"كنت أحمل طنجرة فارغة متجهاً للتكية القريبة من خيمتي، للحصول على بعض الطعام لعائلتي. فجأة تغير لون السماء، واستبدل ضوء النهار بالعتمة والغبار. أصابتني إغماءة قصيرة، وكنت كلّما حاولت النهوض، أجد أقداماً تتراكض من حولي. وقفت. كأني نسيت كيف كنت أمشي".
هكذا وصف خليل مقداد (47 عاماً) لرصيف22، اللحظات الأولى من مجزرة مواصي خانيونس، التي ارتكبتها إسرائيل أمس السبت 13 تموز/ يوليو 2024، فقتلت أكثر من 90 فلسطينياً وجرحت أكثر من 300 في ضربة واحدة.
"شعرت بأنني أعيش داخل لعبة رعب مصنوعة بالذكاء الاصطناعي"، يقول خليل النازح من شمال غزة إلى منطقة المواصي.
استجمع خليل قواه، وتذكر بأن ابنه كان معه، فصار يتلفّت ويدور حول نفسه. ويتفقد ملابسه وجسده دون وعي. ثم صرخ: أين ابني؟
فقد خليل والنازحون في المكان إحساسهم بمحيطهم الذي انهالت عليه الصواريخ الثقيلة، فأبادت في طريقها كل شيء حي.
ليتبين بعد لحظات حجم المجزرة التي عُدّت الأكبر، من حيث عدد الشهداء والجرحى، في منطقة روَّج الجيش الإسرائيلي لها بأنها منطقة "إنسانية آمنة"، وأمر الغزيّين بالنزوح إليها في أيار/ مايو الماضي.
ليخرج على الفور بيان للجيش الإسرائيلي والشاباك، ومن ثم تصريح لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مؤكداً بأن العملية كانت استهدافاً لقائد الجناح العسكري لحركة حماس، محمد ضيف.
فيما نفت الحركة بدورها صحة هذا الخبر، وقالت على لسان نائب رئيسها: "إن ضيف يستمع الآن إلى مقولات نتنياهو ويهزأ منها".
اللحظات الأولى من المجزرة
وفيما انشغل العالم باستهداف محمد ضيف، وإنكار استهدافه، كان النازحون في مواصي خانيونس يلملمون أشلاء شهدائهم، وينقذون جرحاهم، وينقلونهم إلى مستشفى ناصر والمستشفى الكويتي، الذين لا يمتلكان القدرة على استيعاب هذا الكم من الضحايا في ظل انهيار المنظومة الصحية بسبب الحرب والحصار.
هدأ القصف، لكن أصوات الناس كانت تتعالى بالصراخ والنحيب. وكعادة أهل غزة، لا يهرب أحد من صوت القصف، بل يهرع الجميع باتجاه المكان كي ينقذوا من يمكن إنقاذه من الناس.
يقول خليل: "وجدت ابني ينزف على جانب الطريق. ربما طيّره ضغط الهواء جراء القصف، أو أزاحه أحد عن الطريق كي لا يموت دهساً".
ويردف: "لم أجد جسد ابني كاملاً. كان مضرجاً بالدماء والكدمات دون قدمه اليسرى. مسحت وجهه من الدم والغبار، وتأكدت من أنه لا يزال حياً".
"وددت للحظة أن أسحبه من يده ونجري كما كنا نفعل في السابق. لكني أدركت بأنه لن يستطيع ذلك. فحملته وتناوله مني أحد المسعفين، وأنا أصرخ: هذا ابني.. فقد قدمه، فقد قدمه".
ويضيف بحسرة: "طلب ابني مني أن أحضر له قدمه المقطوعة ليودعها. وبناءً على رغبته عدت عصراً لتفقد المكان، لكني لم أجد قدمه".
وجد خليل الناس يحملون ابنة أخيه شهيدةً. عرفها من ملابسها التي أهداها إياها قبل أسبوعين، ومن شامة أنفها التي استطاع بالكاد أن يتبيّنها.
طلب ابني مني أن أحضر له قدمه المقطوعة ليودعها. وبناءً على رغبته عدت عصراً لتفقد المكان، لكني لم أجد قدمه
هذه أشلاء بشر كان يضحكون قبل دقائق
تصف أمينة أبو ريدة (31 عاماً)، النازحة من شمال غزة إلى منطقة المواصي، شعورها لحظة وقوع المجزرة قائلة: "فجأة، بدون أية مقدمات، سمعت زعيق صاروخ يشق الفضاء، وشعرت بأن ضغط الهواء من حولي بدأ بالتخلخل، وكأن قلبي سقط من مكانه".
"صاروخ، اثنان، ثلاثة، ضربات متتالية من البحر، الناس تجري وحالة هلع في المكان، خوف كبير، ولا أحد يعرف ما الذي حدث"، تقول أمينة.
وتضيف: "اتجهت لأبحث عن أخي الصغير، فوجدت نفسي في بركة من الدماء، أمشي فوق أشلاء كثيفة متناثرة على الأرض. هذه أشلاء بشر كانوا يضحكون معنا قبل دقائق، ويعيشون حالة النزوح البشعة منذ عشرة أشهر".
لا تخفي أمينة شعورها العارم بالصدمة، ولا تدري إن كانت ستتعافى من هول ما رأت. "لقد شعرت بأن الحياة امتلأت بالأشباح الجائعة في لحظة. لربما تقضم جسدك، رأسك، يدك، قدمك. وإن لم يحدث أي من هذا، فقد تمحوك إلى الأبد".
مجزرة بأسلحة أمريكية
يتحدث لرصيف22 المحلل السياسي والباحث يحيى قاعود، يقول: "عملية الدفع الإجباري التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي تجاه السكان من شرق القطاع إلى غربه، جعلت الكثافة السكانية لأهل غزة كبيرة جداً في مناطق محددة، وهو ما يتسبب في إيقاع عدد كبير من الضحايا تحت أي قصف، سواء أكان موجهاً أو عشوائياً".
وعلى الرغم من أن مصادر إعلامية إسرائيلية كشفت عن نوع القنابل التي استخدمت في المجزرة، بوصفها قنابل دقيقة كان هدفها استهداف محمد ضيف، إلا أن كثافتها تسببت بدمار هائل جعل النازحين وخيامهم يُدفنون تحت الأرض.
وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية كشفت عن أن الطيران الحربي الإسرائيلي ألقى في مجزرة مواصي خانيونس ثماني قنابل من طراز JDAM أمريكية الصنع.
وهي قنابل متطورة وموجهة بالليزر وتعتمد على الذكاء الاصطناعي وعلى تكنولوجيا استشعار متقدمة.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه القنابل كانت موضع الخلاف الأخير بين واشنطن وإسرائيل حول شحنة الأسلحة، والتي تحتوي على ذخائر الـJDAM وهي قنابل بدأ استخدامها عام 1997، تُثبّت على قنابل غير موجهة توصف بالغبية، فتقوم بتوجيهها وتحولها إلى أسلحة ذكية.
هل تعطل المجزرة مسار المفاوضات؟
ترتكب إسرائيل هذه المجزرة إثر حدوث تقدّم يعتبر الأفضل في مسار المفاوضات بين إسرائيل وحماس، وذلك بعد أن وافقت حماس مطلع الشهر الحالي على مقترح وقف إطلاق النار عبر الوسطاء ومدح موافقتها مسؤولون إسرائيليون.
فور حدوث المجزرة، صرّح مصدران أمنيان مصريان لوكالة "رويترز" بأن مفاوضات وقف إطلاق النار توقفت بعد مفاوضات مكثفة استمرت لثلاثة أيام وفشلت في التوصل إلى نتيجة.
وألقى المصدران اللوم على إسرائيل لعدم وجود نية حقيقية لديها للتوصل إلى اتفاق.
علماً بأن هيئة البث الإسرائيلية كشفت الأحد 14 تموز/ يوليو 2024، نقلاً عن مصدر غربي مطلع على المفاوضات، بأن اللقاء المرتقب، في سياق المفاوضات، بين رئيس الموساد ديفيد برنياع وقطر لا يزال قائماً حتى اللحظة.
ترتكب إسرائيل هذه المجزرة إثر حدوث تقدّم يعتبر الأفضل في مسار المفاوضات بين إسرائيل وحماس، وذلك بعد أن وافقت حماس مطلع الشهر الحالي على مقترح وقف إطلاق النار عبر الوسطاء ومدح موافقتها مسؤولون إسرائيليون
يوضح قاعود بأن ادعاءات نتنياهو بأنه يواصل الضغط السياسي والعسكري على حماس كي تقدم التنازلات، هو حديث مضلل للمجتمع الدولي والإسرائيلي. فكل ما يقوم به هو قتل المدنيين وتدمير التجمعات السكانية الفلسطينية الآمنة.
"بإمكان الجيش الإسرائيلي مهاجمة حماس لو أراد. لكنه يتخذ مسألة استهداف قيادييها كذريعة لمهاجمة الآمنين الفلسطينيين، وهو ما حدث في مجزرة المواصي والمعمداني وغيرها من المجازر، خاصة وأنه يفعل ذلك بمباركة وصمت من العالم"، يضيف.
وكان بنيامين نتنياهو خرج في مؤتمر صحافي البارحة ليقول إنه "بارك عملية المواصي بعدما عرضها على الشاباك، وبعد علمه بعدم تواجد أسرى إسرائيليين في محيط العملية".
وتجيء هذه "المباركة" وسط تعتيم إعلامي إسرائيلي على المجزرة، التي بالكاد أتت على ذكرها وسائل الإعلام الإسرائيلية، مع التركيز على رواية استهداف محمد ضيف.
وفي حين تدرجت الرواية في الصحف الإسرائيلية من خبر اغتيال محمد ضيف، إلى محاولة اغتياله، إلى عدم تأكيد تصفيته. أكدت حركة حماس أن ضيف لم يتواجد في منطقة مواصي خانيونس، ونفت تعرضه لمحاولة اغتيال.
فهل سيضع هذا النفي إسرائيل أمام أية مسؤولية دولية تجاه إبادة المدنيين؟ سيما وأنها صرّحت على لسان مسؤولين أمنيين بأنها كانت على علم بأن هذه العملية سوف توقع أعداداً كبيرة من المدنيين، أم أن المجزرة ستمر مرور الكرام على غرار سابقاتها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.