كنت دائماً، ولا زلت، أردّد أن من يتبنّى فكرة معينة، وفي نفس الوقت يخجل من إشهارها علناً، عليه ألا يتبنّاها من الأساس. فما معنى اقتناعك مثلاً أن الفاصولياء تشفي من مرض الحصبة، إن كنت ستحتفظ بهذه القناعة لنفسك، وتخجل من إعلانها على الملأ؟
قد نتفهّم خوفك من بعض مجانين حارتك الذين يملكون قناعات مناقضة ويحوزون على القوة والشرّ، وبالتالي يهدّدون بكسر رأس كل من يخالفهم. هذا الخوف مبرّر في مكان غير ملائم أو زمان صعب، وهو يدفعنا أحياناً للصمت مؤقتاً، وهذا مفهوم بالطبع، أما أن يكون عدم المجاهرة بالفكرة بسبب الخجل منها، فهذا ما لا يقبله عقل سوي.
أن تخجل من فكرتك التي تحملها فهذا معناه أنك ورثتها كما يرث شخص ديون أهله. لقد كان أبوك يؤمن أن الفاصولياء تشفي من الحصبة، ولم يكن في حارته لا زعران يهدّدونه ولا عقلاء يناقشونه، فاكتسبَ لقباً من قبيل "المختلِف" أو "الإشكالي"، وأنت أعجبك ذلك فقمت بتبني الفكرة، ولأن زمانك مليء بالزعران، أو الذين لا يؤمنون بقدرات الفاصولياء، فكان خيارك الوحيد هو أن تحتفظ بإيمانك المختلف هذا، وفي نفس الوقت تخجل منه وتحاول، قدر الإمكان، إخفاءه.
ليس الخجل وحده بالطبع، هو ما يعيب أفكار بعض المثقفين أو المنخرطين في الشأن العام في بلادنا، وربما يمكننا القول إننا اعتدنا من يدّعون انتماءهم للفكر الماركسي مثلاً، لكنهم يصرّحون بذلك همساً في الدوائر الضيقة التي تضم الأبناء والخالات في أحسن الأحوال. أو الذين يبدأون كلامهم بالجملة الشهيرة: "أنا لست من الإخوان المسلمين ولكن..."، أما ما لا يمكن اعتياده بعد، فهو محاولات الدفاع عن الأفكار بالغوص في تاريخ نقيضها.
العيب هو محاولة إيهام النفس والآخرين أن مضغ الأفكار ذاتها يوماً بعد آخر وليلة تلو الأخرى، يُعدّ انخراطاً في الواقع ومحاولة جادة لتغييره
لا أقصد هنا الدفاع عن صلاحية فكرة ما بنفي صلاحية نقيضها، بل بشرعنتها من خلال الغوص في تاريخ الفكرة النقيضة، ومدى رضاها عن فكرتك.
لتفسير ما سبق، ليس أفضل من الإشارة إلى محاولات بعض دعاة العلمانية تبرير أفكارهم من خلال القول، إن الدولة في العصر الراشدي أو الأموي كانت علمانية مثلاً. ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أنك لا تملك برهاناً على فكرتك من داخلها، أو على الأقل، لا تعتقد أنها قادرة على الدفاع عن نفسها من خلال ما تقدمه هي من معطيات. وما دام الوضع كذلك، فلا بد من محاولة استرضاء خصمك الفكري بالقول إنه يحمل نفس أفكارك لكنه لا يعرف، أو أن الآخرين قدموا له تاريخاً مغلوطاً.
إذن فإضافة إلى العيب الموجود في خجل البعض من الإعلان عن أفكارهم بجرأة مهما كانت، هناك عيب لا يقل سوءاً، وهو محاولة استرضاء الخصوم بإيهامهم أننا ندافع عنهم، أو بلغة أخرى: نفكّر عنهم، أو نبحث في تاريخ أفكارهم لنثبت لهم كم يشبهوننا لو أنهم تعبوا قليلاً في التفكير، أو لم يتم خداعهم.
العيب الثالث هو محاولة إيهام النفس والآخرين أن مضغ الأفكار ذاتها يوماً بعد آخر وليلة تلو الأخرى، يُعدّ انخراطاً في الواقع ومحاولة جادة لتغييره.
بإمكانك عزيزي القارئ أن تتخيل معي خمسة من أساتذة الجامعات، أو أربعة من "لعيبة الورق"، يجلسون يومياً على المقهى ذاته، ويكرّرون الكلام ذاته، ولا يختلفون أبداً حول مقدماتهم ولا استنتاجاتهم. إنهم متفقون تماماً حول النموذج الفيتنامي، ومتفقون فيما يخصّ فساد وزارة التموين ووزارة الثقافة، ومتفقون حول بايدن واليسار الفرنسي. لا شيء يدعو إلى النقد أو النقض، والأمور بخير لولا أن الوقت اللعين يمرّ ببطء فوق أشلاء سكان غزة، وبنايات غزة، وصولاً إلى تحقيق ما نصبو إليه.
جرّب عزيزي القارئ أن تقول لهم إن الواقع في مكان آخر، وإن ما يفعلونه ليس الانخراط فيه ولا محاولة تغييره، بل هو الهروب منه نحو تعزية النفس بالاتفاق. قل لهم إن الأفكار لا تحتاج إلى خلاصات تبريرية، وقل لهم إنها لا تحتمل الـ "لو" والـ "لولا"، وقل لهم إنها ليست أغنية أو لوحة فنية لتكون بديلاً جمالياً للواقع.
العيب الرابع يتمحور حول أولئك الذين لا يرفضون الأفكار المختلفة، لكن لديهم مشكلة دائمة مع توقيتها. التوقيت هو مشكلتهم ولا أحد يعرف لماذا، ولا هم بدورهم يتفضلون عليك ويقولون لك لماذا. "فكرتك سديدة"... هكذا يبادرك أحدهم في الشارع أو في السوبرماركت، ثم يستطرد: "لكنك تسرعت في قولها أو في كتابتها، فكما تعرف: مش وقته". طبعاً هم يسدون لك النصيحة أعلاه حتى دون أن تسألهم. هل حصل مثلاً أن سأل كاتبٌ ما أحد قرّائه: "ما رأيك بفكرتي الفلانية، وكيف كان شعورك حين قرأتها صباح الخميس 2 نوفمبر؟"، فيجيب القارئ: "جميلة جداً وصحيحة، لكنني كنت أفضل لو كتبتَها في أواخر ديسمبر".
هل حصل أن سأل كاتبٌ ما أحد قرّائه: "ما رأيك بفكرتي الفلانية، وكيف كان شعورك حين قرأتها صباح الخميس 2 نوفمبر؟"، فيجيب القارئ: "جميلة جداً وصحيحة، لكنني كنت أفضّل لو كتبتَها في أواخر ديسمبر"
لا أريد الاسترسال في السخرية من فكرة التوقيت هذه وإلا لسردت عشرات الأمثلة عن مقالات تفقد أي معنى لها لو تأجّلت أسبوعاً، لكن ما يعنيني أكثر هو التناقض المفترض بين جودة أو صحة الرأي وخطأ توقيته.
كيف يمكن لفكرة أن تكون سديدة مع أن توقيتها خاطئ؟ بمعنى آخر لو افترضنا أن أحد الفلاسفة الفرنسيين قرّر أن يقدم اليوم نصيحة لنابليون، فكيف يمكننا أن نعتبر هذه النصيحة ممتازة لكنها متأخرة، أو أن الفيلسوف نفسه سيكون عرضة، هو ونصيحته، للسخرية من مجمل القراء؟ أقصد أن التوقيت نفسه هو جزء لا يتجزأ من الفكرة، ولا يمكن الفصل بينهما، وأن من يمتدح الفكرة وينتقد توقيتها، أمامه ثلاثة خيارات: إما أنه كاذب ويخجل أن يقول لك "مش وقتك لا أنت ولا أفكارك"، وإما أنه جبان ولا يريد أن يوجع رأسه، وإما أنه من أولئك الذين يهربون من الواقع إلى حاضنة شبيهة من الاتفاق والمهادنات المتبادلة، ولا يريدون من يعكر صفو خيالاتهم.
في الختام، ما يجمع كل هذه العيوب الفكرية هو أن مجتمعاتنا بطبعها ليست منتجة لأفكار جدية يمكنها أن تتحوّل إلى مشاريع، أو على الأقل، إلى رؤى سياسية. لهذا فإن الخجل، والكذب، والجبن، والرضا بالموجود، تستطيع كلها أن تجد لها مكاناً في هكذا بيئة، ولكي تستطيع أن تشرعن وجودها عليها أن تلبس لباس الموقف السياسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه