شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الشاعر الساخر حين يبكي نثراً... ابن زيدون ورسالته الجدية

الشاعر الساخر حين يبكي نثراً... ابن زيدون ورسالته الجدية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 6 مايو 202301:03 م

لا تكاد تُذكر الأندلس في المجالس إلا ويتراءى للحاضرين طيف ابن زيدون ومحبوبته الشاعرة ولادة، ابن زيدون الشاب الوسيم القسيم والشاعر الساحر الساخر. فمن الطبيعي القول أن ابن زيدون كان ظاهرة من ظواهر عصره، سياسياً بارزاً و شاعراً مشاكساً وأديباً منافساً، لا يقل نثره رونقاً وأهمية عن شعره.

وقد رفع نثره لمقام سامق في رتبة الأوائل من الكتاب المبدعين، كتابته محبّرة بالألفاظ الجزلة والصور البديعة مع استدعاء التاريخ بحوادثه وعظائمه، ومحاولة إسقاطه على حاضره الحالك وهنا أقصد الفترة التي قضاها في محبسه ويكأنه ملك الكنارات وأمير الحساسين يشدو من خلف القضبان راغباً عن كل لذة، زاهداً عن كل متاع. ولقد انبلج عن تلك الليالي الليلاء التي قضاها الشاعر الأموي ابن زيدون، رسالته الجدية، والتي تعتبر من أهم الرسائل التي كتبت في عصره، والتي كان لها أثر و تأثير لا متناهي على إرث أسلافه من الأدباء والكتاب.

كيف وضع الطير في محبسه

على الرغم من حياة ابن زيدون المليئة بالمتاعب والمصاعب وقضائه 500 يوم من عمره في الحبس، وهو الذي عاش شطر حياته في الغربة، إلا أنه يوضع على رأس الشعراء والكتّاب في عصر ملوك الطوائف. لم يكن ابن زيدون الذي يرجع أصله إلى بني مخزوم رياحين قريش شاعراً مبدعاً فقط بل كان له في النثر وأدب الرسائل سابقة.

ولا يفوتنا هنا أنه في عصر ملوك الطوائف قد تقدمت الأندلس تقدماً مهماً في شعرها ونثرها، وكأنما انقسامها لممالك صغيرة ساهم في نشاطها الأدبي الكبير، حيث أصبح لكل مدينة حاكم مستقل، وسعى كل حاكم – بسبب ما بينه وبين الحكام الآخرين من تنافس – إلى تشجيع الحركة العلمية والأدبية في وطنه ومقر حكمه.

كان حال ابن زيدون في السجن، كحال طائر الحسون الذي كان ينتقل من فننٍ إلى فنن في زهوة الربيع، شادياً بأندى ما حباه الله من لطيف الشعر وسلاسة الوصف

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ما أهم الأسباب التي دفعت ابن جهور لزج خيّرة وزرائه ابن زيدون في الحبس وما علاقة ولادة بكل ماحدث؟

إن علاقة الحب العميقة والرقيقة التي تمكنت من فؤاد ابن زيدون و ولادة بنت المستكفي، وقدرته على استلال حسام الشعر وإشهاره له بوجه المنافسين، ليقطع به الألسنة المسمومة و أيضا ليصم أذني محبوبته الرّاسخة في الحسن عن كلام الحاسدين والمبغضين، ضف على ذلك مكانته العالية عند الملوك في سفاراته، وحضوره السياسي الذي كان يطغى على حضور الوزراء الأخرين، قد دفعت بعض الحاسدين للعمل على إيقاع الأذى به بإيقاع الفتنة بينه وبين سيده ابن جهور.

كتابته محبّرة بالألفاظ الجزلة والصور البديعة مع استدعاء التاريخ بحوادثه وعظائمه، ومحاولة إسقاطه على حاضره الحالك.

الأمر الذي دفع الأخير للتوجس منه وإساءة الظن بابن زيدون، فواقع البلاد المليء بالاضطرابات والقلاقل والفتن المتواترة كان عاملاً أساسياً على تصديق ابن جهور لكلام المبغضين عن نية ابن زيدون وهو الوفي له وكل ولاؤه له، بالقول أنه يعمل على إعادة ملك الأمويين متخذين من قصة حبه ذائعة الصيت لولادة الأموية برهاناً قوياً على صحة ما يدّعون ويتقولون برهاناً يضاف لبراهين وأدلة أخرى.

وللأسف نجحوا بتلفيق تهمة اغتصابه لعقار ما، واقتيد من أجل هذه التهمة الملفقة للمحكمة، وحكم عليه القاضي ابن مكوي بالسجن. وهنا تظهر أصابع ابن جهور في هذه الجريمة المرتكبة بحق ممن يصفونه زوراً وبهتاناً بالمجرم، فقد تم قبيل المحاكمة عزل القاضي ابن ذكوان الذي كان صديقاً مقرباً لابن زيدون من ولاية القضاء، وعيّن مكانه القاضي ابن مكوي في محرم سنة 432 للهجرة، الذي حكم على ابن زيدون بشكل سريع بالسجن لعداوة قديمة بينهما.

حينما يبكي الشاعر نثراً

كان حال ابن زيدون في السجن، كحال طائر الحسون الذي كان ينتقل من فننٍ إلى فنن في زهوة الربيع، شادياً بأندى ما حباه الله من لطيف الشعر وسلاسة الوصف،وإذا به في حين غرة، يجد نفسه رهين الحبس والظلام والخريف الذي احتل كل الفصول، السبب الذي أثار إعصار الشعر والنثر في نفسه وروحه، متخبط بين اليأس والأمل، حيران بين القنوط والرجاء، الشيء الذي انعكس بوضوح على رسالته الجدية والتي تعتبر و شقيقتها الهزلية من أطرف أثاره الأدبية، فنجده يستهلها باستعطاف ومن ثم يحاول تقليل جرمه المبتلى به بمقارنته بأمور دينية أخرى مستحضراً التاريخ وموثقاً كتابته بالشواهد القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ومن ثم يتكلم بعنفوانه المحمود وكبريائه المعهود. حيث نجده يقول: ليت شعري ما هذا الذنب الذى لم يسعه عفوك، والجهل الذى لم يأت من ورائه حلمك... وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا فقلت: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وأمرت ببناء الصّرح (لعلّى أطّلع إلى إله موسى) وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من ماء النهر الذى ابتلى به جنود طالوت، وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر في بني قريظة، وجئت الإفك على السيدة عائشة الصّدّيقيّة، وأنفت من إمارة أسامة، ومزّقت الأديم الذى باركت يد الله عليه، وضحيّت بالأشمط، ورجمت الكعبة.

طائر الحمام الذي لا يسجع

أما من الناحية الأدبية، فنجد أن ابن زيدون لم يستخدم أسلوب السجع الدارج في عهده، لا لضعف لغته أو سقم أسلوبه بل لأن السجع لا يلبي غايته في رسالته، وبسبب هذا الأمر أيضاً نجده يقصر عن استخدام البديع وزخارفه في رسالته، وبالمقابل يستخدم اللغة الغير واضحة والتي يتخللها شيء من الغموض، مع ا استخدام واسع لقصص القرآن الكريم والدين الإسلامي.

من يقرأ الرسالة بتمعن يجد أنها عبارة عن عقد قصائد شعرية يردف بعضها بعضاً، مدبجة بأحسن الألفاظ و أدهى الأساليب وأجدى التراكيب، لكنها طوقٌ شعري قام صاحبه بفرط عقده وتفكيكه ليفرش به أرض اللغة

والجدير بالذكر، أن كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، الذي ألفه أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني (450-542 ) هجرية، وهو من أعلام الكُتَّاب والنقاد الأندلسيين، في القرنين الخامس والسادس الهجريين. تعقب ظاهرة السجع لدى عموم الكتاب، فعرض لكل كتّاب كل مدينة عرضاً مفصلاً، ومن يرجع إليه في كتابه المذكور يلاحظ أن الكتّاب كلهم يستخدمون السجع في كتاباتهم. وهنا نجد أن ابن زيدون كسر التقاليد المتبعة في الكتابة وخرج من عباءة السجع لكي يصل غايته ويوصل رسالته بشكل واضح لسيده ابن جهور.

ومن يقرأ الرسالة بتمعن يجد أنها عبارة عن عقد قصائد شعرية يردف بعضها بعضاً، مدبجة بأحسن الألفاظ و أدهى الأساليب وأجدى التراكيب، لكنها طوقٌ شعري قام صاحبه بفرط عقده وتفكيكه ليفرش به أرض اللغة، فالعديد من جملها تتكئ على الأمثال المرسلة والأبيات المفرّقة والقطع شعرية المتواصلة مع بريق جمان الصور وجمال الأسلوب و روعة المفردة التي يستساغ فهمها وتقصي غايتها.

وهذا الأمر استرعى انتباه الأدباء من قبل فعكفوا على دراستها شرحاً وتفسيراً، مما زادها شهرة عن شهرتها السالفة، وأضحت مرجعاً للكثير من الكتاب المعاصرين واللاحقين لابن زيدون.

وخير شاهد على ذلك كتاب "تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون" لابن مدينة صفد في فلسطين، صلاح الدين الصفدي (1296-1363) ميلادية، وواضح من كلمة المتون التي اختارها اسما لكتابه أنه شعر أن الرسالة تشبه المتون لكثرة ما فيها الأمثال وغير الأمثال، مما يدلل على أهمية عطاء نبع بيان ابن زيدون، الذي لا يمحل أو يمحى على امتداد الدهور وتعاقب العصور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image