قد أخرج الغرب العديد من الفلاسفة والأدباء وأصحاب العقول الفذَّة الذين أتحفوا العالم بذكائهم وحنكتهم في الرد على من يحاولون السخرية منهم والتطاول عليهم، من أبرزهم الكاتب المسرحي جورج برنارد شاو (1856-1950) الذي كان له النصيب الأكبر في الردود المفحمة والذكية على كل من يهاجمه، والذي امتاز بأسلوبه الفريد في الكتابة والحديث حتى سمّي بــ"الكاتب الساخر"، وقال عن نفسه: "إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة، وعندما يكون الشيء مضحكاً فإنني أبحث عن الحقيقة الكامنة وراءه".
في العالم العربي يُعدّ بشار بن برد (714-784م) هو السبّاق إلى هذا الأسلوب الذي لا يقتصر على استطاعة الممازحة أو خبط النكتة، بل يقوم على ملكة عميقة يستطيع بها صاحبها أن يرى مفارقات الحياة ومتناقضات الطبيعة البشرية.
بدايات فن الرد لدى بشار
يقول الأصمعي عنه، كما ورد في كتاب "الأغاني" للأصفهاني: "كان بشار ضخماً عظيم الخلق والوجه، مجدولاً طويلاً، جاحظ المقلتين قد تغشّاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس عمى وأفظعهم منظراً".
يعد بشار بن برد السبّاق في الأسلوب الذي لا يقتصر على استطاعة الممازحة أو خبط النكتة، بل يقوم على ملكة عميقة يستطيع بها صاحبها أن يرى مفارقات الحياة ومتناقضات الطبيعة البشرية
ولعل هذا ما جعله عرضة للتنمر والسخرية، إلا أن بشار رغم ما كان يعانيه من العمى والمنظر كما كان يقال عنه، فقد كان يتمتع بقدرة في الردّ وإسكات الغير.
روى الأصفهاني في "الأغاني" أن بشار بن برد كان يقول الشعر منذ صغره، فإذا هجا قوماً جاؤوا إلى أبيه بردّ فشكوه، فكان يضربه ضرباً مبرحاً، فكانت أمه تغضب وتقول: كم تضرب هذا الصبي الضرير، أما ترحمه؟! فيردُّ عليها بالقول: ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي. فسمعه بشار فقال: يا أبتِ إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر، وإني إن ألممت عليه وأتقنته، أغنيتُك وسائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول "ليس على الأعمى حرج" ولمّا عادوا يشكونه قال لهم بردّ ما قاله بشار، فانصرفوا غاضبين وهم يقولون: فقهُ بُردٍ أغيظُ لنا من شعر بشار!
الأشكال التي اتخذها فن الرد المسكت عند بشار بن برد
من الأجوبة المضحكة التي تدلّ على قدرة بشار ومهارته في استخدام ثقافته لإقامة السخرية المهذبة، قال بن عبد ربه في "العقد الفريد" إن رجلاً كان يدعي الشعر، ويستبرده قومه فقال لهم: إنما تستبردوني من طريق الحسد. قال: بيننا وبينك بشار العُقَيلي، فارتفعوا إليه، فقال له: أنشدني، فأنشده، فلما فرغ قال له بشار: إني لأظنك من أهل بيت النبوة، فقال له: وما ذلك؟ قال إن الله تعالى يقول: وما علمناه الشعر وما ينبغي له.
كما أن هناك ردود على الإهانة التي كان يتعرض لها ممن يريدون النيل منه، فمن طرائفه المعجبة، وأجوبته المسكتة، منها ما دار بينه وآخر سأله: ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيراً منهما، فبمَ عوّضَك؟ فأفحمه بشار بردّه: بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
سلوكيات أبناء المجتمع المستهجنة في نظر بشار شكلت منطلقاً لبشار كي يصوب سهام رده الساخر دون أن تأخذه رأفة أو رحمة بأحد. وانطوت ردود بشار الساخرة على النصيحة كما في قوله لهلال بن عطية، وكان صديقاً له: يا هلال أتُطيعُني في نصيحةٍ أخُصُّك بها؟ قال: نعم. قال: إنك كنتَ تسرق الحمير زماناً، ثم تُبتَ وصرت رافضياً، فعُد إلى سرقة الحمير فهي والله خيرٌ لك من الرفض.
وانطوت ردوده في مرات عديدة على نوع من الاستهجان والاستنكار، إذ يذكر أنه مرّ يوماً بقوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها، فقال: مالَهم مسرعين؟ أتراهم قد سرقوها، وهم يخافون أن يلحقوهم ليأخذوها منهم؟
ولم يسلم منه الوعاظ فقد سمع قول أحدهم: من صام رجباً وشعبان ورمضان بنى الله له قصراً في الجنة، صَحْنُه ألف فرسخ في مثلها، وعُلْوُه ألف فرسخ، وكلّ باب من أبواب حجراته عشرةُ فراسخ في مثلها. فالتفت بشارٌ إلى قائده، وقال: "بِئْسَتْ والله الدارُ هذه في كانون الثاني"، كما ذُكر في كتاب "الأغاني" أيضاً.
وجاء في كتاب "الأجوبة المسكتة لابن أبي عون"، قيل لبشار: كيف معاناتك لوِردِك بالليل؟ فقال: وما الورد؟ قالوا: صلاة الليل. فقال: إن قمت بالليل للبول فكثير.
ورفعَ غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة، عشرة دراهم. فصاح به بشار، وقال: ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة لأعمى بعشرة! والله، لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة، ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.
ولم تكن جرأة بشار في ردوده مقتصرة على العوام والناس العاديين، بل كان جريئاً أمام السلطة الحاكمة؟ فيروى أن بشار رفض مجاراة الآخرين في نفاقهم والتطبيل للسلطة الحاكمة؛ فسأل المعلى بن طريف، مولى الخليفة المهدي، سأل مرةً الحاضرين من علماء وشعراء عن المقصود بالنحل والشراب في آية "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجرِ ومما يعرشون، ثم كلي من كلّ الثمرات، فاسلكي سُبلَ ربّك ذللاً، يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"، فقال بشار: النحل والشراب هما اللذان يعرفهما الناس. فقال له المعلى: "هيهات يا أبا..! النحل بنو هاشم والشراب هو علمهم". فقال له بشار: "أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم". فغضب المعلى وشتم بشاراً، وظن أنه نال منه مقتلاً عند الخليفة، فلما بلغ أمرهما المهدي دعاهما وحدثه بشار بالحديث، فضحك المهدي كثيراً حتى أمسك بطنه، كما ورد في "الأغاني" للأصفهاني.
كما أنه كان جريئاً في الرد في مجلس الخليفة: إذ دخل يزيد بن منصور الحميري عليه وهو واقف ينشد الخليفة المهدي شعراً، فلما فرغ بشار من إنشاده أقبل عليه يزيد بن منصور وقال له: "ما صنعتُك يا شيخ؟". فقال له بشار مستهزئاً: "أثقب اللؤلؤ". فضحك المهدي وقال لبشار: "أغربْ عن وجهي. ويلك، أتستهزئ على خالي؟". فرد بشار على الخليفة قائلاً: وما أصنع به! يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة مديحاً ويقول له: ما صناعتك يا شيخ! ومن طرق الباب سمع الجواب. وأنظر إلى أجوبته وردوده الساخرة أمام الخليفة وهو يجلد حتى الموت.
وجاء أيضاً في "الأغاني" للاصفهاني أنْ بشاراً هجا المهدي فجيء به إليه، وأَمر بضربه بالسوط، فضُرِب بين يديه. فكان بشار إذا أوجعه السوط يقول: حَسِّ! وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع. فقال بعضهم للخليفة: انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين، يقول: حَسِّ ولا يقول: باسم الله. فالتفت إليه بشار وقال: ويلك! أطعامٌ هو فأُسَمِّيَ اللهَ عليه؟! وقال له آخر: أفلا قلت الحمد لله؟ قال: أهي نعمة فأحمد الله عليها؟ فلما ضُرِب سبعين سوطاً بان الموتُ فيه، فأُلقي في سفينة حتى مات.
الردود الدبلوماسية لبشار عند استهجان أي شيء غريب في شعره
أورد الأصفهاني في "الأغاني" أن بشار خرج يوماً على الناس مغتماً، فسْئل عن سبب ذلك، قال بشّار بن برد: "رأيت حماري البارحة في النوم، فقلت له: ويلك لِمَ متَّ؟ قال الحمار: أنسيت أنَّكَ ركبتني يوم كذا وكذا وأنَّك مررتَ بي على باب الأصبهاني فرأيت أتاناً حمارة عند بابه فعشقتها، حتى متُّ بها كمداً؟ ثم أَنشدني الحمار:
سيِّــدي مَــل بعَناني/نحوَ بابِ الأصْبَهــــاني
إنَّ بـالبابِ أَتاناً/ فضلت كـــــلَّ أتـــــــــانِ
تيَّمتني يـومَ رِحنْا/ بثنـايـاهَـا الحِـسانِ
وبغنجٍ ودلالٍ/ســلَّ جسمِـــي وبرانِي
ولَهَــا خـــــدٌّ أَسيــــلُ/مثـل خـدِّ الشيفـرانِ
فبهـــا مِـتَُ وَلَــو عِشــتُ/إذاً طــال هـــوانِـــي
فقال له رجل من القوم، وما الشيفران يا أبا معاذ؟
قال بشار: هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته لكم مرَّةً ثانية. سألتهُ".
ويروى أنه كان يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بأشياء لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يوماً قوله: "غنِّني للغريض يابن قنان؛ فقيل له: مَن ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه بين المغنين في البصرة؟
فقال بشار: وماعليكم منه؟ ألكم عليه دَيْن فتطالبوه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟
فقالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجلٌ يغنِّي لي ولا يخرج من بيتي، فقالوا له: إلى متى؟ فقال: منذ يوم وُلد إلى يوم يموت!
اجتمعت في نفس بشار السخرية المُرّة مع النادرة المضحكة، وهذا يدل على أنه لم يكن ثقيلَ الظل دائماً، وإنما كان خفيفه أيضاً، حتى وصفه ابن المعتز في "طبقات الشعراء المحدثين" بقوله: "كان شاعراً مغلقاً ظريفاً محسناً، صاحب صوت حسن ومنادمة"
أغرب الردود وأعجبها تجاه الضيف الثقيل الذي لم يكن له عند بشار من حرمة، جاء في كتاب "نكث الهميان في نكت العميان للصفدي": "قال داود بن رزين: جئت بشاراً مع جماعة. فأذن لنا والمائدة موضوعة بين يديه، فلم يدعنا إلى طعامه. فلما أكل دعا بالطست، فكشف سوأته وبال. ثم حضرت الظهر والعصر والمغرب، فلم يصل. فقال له بعضنا: أنت أستاذنا. وقد رأينا منك أشياء أنكرناها. قال: وماهي؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا. فقال إنما أذنت لكم لتأكلوا. ولو لم أرد، ما أذنت لكم. قال: ثم ماذا؟ قلنا: دعوت بالطست فبلت، ونحن حضور. فقال: أنا مكفوف وأنتم المأمورون بغض البصر دوني. قال: ثم ماذا؟ قلنا: حضرت الظهر والعصر والمغرب، ولم تصل. فقال: الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة".
وقعد إلى بشار رجل يستثقله، فضرط عليه ضرطة. فظنّ أنها فلتة منه. ثم ضرط أخرى. ثم ضرط ثالثة. فقال له: يا أبا معاذ ما هذا؟ فقال بشار: أرأيت أم سمعت؟ فقال: بل سمعت صوتاً قبيحاً. قال: فلا تصدق حتى ترى. وأنشد:
ربما ثقل الجليس وإن كان/خفيفاً في كفّه الميزان
كيف لا تحمل الأمانةَ أرضٌ/حملتْ فوقها أبا سفيان
اجتمعت في نفس بشار السخرية المرة مع النادرة المضحكة، وهذا يدل على أنه لم يكن ثقيل الظل دائماً، وإنما كان خفيفه أيضاً، حتى وصفه ابن المعتز في "طبقات الشعراء المحدثين" بقوله: "كان شاعراً مغلقاً ظريفاً محسناً، صاحب صوت حسن ومنادمة".
كانت نفس بشار تميل إلى الدعابة والمرح على الرغم من المرارة التي غلبت عليها، وحاول أن يعوض نقصه الجسدي والاجتماعي بمزيد من الاعتداد بالنفس والفخر رافضاً التنازل أو الخضوع، متخذاً الردَّ الساخر سلاحاً لتغدو ردوده فناً من الفنون، وقيمتها في فوريتها وسرعتها، فهي تأتي كالقذيفة تسدّ فم السفيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 5 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري