عليّ، فتنوشم الصفعة في كبريائي، وأصبح بسببها كائناً يكبت مشاعر الألم ويخاف أن يبوح بها، لأنه لا يقوى على تحمّل المزيد من الصفعات، ويفخر بأنه نجح في ترويض آلامه وأنه بنظر أصدقائه "سبع".
يبدأ طفلي بتكوين الجمل ويتلعثم، فأتلعثم معه، وبدل أن أنطق الراء، تصير لاماً لأجله.
يتكلم أكثر وأكثر، وتسقط كلماته مثل البلسم على روحي. فأذكر كمية الإسكات التي كانت تباغتني بها أمي، والتي بسببها لا أعرف الآن كيف أبوح أو أعبّر، وأكتم في داخلي كلّ مشاعري، ولا أجرؤ الآن على تكوين جملة واثقة من صحّتها، ليس لشيء سوى أني رضعت الإسكات في طفولتي أكثر من الحليب.
يستمر طفلي في الكلام ويتطور ليصبح غناء، فيطرب روحي بصوته الجارح وحنجرته المهتزّة وكلامه غير المفهوم، فأتذكر كم مرة كنت أدندن عندما يعبّر لي أحد عن إعجابه بصوتي، فأهرول نحو أمي مشبعة بالحماس لتعطيني تعبيراً ثانياً عن صوتي القبيح، فأنكسر ويتمّ تكبيل فمي -مجازاً- لأنني أسبب صداعاً لأمي، فأطالب طفلي بالمزيد من الغناء، وأستمرّ بالاستمتاع بصوته.
أحتفل بعيد ميلاد طفلي، فأفرح بهداياه أكثر من فرحه بها، وأقضي ساعات طوال ألعب معه بها، ليمرّ في ذهني شريط الحسرة أمام متجر الألعاب، وأنا أتوق شوقاً لرؤية أمي تحضر لي دمية، فأغرق طفلي بالدمى والألعاب الضرورية وغير الضرورية، لأن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه ولا عزاء لمن قال غير ذلك.
يأتي الوقت المحدّد لأعلّم طفلي كيفية قضاء الحاجة والاستغناء عن الحفاضة، لأبدأ معه بالتدريج، فأتذكر كم مرة قضيت ليالي كاملة أبكي وأنا أحاول أن أتعلّم كيف أروّض نفسي وأهرول إلى الحمام لأسبق رغبتي بالتبوّل، فتخذلني مثانتي الضعيفة، بحسب الأطباء، وأبلّل نفسي، ويلحقني بعد كلّ محاولة فاشلة، إما صفعة على خدي أو خصام يطول لأيام، أو حروق بالشمع على فخذي. وكل هذه العقوبات كانت نتائجها تبوء بالفشل أيضاً، لأدرك لاحقاً أن التعليم بالترهيب أو الضرب لا يجدي نفعاً، ولا يزيد الطين إلا بللاً.
أتحمّل عناء ومشقة محاولة تنظيف طفلي من الحفاضة سنة كاملة. سنة كاملة عنوانها تنظيف المخلفات من زوايا المنزل أو من فراش السرير. أصرخ فرحاً بيني وبين نفسي بأني نجحت في تعليمه دون أن أضطر لصفعة واحدة على مؤخرته، وحتى لو اتخذ مني التعليم سنة كاملة.
أن أركض خلف ابني ومخلفاته سنة كاملة أفضل من أن أركض وراء مخلفاتي التي سأرميها في داخله حياة كاملة.
أتحمّل عناء ومشقة محاولة تنظيف طفلي من الحفاضة سنة كاملة. سنة كاملة عنوانها تنظيف المخلفات من زوايا المنزل أو من فراش السرير. أن أركض خلف ابني ومخلفاته سنة كاملة أفضل من أن أركض وراء مخلفاتي التي سأرميها في داخله حياة كاملة
يكبر طفلي أكثر ويكبر همّي معه، فأتذكّر قول أمي "كلّما كبر الطفل خفّ همّه"، فأدرك قصدها من هذا القول: بالتأكيد سيخفّ الهمّ من شخص ليتراكم عند آخر، فالضرب بدل الحوار يُضعف الضحية ويجعلها متمرّدة أو ربّما انطوائية، والإسكات بدلاً من الإصغاء يكبت الضحية ويجعلها ربّما هشّة سهلة المنال، والإهمال بدل العناية يُخمد الضحية ويجعلها باردة أو ربّما انعزالية.
فأفهم بفضل طفلي كيف يخفّ الهمّ عن آبائنا كلّما زاد على عمرنا عام آخر، وأعاهد نفسي أن أتعب أكثر مع طفلي، أن أحاوره وأخلق له قصصاً من الخيال والفانتازيا. أزيد من غمراتي لطفلي وأعانقه عند كلّ أمر يستدعي العناق أو لا يستدعيه، وإن شعرت بأن طفلي بحاجة لأمر لا يعلم ما هو، فأساعده في التعبير عن رغباته لألبيها له بكلّ رحابة صدر.
مع ازدياد الهم، يدخل طفلي عامه الأول إلى الحضانة، فأشعر أني في غربة وكأن السنين العجاف تجسّدت في سبع ساعات، فأتذكر غياب أبي لساعات أو أيام طوال. أجلس قرب باب المنزل لأنتظر قدوم الحافلة، وينزل منها طفلي مهرولاً نحوي، فأتذكر الأيام التي غفوتُ بها على الأريكة أنتظر قدوم أبي لأمرح معه قليلاً، لكن أبي، وبسبب الثمالة، لم يكن يعرفني من أختي ولا يعرف أختي مني، ومن منظور الطفولة، فالثمالة بالطبع أهون من طول الانتظار بلا جدوى.
يأتيني طفلي جائعاً، وأنهض به إلى المطبخ لأعد له الطعام، فيستغفلني ويذهب ليعبث بتراب الحديقة. أركض نحوه وأتذمّر من الفوضى التي سببها، ثم أدخله الحمام وأبدأ بالغناء له: "حمامك سعادة، حمامك هنا"، فأستعيد يدي أمي وهي تسحبني وتدفعني بغضب عند كلّ حركة أقوم بها في الحمام، لأن الحمام والنظافة يحتاجان إلى دقة، وأنا بحركاتي الكثيرة وإثارتي للفوضى كنت أعيق تركيز والدتي. فأذهب، مسرعة إلى ألعاب طفلي، وأحضر له منها ما تيسر من العدد أمامي، وأبدأ معه رحلة اللعب في الماء، ثمّ أُعدّل الحرارة لأجعلها معتدلة، فأتذكر كم مرة في طفولتي بكيت متألمة من حرارة الماء الساخن، وكل ذلك تحت إعراب النظافة.
أبدأ بإطعام طفلي، فأشعر بالامتنان لأول مرة، وأتذكّر كيف كانت أمي تطعمني وهي تلعب معي وتمازحني وتضحك عليّ كأنها تدخل اللقمة بفمي كالطائرة، فأفعل مع طفلي ذات المسرحية، وأنا كلّي فخر بأني ورثت شيئاً من التربية عن أمي. لكن المسرحية لا تنجح ويخذلني طفلي بالخضوع لتلك الطريقة، ويصمّم على رفضها بعد محاولات عديدة. ربّما رأى في عينيّ مرآة لنفسي وأنا أحاول أن أستحضر مشاعري الجيدة مع أمي.
منذ أيام، اضطررت لترك طفلي والسفر بدونه إلى مدينة أخرى. لا أخفي مشاعري المضطربة آنذاك، لأنني لأول مرّة أنام في سرير لوحدي. أتقلب يميناً ويساراً. أبحث عن طفلي، فأستيقظ مذعورة، ثم أفهم أنني خارج البلاد وطفلي في أحضان أبيه. لا أخفي كم كنت سعيدة في سفري، لأنني استحضرت مشاعر العزوبية من جديد. شعرت بنفسي حرّة، لا وجود لقيود الأطفال حولي. لكن عند عودتي للمنزل وجدت طفلي يركض نحوي ويخبرني بأدق تفاصيل الأيام التي حدثت بغيابي، فعاد شريط الذاكرة من جديد، ليأخذني إلى طفولتي عند استقبالي لأمي وهي عائدة من السفر، فقد سافرت مرة بقصد العمرة، وقضت شهراً كاملاً غائبة عني.
سأعتذر كثيراً منك يا أمي، ومن أبي قليلاً، وأقدّم هذه الاعترافات هدية لطفلي حين يكبر أكثر، ويستطيع فهم ما دوّنته هنا، ليدرك أني كنت الأم التي لم تحظَ بأم قط
عندما رأيتها لأول مرة اغرورقت عيناي بالدموع، لكني كابرت، وحاولت قدر الإمكان أن أخفي دموعي، لأني أعلم علم اليقين أن أمي لن تعير دموعي أهمية. لكن مشاعري كانت أقوى من طفلة لا تقوى على تحمّل مشاعر الشوق والغضب معاً، فانسكبت دموعي غصباً عني، وبقيت أبكي لساعة متواصلة، ولا أعرف كيف أعبّر عن سبب بكائي.
أخذت طفلي بين أحضاني وتأهبت لبكائه، وهيأت نفسي بأن أغمره عند أول دمعة تنسكب من عينه، لكنه فاجأني بابتسامته وحركاته المستمرّة بالحماس لرؤيتي، وشعرتُ حقاً بفخر التربية الجيدة التي استطعت تقديمها له.
يكبر طفلي أكثر ويزداد طوله ووزنه، فأقرّر بأن الوقت قد حان ليتعلم كيف ينام بمفرده في السرير. أبدأ معه اليوم الأول، وينقضي بالبكاء المتواصل، فتتداخل مشاهد خوفي من الجنّ والأشباح التي كانت مجازاً تطاردني في صغري، وأنا مستلقية على سريري بمفردي، ملتحفة بالغطاء من رأسي حتى أخمص قدمي، ولا أجرؤ على كشف الغطاء عني كي لا يلتهمني وحش أو يرعبني شبح.
وأتذكر كم مرة تبوّلت على نفسي في الفراش خوفاً من أن أقوم إلى الحمام ليلاً في ظلام المنزل، فيطاردني "البعبع" الذي كان رمزاً للتخويف، ويستعمل كأداة تحذير قوية وصارمة، فأعدّل قراري بانفصال طفلي عني، وأعلمه بأن كل أسبوع ينقضي وينام في سريره لوحده سيحظى بـ "open day" لينام به بجانبي.
سأعتذر كثيراً منك يا أمي، ومن أبي قليلاً، لأنني الآن أم، وأنا أعلم أن الأم لا يمكن أن تكره طفلها، وأعلم أن هناك أموراً كثيرة جيدة فعلتها لأجلي، وربّما لا يتّسع المقام لذكرها، لكني أريد أن أشدّد على أمر لضرورته، بأن كلمة واحدة تمحي نهراً من الكلمات العذبة، وفي بعض الأحيان ينطبق الأمر أيضاً على الأفعال، وأنت يا أمي كنتِ نهراً عذباً لم يصبّ ملوحته القليلة إلا في داخلي، ومن سوء حظك أني أصبحت أماً، وأن شبح الوعي عندي سيطاردك إلى وقت لا أعلمه، وأقدّم هذه الاعترافات هدية لطفلي حين يكبر أكثر، ويستطيع فهم ما دوّنته هنا، ليدرك أني كنت الأم التي لم تحظَ بأم قط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...