لعلّ اقتحام إسرائيل الأوّل لمجمّع الشفاء الطبّيّ في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 مهّد لما يمكن تسميته "تطبيعاً" دوليّاً مع جرائم الحرب الإسرائيليّة واختراق المواثيق الدوليّة التي تحمي المنشآت الصحيّة. فجاء السكوت الدوليّ عن الاقتحام الأوّل بمثابة ضوء أخضر أمام الاقتحام الثاني الذي بدأ ليلة 18 آذار/ مارس 2024.
يشاهد العالم، ببثّ حيّ، شهادات الناجين الذين خرجوا بالإكراه، حفاةً وعراةً، من المستشفى. لكن ما يخفى داخل جدران المجمّع لا يزال رهن الحصار والمذبحة المغلقة التي يرتكبها الجيش الإسرائيليّ في مكان يقول الغزيّون إنّهم خُدعوا في الآونة الأخيرة حين ظنّوا بأنّه مكان آمن. إذ قام الجيش بتأمين المساعدات على باب المستشفى وبتوفير الكهرباء والانترنت داخل مبانيه. فنزحت إليه أعداد كبيرة من الغزيين الذين يواجهون المجاعة في الشمال. ليتبيّن أنّ ثمّة نيّة مبيّتة لاقتحامه ولتهجير النازحين منه، ولاقتلاع السكان من محيطه، ولارتكاب الفظائع من إعدامات ميدانيّة واعتقالات وتنكيل وترهيب، على مرأى من العالم.
هربت من نار المجاعة إلى جحيم الاحتلال
صحيح أن أميرة وليد (32 عاماً) نجت من حصار المستشفى مع أولادها، إلا أنّ مشاهد الموت والإعدامات لا تزال حاضرة أمام عينيها. "نزحت إلى مجمّع الشفاء الطبّيّ مع طفلاي هروباً من المجاعة في مخيّم جباليا. خفت أن يموتا من الجوع. سمعنا عن توافر الأكل والشرب والكهرباء قبل اقتحامه بيومين، فنزحنا"، تقول أميرة لرصيف22. وتردف: "أقمنا ليلتين وإذ بجنود الاحتلال يقتحمون المستشفى وسط قصف عنيف. ارتعبت كأنّ القيامة قامت". تؤكد أميرة أنّ الجنود أرغموا النازحين على الخروج تحت زخّات الرصاص على نوافذ المستشفى فوق رؤوس النازحين.
لم أجرؤ على النظر من الشبابيك خوفاً من أن يقنصني الجنود، الذين قاموا بإعدام شاب بجواري حين أطلّ هذا من شبّاك إحدى الغرف. شاهدت دمه وهو ينزف حتّى آخر رمق، ولم يستطع أحد إنقاذه
"كنّا ننبطح أرضاً بين الممرّات. صراخ الأطفال والنساء كان مدويًا. لم أجرؤ على النظر من الشبابيك خوفاً من أن يقنصني الجنود، الذين قاموا بإعدام شاب بجواري حين أطلّ هذا من شبّاك إحدى الغرف. شاهدت دمه وهو ينزف حتّى آخر رمق، ولم يستطع أحد إنقاذه".
خرجت أميرة وسط الصراخ والبكاء، ممسكة بطفليها، خائفةً من إعدامهما أمامها. فطلب الجنود منها الوقوف في طابور برفقة مجموعة من النساء بهدف التحقيق معهنّ، "تعرضت النسوة للشتم والألفاظ النابية. منهنّ من تعرضن للسحل أمام أطفالهنّ. تعرضنا للتحقيق، وقوفاً، مدّة 24 ساعة. وشاهدنا جثثاً داستها الدبابات ونهشتها القطط. شاهدنا جرحى عائمين بدمائهم ولم يجرؤ أحد على إنقاذهم"، تقول أميرة، التي أُمرت بالمشي بخط مستقيم مع بقيّة النسوة، وعدم الالتفات يميناً أو يساراً، والتوجّه إلى الجنوب".
لعبة الغميضة مع الجنود
في آخر مكالمة بين نهاد (28 عاماً، اسم مستعار) وزوجها رامي، الذي حوصر في المستشفى ثم نجا من الموت وانقطع الاتصال بينهما، قال لها إنّ جنود الاحتلال الإسرائيليّ اقتحموا المستشفى عند الثالثة فجراً. أرسل رامي (اسم مستعار) في تلك اللحظة رسالة لزوجته النازحة في رفح رسالة نصيّة يوصيها على نفسها وعلى الأولاد ويخبرها بأنّ الجيش سيطر على المستشفى. "قال لي رامي: نحن محاصرون بين أروقة المستشفى. لا نستطيع التحرّك من مكاننا أو حتّى للذهاب إلى الحمّام. من يتحرّك تقوم مسيّرة "كواد كابتر" بإطلاق النّار باتجاهه. وطائرات الاحتلال الحربيّة تقصف ساحة المستشفى بالأحزمة الناريّة"، تقول نهاد لرصيف22.
نقل رامي لنهاد مشاهد مروّعة حصلت على مرأى منه، رأى فيها دبّابات الاحتلال الإسرائيليّ وهي تدوس النازحين أثناء نومهم في الخيام وتحت الشجر. كذلك، دخل الجنود بين أقسام المستشفى ونادوا الرجال عبر مكبّرات الصّوت، آمرين إيّاهم بالنزول إلى الأسفل. وأخبروهم بأنّهم سوف يلعبون معهم لعبة الغمّيضة. ومن سيخالف الأوامر، سيعرّض نفسه للقتل. "نزلنا جميعاً، يقول رامي، ثمّ قاموا بإجبارنا على خلع ملابسنا. وقفنا عراةً في ساحة المستشفى في البرد، معصوبي الأعين، مكبّلي الأيدي".
تقول نهاد: "قبل اقتحام مستشفى الشفاء بأيّام، أخبرني زوجي خلال مكالمة هاتفية أنه سيبقى نازحاً في المستشفى لأنّ الاحتلال سمح بإدخال الماء والطعام للنازحين. كذلك، سمح بتوفير الكهرباء والإنترنت. ما دفع بنازحين كثر إلى نصب خيامهم في المستشفى. فتبيّن أنّ تلك كانت مجرّد خدعة أوهمت النازحين بوجود حياة آمنة في الشفاء، حتّى قام الجيش باقتحامه على حين غرّة".
أخذونا مكبّلي الأيدي، معصوبي الأعين، وأمامنا طائرة مسيّرة، كواد كابتر، تطلق نيرانها بشكل كثيف. وقفنا نحو عشر ساعات متواصلة والأمطار تتساقط علينا والبرد ينهش أجسادنا
لم يسلم من كان في محيط المجمّع
أمّا الناجي الثلاثيني محمد أبو كميل فروى لرصيف22: " في الثامن عشر من آذار/ مارس 2024، وعند الفجر، استيقظت على صوت إطلاق نار كثيف جداً في محيط مستشفى الشفاء. ثمّ بدأ إطلاق النّار يتّجه نحو شقتي. انبطحنا أنا وزوجتي وأطفالي أرضاً لليلة كاملة".
في صباح اليوم التالي، يدقّ شخص باب شقة محمد. وحين فتح الباب وجد شخصاً عارياً، مكبّل اليدين، يدعوه وعائلته إلى النزول. فنزل وأجبر على خلع ملابسه وعلى المشي منفصلاً عن زوجته. "تعمّدوا إذلال الرجال أمام نسائهم. أخذونا مكبّلي الأيدي، معصوبي الأعين، وأمامنا طائرة مسيّرة، كواد كابتر، تطلق نيرانها بشكل كثيف. وقفنا نحو عشر ساعات متواصلة والأمطار تتساقط علينا والبرد ينهش أجسادنا".
تعرّض محمد للإصابة نتيجة التنكيل به أثناء اعتقاله. "أصبت بحالة من الارتجاف والصعوبة في التنفس خوفاً على عائلتي التي لا أْعرف شيئاً عنها منذ اعتقالي"، يقول محمد. ويؤكد أنّ الاحتلال فحص المعتقلين عبر بصمة العين قبل إطلاق سراحهم. "من شدة صدمتي حين نجوت، لم أتفوه بأي كلمة، ركضت في الشارع دون ملابس، مكبل اليدين، حتى وصلت إلى بيت صديقي في حالة صعبة".
أمّا الصحافي العشريني أسامة العشي، فنجا بمعجزة. ووثّق خروجه مع عائلته بعد ثلاثة أيّام حوصروا فيها بين أضراس القتل الإسرائيليّ. "انتظار الموت أصعب من الموت نفسه"، يقول أسامة لرصيف22، مضيفاً: "خرجت أنا وعائلتي بأعجوبة من شقتنا المحاصرة بمحيط مجمّع الشفاء. كنّا ننام في المطبخ، ننام ونستيقظ دون أيّ حركة. لم نكن نجرؤ على رفع رؤوسنا، لا نشتم سوى رائحة الباروود والدم". ذكر أسامة أنّ عمارة عمته غرب مستشفى الشفاء كانت تحترق قبالتهم جرّاء القصف، ولا أحد يستطيع إنقاذهم.
من شدة صدمتي حين نجوت، لم أتفوه بأي كلمة، ركضت في الشارع دون ملابس، مكبل اليدين، حتى وصلت إلى بيت صديقي في حالة صعبة
التطهير العرقيّ عبر تدمير المنظومة الصحيّة
هذه المرّة، لم تتذرّع إسرائيل بوجود أنفاق تحت الشّفاء. وكشفت بشكل علنيّ عن أرقام المعتقلين والشهداء. فقال الجيش في بيان صدر في 21 آذار/ مارس 2024 إنّه اعتقل نحو 600 شخص، وقتل 140 آخرين خلال اقتحامه المستشفى. من جهتها، لا تستطيع وزارة الصّحة الفلسطينيّة أن تتأكد من أعداد الشهداء والمعتقلين بسبب الحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال على المستشفى حتّى اللحظة.
وأكد بيان للمرصد الأورومتوسّطيّ أنّ قوات الاحتلال استخدمت مدنيين من المرضى والنازحين داخل مجمع الشفاء دروعاً بشرية لتحصين عملياتها العسكريّة داخل المستشفى أو إرسالهم تحت التهديد إلى منازل وبنايات سكنية في محيط المستشفى كي يطلبوا من سكّانها الإخلاء.
يذكر أنّ الاحتلال كرّر نفس السيناريو في مستشفى ناصر والأمل جنوب القطاع، بعد أيّام من اقتحام مستشفى الشفاء. يُعتبر تدمير المنظومة الصحيّة وسيلة يتّبعها الاحتلال كي يجعل هذه المناطق في غزّة عصيّة على العيش الآدميّ، وبالتالي يسهّل عليه أن يهجّر سكانها ضمن مشروع التطهير العرقيّ الذي ينتهجه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.