شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أريد أن أموت في مكان أعرفه"... قصص الباصات الخضر والنازحات في كتاب "عدالة المكان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 18 يوليو 202407:15 ص

حكاياتُ نساءٍ ست، نصغي إليها في كتاب "عدالة المكان"، أقول نصغي إليها لأن فرط الرهافة التي اكتنفتْ هذا الكتاب تحمل قارئه/قارئته على الإصغاء لا القراءة وحدها، وتعيده إلى استذكار نعمة الأصفار في الحياة؛ إمكانية البدء من الصفر من جديد، استدراك ما فات الإنسانَ من خبرةٍ قبله، وترميم البدايات الجديدة بما تراكم من تجارب قبلها.

إصغاء وقراءة معاً 

إنما كم صفراً يحتمل الإنسان أن يعاود البدء منه في حياته؟ هو السؤال الذي يستغرق القارئ في عدد احتمالات جوابه. ثم، وهو يتابع ثنائية: القراءة والإصغاء معاً، يصرخ في وجهه سؤال جديد: "أيةُ عدالةٍ قد ترمّمني"؟

من الذي يهوي بهذا السؤال على أسماع القارئ: أهو المكان/البيت يسأل؟ أم هؤلاء النساء الست وهن يروين حكايات تهجيرهن القسريّ منه إلى الضياع، إلى اللامكان؟ 

كم صفراً يحتمل الإنسان أن يعاود البدء منه في حياته؟ هو السؤال الذي يستغرق القارئ للكتاب، قبل أن يصرخ في وجهه سؤال جديد: "أيةُ عدالةٍ قد ترمّمني"؟

هؤلاء النساء كنّ ساكناته ومؤنساته، ولم يعدن كذلك. إما رُحّلن عنه بالباصات الخضر وأسكنوا فيه أغراباً، وإما نُسفَ البيتُ وسُوّي بالأرض ولم يعد ثمة بيت. نجت صاحباته ولم ينجُ هو. وحملت نساؤه ذنب نجاتهنّ كمرضٍ لا يبرأ، يثقل ظهورهنّ أينما حلّلن في جهات الأرض.

نسرين… سبعة عشر تهجيراً

نسرين العبد الله: في سجلّها سبعة عشر تهجيراً تبعت اقتلاعها من بيتها الأول في الزبداني، ولا تزال تبكي إذ تتذكر مسكة الباب، غرفة العائلة، مكتبة البيت، كل قطعة أثاث، أنّ أمها تسمي الزقاق الذي تسكن فيه: (زقاق بنتي)، تتذكّر أباً يدللها حتى بعد أن أصبحت زوجة رجلٍ تحبّه، ثم أمّاً. ثم في سنوات الثورة الأولى قُتِل الزوج الحبيب، تندبه مع طفلتها، تصدق في البوح كم حقدتْ في تلك الفترة على كل امرأةٍ تنام في حضن زوجها.

تسمي ما حلّ بها (التهجير الأساسي)، الاقتلاع من الجذور، من أرض عاشت فيها كل تفصيلة عيش، وفيها قبر أمها وزوجها. تفتقد لمخدتها وهي تساق في الباص الأخضر، كأيّ شيء، وليس في وداعها سوى أبيها الرابض في سيارته غير بعيدٍ عن الباص الأخضر، ولا يجرؤ على الاقتراب كيلا يردوه برصاصة.

تسافر وحيدةً غريبةً مستوحشةً مرعوبة، لتصل إلى مدينةٍ اسمها عفرين، لا تعرفها، ولا يستقبلها فيها أحد. ورغم ذلك تبني لنفسها عائلةً وبيتاً وتكمل تعليمها الجامعي.

فيروز… عشرون نزوحاً

فيروز: أشجار الجوز تخاصر بيتها. وشجرات الأمانجا والمشمش والخرما، تتذكر منمنمات المشغولات اليدوية في المضافة، مسبح الفيلا وحروف أسماء الأولاد منقوشة عليه.

أخذوها في اعتقالها الأول، أعادوها ورأت سجادة بيتها مسروقة وملقوحة على سبطانة الدبابة. هُجّرتْ وجاعت وأكلت ورق الشجر.

النظام السوري وهيئة تحرير الشام منعاها من الدراسة، فاستعادت بعض طاقتها في تدريسها للأطفال.

شهدت بعينيها كيف يتبوّل معظم الأطفال لا إرادياً. وفي جلجلة النزوحات المتتالية خضعتْ للتحرش والابتزاز والعنصرية التركية واحتملتْ وصمة النزوح وانتظار المساعدات، ورضيتْ بزواجٍ مرتجلٍ خالٍ من مظاهر فرحٍ تنتظرها الصبايا مرّةً في العمر.. تهجيرٌ خلف تهجير، حتى صار في رصيدها عشرين نزوحاً.

الدمشقية… عشرون نزوحاً

الدمشقية: امرأةٌ عظيمة. كانت طالبةً متفوقة، زوّجها أهلها بعمر سبع عشرة سنة. وأصبحت ابنتها في الثانوية. ولمجرد أنّ ابنتها ظنّتها أميةً، باشرتْ دراسة البكالوريا مع ابنتها، بعد 17 سنة انقطاعٍ عن الدراسة، ونالتها وتسجّلتْ الأم والبنت في الجامعة، تخرّجتْ الأم بشهادة الأدب الإنجليزي، واقتدت بها نساء كثيرات. 

تعرضت فيروز في نزوحاتها المتتالية للتحرش والابتزاز والعنصرية التركية، واحتملتْ وصمة النزوح وانتظار المساعدات، ورضيتْ بزواجٍ مرتجلٍ خالٍ من مظاهر الفرح، تهجيرٌ خلف تهجير، حتى صار في رصيدها عشرين نزوحاً

تستذكر تهريب بناتها من بيتٍ لبيتٍ مع بداية القصف واشتعاله وتقافزه من حيٍّ لحيّ، حتى انتهى الحال بهنّ في لبنان. قبل الثورة كانت تزور لبنان سائحةً مليئة الجيب، والآن تجد نفسها فيه نازحة. ذاقت البرد والتخفي والاستغلال والضياع، كانت عشرين امرأة في امرأة، تلمّ حولها أسرتها الكبيرة حتى سلسلة الأحفاد، تأسف لأنها لم تنجب صبياً، تقول: "للبيوت أرواح تذهب بذهاب أهلها..". مجموع عدد نزوحاتها عشرون.

شعاع الأمل… 23 نزوحاً

شعاع الأمل: وضعت جزمة زوجها أمام الباب كي يظنوه موجوداً، وبعد ثلاثةٍ وعشرين تهجيراً تقول: "تعبتُ تعبت، لكنّ عليّ الاستمرار وإلا انهارت العائلة. أريد أن أموت في مكانٍ أعرفه، لا أريد الموت غريبة..".

سمية… سبعة تهجيرات

سمية الخولاني تتذكر حلوى الألماسية، حليب ونشاء وسكر مع ورق الليمون من شجرته في أرض الدار. أخوها الصغير الناضج باكراً حتى لقبوه: (أبو راشد)، في لحظةٍ كان حياً وسقط يغطيه دمه.

تميز أنواع الصواريخ من أصواتها، تدعو الله أنه إن كان لا بد سيسقط صاروخ، ليته لا يكون صاروخ (أبو شخرة) المرعب بحجم الدمار الذي يتركه وبمدى الخطأ الكبير في توجيهه، حتى يصيب عشوائياً.

من كثرة البراميل التي سقطت فوق مدينتها أصبحت تعرف الفرق بين المتفجرة وبراميل النابالم. تروي كيف جرّف أهالي داريّا مقبرة عائلتهم، على رغم القدسيّة التي نُكنّها للمقابر، كيلا يمنحوا النظام متعة نبش قبور الأهل.

أصبحتْ في تركيا، وفي رصيدها سبع تهجيرات، لا تُحصي أيّها أكثر ألماً، بما فيها آلام دروب النزوح والعنصرية التركية. تقول وهي في غاية التعب: "لا راحة أو سكينة إلا في تلك الأرض هناك، الوطن، داريّا، أرض الوعي الأول. حزنها كبير لأن أولادها لن يعيشوا طفولة كالتي عاشتها في الحارة وفي أرض الديار بين الأهل والأعمام والأخوال والجد والجدة.

ياسمين… أحد عشر تهجيراً، وبضعة مجازر

ياسمين عبد الحكيم شربجي، تصف مجازر داريا، ولا تنسى كيف شهدتْ ليس فقط أهل حارتها وهم يُقتلون، بل يؤلمها كيف قُتِلتْ معهم تسع بقراتٍ في مزرعة جارهم قتلاً. سجنوا أباها وأخاها ونجتْ في مسارٍ طوله أحد عشر تهجيراً حتى وصلتْ أخيراً إلى ألمانيا بتجربةٍ شديدة الغنى والألم، وعظيمة النتائج، تقف على منابرها كناشطةٍ في المجال الحقوقي، وطالبة ماستر علم النفس العيادي، وحاملةً لخبرة سبع سنين في مجال الصحة النفسية مع منظمة (النساء الآن)، ومؤسسة سابقة لفريق لبنان ضمن حركة عائلات من أجل الحرية. 

تروي سميّة في خضم قصتها كيف جرّف أهالي داريّا مقبرة عائلتهم، على رغم القدسيّة التي يكنّونها للمقابر، كيلا يمنحوا النظام متعة نبش قبور الأهل.

تحمل صورة أبيها وتحكي عنه منذ وصلها خبر استشهاده في السجن، وكانت قد أصرّت أن ينطقوا اسمها دوماً مقرونا باسمه، عبد الحكيم، هي على يقينٍ أنه سمع من تربته اسمها الثلاثي في فضاء الجامعة اللبنانية، يعلنونها خرّيجةً بعد طول عناءٍ واجتهادٍ أقرب إلى الأسطوريّ، ولا تزال قيمها هي العدالة والأخلاق.

إن هذه إلا لقطاتٌ، شذراتٌ من كتاب "عدالة المكان"، الذي أطلقته منظمة "النساء الآن"، كإصدارٍ أول ضمن سلسلة كتبٍ قادمة. كتابٌ يستضيف قارئه بالكَرَم السوري المعهود على لسان نسائها، ويستنهض إنسانية قارئيه، يعيدُ إلى كلٍّ منهم/ن ذاكرته الشخصية، يحفّزه على الشروع في إعادة هيكلتها. كتابٌ ينضح بالكرامة، بالحب والتضامن الإنساني وإعادة بناء الذات.

هي شهاداتٌ أدلت بها النساء، ووثّقها فريقٌ بحثيّ، لعلّه يصون بها التاريخ والذاكرة. حكايات نساءٍ قويّاتٍ وشجاعاتٍ ونبيلات، طردهن مغتصب البلاد من براح عيشهن الذي لم يألفن سواه، وكانت أرواح بيوتهن تحيا في صدورهن، وكنّ قد دفعن ثمنه من جنى أتعاب الأسرة كلها حتى تاريخه، وتكبدن مقابله

خسارات لا تكفي أعمار لترميمها

كتابٌ مؤلم، يُعلّم الصبر وتحدي القهر والصمت والنسيان، تتناسل فيه جدليات القمع والنضال، الموت والولادة، وعي الذات والزمان والمكان ووعي الآخر، ينهمر سرداً ممتعاً عن ألمٍ حارق، تنجلي فيه همجية النظام، من غير أن تقرأ كلمة (همجية)! جرائم تحاكي جرائم الصهاينة اليوم في غزّة ومنذ سبعين سنة بحقّ فلسطين وأهلها. مواقف تُسرَد كما هي، حتى يضع الراوي أصبعه في عين المغتصب والسارق، يخبره أنّه حقاً مغتصبٌ وسارق، بدليل فعله لا بالكلمات.

ثمة عنفٌ آخر، يستكمل أذى التهجير وعسفه، أن تمتنع هؤلاء النساء عن ذكر أسمائهن تحت شهاداتهنّ، على رغم أنهن تفرّقن في شتاتهنّ بعيداتٍ عن قبضة النظام. اثنتان منهن فقط كتبن اسميهما الصريحين: سمية الخولاني وياسمين عبد الحكيم شربجي، أما الباقيات فقد كتبن: "أريد أن يكون اسمي: نسرين العبد الله، فيروز، الدمشقية، شعاع الأمل..". وليس أصعب من أن يوقّعن بأسماء مستعارة تحت حكاياتهن الحميمة المتفرّدة، بعد مسارات نزوحهن المرسومة في الكتاب بخطّ أياديهن، ما احتاج إلى صفحةٍ كاملةٍ صعوداً ونزولاً لاستكمالها. رفضن الإدلاء بأسمائهن لسببٍ وحيدٍ أنّ جزءاً من أسرهنّ لا يزال في الداخل السوريّ، ويخشين عليه من تنكيل النظام، وفي هذا إضافةٌ لمعاناتهن، وشهادةٌ جديدةٌ تنقض كلام مَن يزعم أنّ سوريا عادت مكاناً آمناً لأهله.

وأكثر من هذا؛ مُعدّة الكتاب التي أنفقت زمناً طويلاً تصغي خلاله للنساء وتسجّل ثم تصوغ كتاباً، هي ذاتها وضعت اسم الباحثة: (سلمى كريم)، وهذا ليس اسمها، وهي الأكاديمية المختصّة في الدراسات الجندرية والنسوية بدرجة ماجستير، أكثر من ماجستيرٍ من جامعة بيروت العربية، وجامعة همبولدت في ألمانيا. لم تذكر اسمها للأسباب ذاتها، لتحمي أهلها داخل سوريا من الملاحقة، وما أصعب أن يتخلّى الباحث عن اسمه وهو يُصدر منجزه!

الأصعب على الباحثة التي استعارت اسم (سلمى كريم) كان بدء الرحلة مع النساء، لملمة هذا الشتات في الأرض وفي النفس وفي الذاكرة وفي محاولات النسيان. تقول سلمى كريم: "كلنا نريد أن ننسى كل هذا الألم. وقد لا نعي أن هذا الألم يستحيل نسيانه. أقصى ما يمكننا هو خلق الألفة معه والكتابة عنه..".

لماذا الكتابة؟

ربما لتكشف لنا خباياه، لتؤنسنه، لتحيله إلى مألوفٍ نتعايش معه، ولعلّ من أفضل الطرق للتعامل مع الألم هو الحكي، الرواية، أو بالكتابة عنه. 

اختارت كثيرات ممن شاركن في الكتاب أسماء مستعارة، ومثلهن اختارت مُعدّة الكتاب التي أنفقت زمناً طويلاً تصغي خلاله للنساء وتسجّل ثم تصوغ كتاباً، وهي الأكاديمية المختصّة في الدراسات الجندرية والنسوية، فلم تذكر اسمها للأسباب ذاتها، لتحمي أهلها داخل سوريا من الملاحقة

وثمة مصطلحٌ جبّارٌ ببساطته ونجاعة تأثيره، ورد في الكتاب على لسان د. نورا أمين من مصر، وهي مؤلّفةٌ وممثلةٌ ومصممة رقص ومخرجة مسرحية، ساهمت في إنجاز هذا الكتاب وشفاء نسائه بتيسير ورشتين لهن تحت عنوان: استدعاء الذاكرة، حاولتْ من خلالهما أن تخلق، بشكلٍ ما، ما أطلقتْ عليه مسمّى: العدالة الشاعرية، أي استعادة الأماكن التي جُرّفتْ وأُبيدتْ عبر خلق خرائطها في الذاكرة.

وفي الكتاب يقدّم أنس تللو، ناشطٌ سوري، مهندسٌ معمار، ماجستير اختصاص سوسيو-أنثروبولوجيا المدينة، وجهة نظر عمرانية إنسانية في إطارها الجندريّ حول المكان، روح المكان، وكيف ينحاز المكان عاطفياً لسكانه.

أعود إلى نعمة الأصفار، إلى الوجه الآخر لكل مأساةٍ تُردي الإنسان إلى حالة الصفر، لهذه المآسي وجهٌ آخر غير الدمار. لولا التهجير والاقتلاع لربما لم تنجز النساء ما أنجزنه بعده وبسببه، من ولادة الوعي والنهم إلى التعليم العالي، ما أحدث تغييراً جذرياً وثوريّاً حقيقياً في حيواتهن. هؤلاء النساء بدأن حياتهن في أسر تقليدية، تزوجن صغيرات، وبتعليمٍ متوسّط. ثم تعالى حلمهن واجتهادهن وصبرهن طرداً مع حجم المعاناة، فلم ترض إحداهن بالتوقّف عند تعليمها السابق. وأصبحت معظمهن المعيل الوحيد لأسرتها وأطفالها، حتى إنهنّ، كلهنّ، سعين أوّل ما سعين، في كل منفىً جديدٍ مبهم، لتأمين روضات الأطفال ثم الشغل ثم الجامعة!

ولو عدنا إلى سؤال النساء، أو المكان: "وأية عدالة هي التي سترممني"؟

بانتظار العدالة الحقيقية المأمولة، لعلّ كتابة هؤلاء النساء لتجاربهن، أسهمت في جبر خواطرهنّ المكسورة، ولو قليلاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image