سمعت وشاهدت أغنية وكليب "إختي أميرة" للفنان أحمد قعبور. لم أكن بحالة نفسية جيدة لحظة استماعي للأغنية، بكيت. كنت سأبكي حتى لو كان المعروض أمامي "طوم" وهو يضرب "جيري". حدث ذلك من قبل.
كما يشير عنوانها، كلمات الأغنية تحكي عن "أميرة" الأخت. قد لا تكون "أميرة" أكبر إخوتها وأخواتها ولكنها الأخت التي "غنت موالنا ونسيت موالها" قبل أن يغادر الجميع وتبقى وحدها بعد أن "كنا حواليها وبقيت لحالها". الأخ في الفيديو كليب يقف أمام الباب المغلق متألمًا مما يدرك وجوده خلف الباب قبل أن يعبره: امرأة ترقص وحدها، لا تصلها إيميلات، تأسى على نفسها وتؤنسها، أصدقاؤها أبطال الأفلام.
ربما هو يعرف حالها فعلاً كما يصفه، أو ربما يتكهّنه ظناً منه أنه إذا كان لأخته حياة مختلفة لعلم بها. قد تكون هذه سذاجة منه، وقد تكون عدم قدرة على تخيل أن أخته ليست وحيدة كما يظن، وهي فقط لا تشاركه تفاصيلها. ولكنني سأسلّم أن "أميرة" وحيدة كما يظنها المغني.
"الأميرات" اللواتي أعرفهن
أعرف "أميرات" بأسماء وأعمار مختلفة، كثيرات من حيث جئت وحيث أعيش، ولا ترف لديهن للشعور بالأسى أو المرارة. فالشعور بالأسى يتطلب وقتاً، والمرارة تحتاج مساحتها أيضاً إذ لا يمكن أن تشعر بالمرارة دون أن تغرق فيها، وهذا الغرق يحتاج بحرًا من الوقت والمكان غير المتوفرين لدى هؤلاء "الأميرات". لأن كل المساحة تم حجزها على مدار كل الوقت والطاقة لتعيش "الأميرة" حياة لم تتمناها.
كما يشير عنوانها، كلمات الأغنية تحكي عن "أميرة" الأخت. قد لا تكون "أميرة" أكبر إخوتها وأخواتها ولكنها الأخت التي "غنت موالنا ونسيت موالها" قبل أن يغادر الجميع وتبقى وحدها بعد أن "كنا حواليها وبقيت لحالها"
"الأميرات" اللواتي أعرفهن أو أعلم بوجودهن شاءت أقدارهن أن يولدن في لبنان أو في بلد مثل لبنان، حيث تكون أسباب الإنجاب الأساسية هي رعاية الأهل عندما يكبرون وأحياناً قبل أن يكبروا. هذا تفكير طبيعي في بلد لا ضمان صحياً فيه ولا ضمان شيخوخة، لا بل ولا ضمان للحاضر حتى، فيصبح الأولاد هم الضمان.
لم أستمع للأغنية إلا مرة واحدة، ولا نية لدي لأن أستمع لها مرة أخرى. وبالتالي أنا بطبيعة الحال لا أقيّمها ولا أعطي رأيي فيها. ولا يهمني إن كان للمغني فعلاً أخت وهذه الأغنية لها، أو أنه فقط اختار أن يغني عن هذا الموضوع. في كلتا الحالتين لا مشكلة لدي. وفي كلتا الحالتين فالأغنية رقيقة.
الأغنية تبرئة ذمة
كل ما شعرت به لاحقاً أن هذه الأغنية هي بمثابة تبرئة ذمة. هذه الأغنية تشبه الهدية التي يتم إهداؤها لأميرات البيوت في عيد الأم، برغم أنهن لسن الأمهات. يحصل هذا الأمر بنية تقدير الدور الذي لعبته الأميرات في حيوات مقدمي الهدية. أو أن هذه الأغنية تشبه رحلة إلى دبي لمدة أسبوعين تهدى لأميرة من أولاد أخيها.
هذه أغنية لا يمكن أن تغنيها امرأة لأختها. فالأخت تعلم أن ذلك الجميل لا يمكن رده. وأن ذاك الواقع لا يمكن أن يمحى أثره، تماماً كبقعة الجافيل. فماء الجافيل يمحو ما يقع عليه، ولا يغطيه بطبقة يمكن إزالتها.
هدايا لا تغير واقع أميرة الذي لم تختره، فلو كانت اختارته لما كان كتب لها أغنية. يتسلل لي أحياناً شعور أنني أتحول يوماً بعد يوم إلى "أميرة"، ولعلي بكيت بسبب هذا الشعور، لكني انتبهت أن المرارة والغضب يأكلانني، وأنني لا أملك قناعة وطيبة ورضا أو هدوء الأميرات الأخريات المتمرسات في إماراتهن، على الأقل ما يظهرونه من قناعة وطيبة ورضا، أو ما تسمح لهن المساحة والوقت بإظهاره. كما أن الأميرات يصبحن أميرات بسنٍّ أصغر بكثير من سنّي، لذا، سأتوقف عن محاولة سرقة وضعهن.
الإمارة مثل الزواج المبكّر
إن دور الأميرة يُلزَّم لها بعمر مبكر، تتسلل الإمارة ليديها من خلال مهام صغيرة وتدريجية: الاهتمام بإطعام الإخوة الأصغر سنّاً، تغيير ملابسهم، تدريسهم، ثم ربما الاكتفاء بما تعلمته والانقطاع عن المدرسة لأجل المساعدة بشكل أكبر برعاية الإخوة الآخرين، وبدلاً من الاهتمام بإطعامهم، تصبح مهمتها الطبخ لهم وتدبير أمور حياتهم كافة. هذه الإمارة تشبه الزواج المبكر، ولا يمكن أن تكون اختيارية.
لم يختر هذه الإمارة من حولها أيضاً، فالواقع سقط على الجميع، وإن كانت هي ضحيته الأولى وإلى الأبد. واقع لم تتمكن هي من تغييره ولم يحاول الآخرون كذلك، على الأقل لم يحاولوا بما يكفي لتغييره. فعلى الأرجح لم تكن أميرة هي الوحيدة التي انقطعت عن الدراسة من بين إخوتها.
يوحي لنا الفيديو في نهايته أن أميرة ترفض عرض زواج، فهي تختار أن تبقى وحيدة. الأخ يقترح وهي ترفض الفكرة. لكنه اقتراح متأخر؛ تأخر لحين أصبح بإمكان الأخ الاستغناء عن أميرته. تأخر حتى أصبح من المستحيل على أميرة الأخت أن تتخلى عن وحدتها، وإن تخلت عنها فسيكون لأجل ما هو متوفّر، وليس لأجل ما رغبت به يوماً.
أغنية لا تمحي ماء الجافيل
هذه أغنية لا يمكن أن تغنيها امرأة لأختها. فأخت أميرة هي أميرة صادفها حظ أفضل، أو ربما أميرة مؤجلة. الأخت لا يمكن أن تغني هذه الأغنية لأختها. لا يمكن أن تحاول أن تطلب "براءة ذمة" ولا يمكن أن تكذب هذه الكذبة البريئة. الكذبة الهدية، الكذبة المحاولة، محاولة رد الجميل أو الاعتراف به.
الأخت تعلم أن ذلك الجميل لا يمكن رده. وأن ذاك الواقع الذي وقع ولم تتمكن من تغييره أو من محاولة تغييره لا يمكن أن يمحى أثره، تماماً كبقعة الجافيل. ماء الجافيل يمحو ما يقع عليه، لا يغطيه بطبقة يمكن إزالتها. طبقة ماء الجافيل محت ما كان تحتها ولا شيء يمحوها، ولا حتى عريس.
"الأميرات" اللواتي أعرفهن أو أعلم بوجودهن يولدن في لبنان أو في بلد مثل لبنان، حيث أهم سبب للإنجاب هو رعاية الأهل عندما يكبرون وأحياناً قبل أن يكبروا. هذا تفكير طبيعي في بلد لا ضمان صحياً فيه ولا ضمان شيخوخة، بل ولا ضمان للحاضر حتى، فيصبح الأولاد هم الضمان
يطلق الأخ في هذه الأغنية لقب "أميرة" على "أميرة": "اسمها أميرة وهيي أميرة"، قد يكون فعلاً اسمها أميرة، ولكنه ليس لقبها. هذا لقب أضحوكة. الأميرات لا يعشن ما تعيشه أميراتنا. هذا اللقب هو جائزة ترضية أخرى، لقب يفترض أنه يتغزّل برقيّ أميرة على افتراض أن الرقيّ هو أعلى الأماني.
جائزة ترضية كمن يغض النظر عن جمال الشكل فيتحدث عن جمال الداخل، جمال الروح والأخلاق: "واقعك يا أميرة ليس واقع الأميرات وإن حملتِ الاسم. لكن لديكِ رقيهن الذي يحيل دون تذمرك ودون تركك لنا، وتركنا لمصيرنا دونك. رقي من يتخلى عن حياته لأجلنا. وافقنا حينها لأنه لا حول لنا أيضاً، والآن سنغني لك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...