أعلن رئيس الوزراء الاسرائيليّ بنيامين نتنياهو مطلع الأسبوع الجاري عن موافقته على مقترح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي يقيّد وصول الفلسطينيين من أراضي 48 إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، ومنع الفلسطينيين من الضفّة الغربيّة بالدخول بشكلٍ كليّ. فتم تحديد أعمار فلسطينيي الداخل من خلال منع من هم بين 10 و 60 عاماً من دخول المسجد لأداء الشعائر الرمضانية.
هذه ليست المرّة الأولى الّتي تحاول فيها الحكومة الإسرائيلية منع الفلسطينيين من الوجود داخل المسجد الأقصى خلال شهر رمضان. ففي عام 2021، وأثناء هبّة أيار/مايو، حاولت الحكومة منع المصلّين من الوصول إلى المسجد، وذلك من خلال فرض رقابة أمنية مشددّة على مداخل ومخارج مدينة القدس. لكن التكاتف الجمعي الذي حصل بين الفلسطينيين، على اختلاف أماكن وجودهم، أفشل المخطّطات الإسرائيلية. انتشرت حينذاك الصّور والفيديوهات للفلسطينيين في الداخل وهم يدخلون مدينة القدس سيراً بعدما منعتهم الشرطة من الوصول بالحافلات والسيارات. كما دخل الفلسطينيون من الضفّة الغربيّة من خلال التسلل من الجدار الفاصل أو الوقوف في طوابير تستمر ساعات طويلة على حواجز الاحتلال.
لا شكّ أنّ أهم الأهداف الاسرائيليّة في المسجد الأقصى، تاريخيّاً، هو فرض السيطرة العسكرية والأمنية بشكلٍ كليّ، والتّحكم بساعات الصّلاة وأيام الدخول للمسلمين إلى المسجد، والسّماح للمستوطنين المتطرفين أن يؤدّوا صلواتهم كما يحلو لهم داخل ساحات المسجد الأقصى. لكننا اليوم نقف أمام واقع مغاير لما كان خلال السنوات الماضية.
كلّ المشاهد الّتي عكف الصّحفيون والناشطون على توثيقها لم تُحرّك الفلسطينيين في الداخل خلال الأشهر الخمسة الماضية. فلم تخرج إلّا مظاهرة واحدة يتيمة في مدينة أم الفحم
الصّمت المتفرّج على الإبادة
منذ بداية الحرب على غزة في 7 تشرين أوّل/ أكتوبر الماضي، والفلسطينيون في الداخل يلتزمون صمتاً حذراً، لا سيّما بعد إعلان وزير الأمن الداخلي بن غفير عن استخدامه جميع أساليب القمع الممكنة لمنع تكرار ما حدث عام 2021 خلال أحداث الشيخ جرّاح والحرب على غزّة، حيث شكّلت الهبّة الشعبيّة في الداخل، والّتي ساندت سائر الجبهات، سبباً مهماً ورئيساً في انتهاء الحرب على غزّة بشكل سريع، وفي كبح قدرة المنظومة الأمنية منع الفلسطينيين من الدخول إلى المسجد الأقصى.
تقوم الشّرطة الاسرائيليّة، منذ اشتعال الحرب، باعتقالات تعسفيّة للفلسطينيين في الدّاخل، وتُلصق بهم اتهامات خطيرة من الممكن أن تحمل أبعاداً قاسية بالنسبة لهم كدعم الإرهاب أو مساندة منظمات تعتبرها إسرائيل منظمات إرهابية. وقد تُلصق هذه التهم جرّاء أبسط أشكال المساندة لشعب غزّة. فقد يكون ثمن كتابة منشور على فيسبوك أو نشر قصة على إنستاغرام، باهظًا، يتجسّد في فقدان الحرية أو الإقالة من مكان العمل أو الفصل من المؤسسة التعليميّة أو سحب المواطنة والنفي خارج البلاد.
اعتقلت إسرائيل خلال الأشهر الخمسة الماضية عشرات الفلسطينيّين، ألصقت بهم عشرات التُّهم الخطيرة، لأسباب تافهة كنشر آية قرآنيّة على مواقع التواصل الاجتماعية. وقد استخدمت القوة المفرطة عند الاعتقال من البيوت، كتدمير الممتلكات واستخدام العنف مع بقية أفراد العائلة حتّى يلزموا الصّمت، والتهديد في القتل في بعض الحالات. هذا البطش المستمر، والّذي يشبهه الفلسطينيّون بفترة الحكم العسكري ما بعد احتلال فلسطين حتّى عام 1967، وضع الفلسطينيين في الداخل في حالة صمتٍ مطبق. فها هم يخشون حتى الحديث مع أنفسهم عن الإبادة، كي لا تكون يستفيقون على تهمة تجعلهم يتعفنون بين جدران السجون.
يُتم فلسطينيي 48
لكن كلّ ما ذُكر آنفاً، لا يعفي الفلسطينيّ، أينما وُجد، من صمته أمام إبادة أبناء شعبه في قطاع غزة، الشّعب الّذي يُبادُ بالصّواريخ، وطائرات الـ F16 والكوادكابتر والبوارج الحربية، والتجويع والشيطنة والتعطيش، حتى بات الناس يخرجون إلى مواقع التواصل عارضين أعضاءهم البشرية للبيع مقابل مبلغ من المال للنّجاة من المذبحة الّتي تُمارس بحقّهم، بادّعاء محاربة فصيل فلسطينيّ واحد يحكم القطاع.
كلّ المشاهد الّتي عكف الصّحافيون والناشطون على توثيقها لم تُحرّك الفلسطينيين في الداخل خلال الأشهر الخمسة الماضية. فلم تخرج إلّا مظاهرة واحدة يتيمة في مدينة أم الفحم، اعتقل إثرها المحامي أحمد خليفة وزميلاه المنظمان للمظاهرة، ليكونا بذلك كبش الفداء، حتى لا يخرج أحدٌ بعدهما ويفكّر بالمساندة.
أغلقت الحكومة الاسرائيليّة، بناءً على معلومات خاصّة سُرّبت من بعض العاملين في بعض المؤسسات الخيرية، الحسابات البنكية لهذه المؤسسات بعدما أعلنت عن جمعها تبرعات للقطاع الصّحي في غزّة. وبذلك، سكتت بقيّة المؤسسات خشية إغلاقها وسحب الأموال والترخيص منها.
لا يجد الفلسطينيون في الداخل، بعد خمسة أشهر من الإبادة، قائداً سياسيّاً واحداً قادراً على النهوض من تحت مناصب الكنيست وتجنيد قواه لحشد أبناء مجتمعه كي يقفوا وقفة شعبٍ واحدٍ مع الأهل في غزّة. أما على المستوى الفرديّ، فالكثير من الأشخاص المحسوبين على المثقفين والكُتّاب فضلوا التزام الصّمت، والانشغال بمشاركة حياتهم اليومية على مواقع التواصل الاجتماعيّ، والذي لا تعني بالضرورة نسيانهم لما يحدث في غزّة، بحسب تعبيرهم.
منذ قيامها، عملت إسرائيل على كيّ وعي للفلسطينيين الّذين بقوا، فأشبعتهم بعبارات عن الامتيازات والحقوق الّتي يملكونها في الدّاخل؛ جواز سفر تستطيع الدخول فيه لأكثر من 160 دولة، استقرار اقتصادي، تأمين وطني يمنحك علاجًا مجّانيًّا ومُواطنة سهلة
هل ستسقط الامتيازات؟
يُعرف الفلسطيني في الدّاخل بأنه إنسان مُهدد بشكلٍ دائم. يجوز لتضامن أو كلمة، انتماء أو مظاهرة، أن تنهي حياته التّعليميّة والأكاديميّة، قد لا يتمكن من إيجاد عمل في مكان مُجدٍ، وقد يُنفى خارج البلاد. لكن، منذ قيامها، عملت إسرائيل على كيّ وعي للفلسطينيين الّذين بقوا، فأشبعتهم بعبارات عن الامتيازات والحقوق الّتي يملكونها في الدّاخل؛ جواز سفر تستطيع الدخول فيه لأكثر من 160 دولة، استقرار اقتصادي، تأمين وطني يمنحهم علاجاً مجّانيّاً ومُواطنة سهلة. كذلك، تتيح أمامهم العمل في السوق الاسرائيليّة، ما يعني حياة مستقرة اقتصاديّاً، على عكس إخوانهم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة، الّذين يعانون الويلات ليأمنوا حياتهم، ويخوضون حروباً مستمرّة لضمان البقاء.
وبينما كانت المنظومة الاسرائيلية تعمل على كيّ وعي الفلسطينيين لديها، نسيت النقطة الأهم، وهي أنّ هذه الشرذمة الّتي يُعانيها الفلسطينيّ في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، سببها الرئيس هو احتلال فلسطين وتهجير أهلها والنكبة المستمرة الّتي لا تتوقّف. وعلى ما يبدو، فإنّ جزءاً من الفلسطينيين في الداخل قد نسيَ بأنّ الامتيازات الّتي مُنحت له خلال السبعين سنة الماضية، ما هي إلّا أداة المستعمر لفصله عن محيطه العربي، ولإبعاده عن بقية أبناء شعبه، وليصبح همّه مختلفًا عن همّ البقية. فبينما يعاني ابن غزّة كي يحصل على قطرة ماء أو كيس دقيق، أو يبقي على أبنائه أحياء تحت الابادة المستمرة، وتتحكم إسرائيل بالفلسطينيّ في الضفّة الغربية، بدخوله وخروجه وساعات عمله وتنقّله، وتقتله إذا دَعت الحاجة لذلك، يخشى الفلسطينيّ في الداخل سحب الامتيازات منه كي لا يقع في ذات الحفرة من القتل والتجويع، والطرد من البلاد إذا لزَم الأمر.
الصّمت الذي يُعين المستعمِر
لم تُقتلع حقوق أي شعب تحت الاستعمار من خلال الصّمت، بل على العكس، كان الصّمت هو الأداة الّتي يستطيع من خلالها المُستعمِر اقتلاع جذور أصحاب الأرض. إنّ عدم تحرّك الفلسطينيين، منذ بدء الإبادة، أوصل الحكومة الاسرائيلية إلى اتخاذ قرار بمنع المسلمين الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك. ولن تتوقف الممارسات الإسرائيلية عند هذا الحد، وستكون أبعاد السلخ المجتمعيّ عن القضايا الحقيقيَة والانشغال بتوافه الأمور، أكبر من أيّ وقت مضى، وعلى المجتمع كاملاً . ثمّ إنّ الأحكام العالية لمعتلقي هبة أيار، الاعتقالات التعسفية، منع الكلام، سحب الحريات تحت ذريعة حكومة الطوارئ، منع الاعتراض، السجن داخل الغيتوهات الّتي تسمّى بالبلدات العربية، سيكون أقسى في المرحلة المطلة، لا سيّما إذا ما ظلّ المجتمع يعتبر الصّمت أجدى من الكلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...