كثيراً ما يُردد أهالي محافظة أسوان، جنوب مصر، عبارة "بنعشق شمسها الحراقة"، تعبيراً عن حبهم لمدينتهم المعروفة بجوها الحار، حتى جاء هذا الصيف فغيّر المعادلة كلياً.
على ضفتي نهر النيل، تكتظ العائلات بحثاً عن ملاذ من لهيب الموجات الحارة، ومن معاناة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في ظل بنية تحتية متهالكة، ويحتمون بقطع من الكرتون في الطرق من أشعة الشمس الحارقة، وقد سجلت المدينة درجات حرارة هي الأعلى في العالم في الظل يوم 7 حزيران/ يونيو، تحت وطأة موجة حارة مستمرة منذ أسابيع.
تسببت موجة الحر في عشرات الوفيات في أسوان وأودت بحياة أكثر من 60 سودانياً من المهاجرين.
وقد تسببت هذه الموجة في عشرات الوفيات من المواطنين وأودت بحياة أكثر من 60 سودانياً من المهاجرين، نتيجة إصابات بضربات شمس وتعرضهم للغرق مع محاولتهم الهرب من الحرارة المرتفعة، ما تسبب في حالة من الغضب تزامنت مع خطة الحكومة لتخفيف الأحمال وقطع الكهرباء لساعات طويلة في مختلف محافظات البلاد، وصلت حتى 7 ساعات يومياً في بعض المناطق.
وفيات في صفوف المهاجرين السودانيين
يروي محمد الرافعي (اسم مستعار)، وهو عامل في مشرحة أسوان، لرصيف22، أن العشرات من المهاجرين السودانيين لقوا حتفهم نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، بعد وصولهم إلى منطقة حدودية في جبال أسوان هرباً من الاضطرابات في السودان.
وفقاً لرواية الرافعي، كان هؤلاء المهاجرون قد تواصلوا مع مهربين لمساعدتهم على دخول مدينة أسوان نفسها، إلا أن المهربين اصطحبوا قسماً منهم فقط إلى وجهتهم، ووعدوا البقية بالعودة لكنهم تركوهم في الصحراء في يوم تزامن مع موجة حرارة قاسية، دون أي مصدر للحماية أو الظل.
ويقول إن مشرحتين في أسوان تلقتا جثثاً لسودانيين مع توجيه بلاغات رسمية إلى القنصلية السودانية بوجود عشرات الموتى بينهم نساء وأطفال وغالبيتهم من الرجال، ويضيف: "تعرفت عوائلهم وأصدقاؤهم عليهم وتسلموا جثامينهم لدفنهم في مقابر الصدقات، ولكن هناك جثتين لرجل وامرأة لم يتعرف عليهما أحد، وما زالتا في مشرحة أدفو شمال أسوان".
ويؤكد أحد أطباء الطوارئ في مستشفى أسوان الجامعي لرصيف22 أنه في 7 حزيران/ يونيو الماضي، استقبل المستشفى عشرات الجثث لمهاجرين سودانيين لقوا حتفهم بسبب الظروف القاسية لرحلة الفرار، وكانت الوفيات ناجمة في معظمها عن العطش وضربات الشمس الحارقة، ووزعت جثامينهم على مشرحتين قبل إصدار تصاريح الدفن.
وبخلاف هذه الحالات، يشهد المستشفى أيضاً وصول أفراد من منقبي الذهب في جبال منطقتي العلاقي والبرامية، ممن يلقون حتفهم جراء درجات الحرارة العالية وضربات الشمس والحمى الشديدة وحتى لدغات العقارب على حد قول الطبيب.
توجه "جماعي" نحو النيل
لم تقتصر آثار هذه الموجة على وقوع وفيات في صفوف المهاجرين، بل خلفت وراءها مأساة أودت بحياة عشرات الأسوانيين، ناتجة عن محاولة الناس الهروب من شدة الحرارة بالنزول في نهر النيل، فأصيبوا بضربات شمس قاتلة مع عدم وجود مختصين لإنقاذهم، وفقاً لإبراهيم العجمي، نائب أمانة حزب العدل بالمحافظة، وقد تقدم بطلب إلى النائبة زينب سلايمي للمطالبة باستثناء المحافظة من قطع الكهرباء في ظل هذه الموجة الحارة.
على ضفتي نهر النيل، تكتظ العائلات في أسوان بحثاً عن ملاذ من لهيب الموجات الحارة، ومن معاناة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في ظل بنية تحتية متهالكة، ويحتمون بقطع من الكرتون في الطرق من أشعة الشمس الحارقة
ويقول العجمي لرصيف22 إن أسوان شهدت عشرات الوفيات في مناطق مختلفة مرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، نتيجة الغرق في نهر النيل والحرائق، مطالباً الحكومة بالتدخل لحل هذه الأزمة التي ستشهدها المحافظة طوال موسم الصيف، من خلال تخفيف ساعات انقطاع الكهرباء، وتطوير أماكن آمنة للسباحة مع أشخاص مخصصين للإنقاذ، إلى جانب نشر التوعية بين السكان بخطورة السباحة في الأماكن غير المجهزة.
تزداد المخاوف من استمرار موجات الحر القياسية في المحافظة، وترى النائبة ريهام عبد النبي عضوة لجنة الصحة في مجلس النواب المصري بأن الفئات الأكثر معاناة من مخاطر موجات الحر هي كبار السن والأطفال والمرضى، في ظل بنية كهرباء متهالكة للغاية ونقص في الطاقة، أدت إلى توقف أنظمة الضخ المائي، لتصل مدة انقطاع الماء والكهرباء إلى 6 ساعات يومياً.
وتقول عبد النبي لرصيف22 إنها تقدمت ببيان موجه إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في يوم 18 حزيران/ يونيو، مطالبة باستثناء المحافظة من خطة تخفيف الأحمال أو ترحيل عدد ساعات انقطاع الكهرباء إلى أوقات غير الذروة من الساعة 12 ظهراً حتى 5 مساء، حتى تهدأ حرارة الجو قليلاً.
حلول تقليدية
اعتادت دعاء أنور (21 عاماً)، المقيمة في الإسكندرية، زيارة قريتها دابود في شمال أسوان كل عيد أضحى. وهذا العام، شعرت بتغير كبير في درجات الحرارة فور وصولها محطة كلابشة، فحرارة الشمس كانت قاسية لدرجة أنها كادت تفقد الوعي.
يلجأ أهل قرية دابود النوبية لأكثر من حيلة لمواجهة هذا الطقس، ولكن هذا العام وفي ظل انقطاع الكهرباء أصبح الأمر صعباً جداً، وبات الأهالي لا يطيقون البقاء في المنازل فيهربون بشكل جماعي إلى نهر النيل في القرية والقرى المجاورة.
تقول دعاء وهي أخصائية تجميل لرصيف22: "في ظل انقطاع الكهرباء، أصبح من الصعب جداً تحمل الحرارة. لم نتمكن من البقاء في بيوتنا، فالمحولات لا تحتمل أجهزة التكيف نظراً لأنها متهالكة، وتغيب الكهرباء حوالى 6 ساعات متقطعة، فنتجه جميعاً إلى النيل لأن الكهرباء تنقطع معها المياه أيضاً، ويبدو أننا سنضطر إلى التوقف عن قول ‘بنعشق شمسها الحارقة’".
ويفتقر معظم سكان أسوان إلى القدرة على الوصول إلى أنظمة التبريد الحديثة بسبب ضعف الجهد الكهربائي، وبدلاً من ذلك يلجأون إلى طرق تقليدية للتعامل مع الحر الشديد، وفقاً لمحمود نور (39 عاماً) وهو أحد سكان منطقة أبو الريش.
الممارسات الخاطئة في السنوات الأخيرة بشأن توسيع المناطق المبنية على حساب المساحات الخضراء تثير مخاوف أكبر بشأن وضع المحافظة في السنوات المقبلة، ويقول إنها بحاجة إلى المزيد من المساحات الخضراء للتصدي لارتفاع درجات الحرارة
"لا نستطيع تحمل تكاليف مكيفات الهواء، لذا نعتمد على استخدام نهر النيل وحمامات المياه الباردة، وارتداء ‘التقشيطة’ وهي ثوب أبيض خفيف وفضفاض"، يقول محمود العامل في مجال صيانة المكيفات لرصيف22، ويضيف بأن منزله مجهز بمبرد صحراوي يعتمد على مروحة وتبخير المياه لخفض درجة حرارة الهواء، وهذا الحل البدائي شائع في جميع أنحاء أسوان، إذ لا تستطيع معظم الأسر تحمل تكاليف وحدات التكييف التقليدية التي تستهلك الطاقة بشكل كبير.
ورغم أن مدة تخفيف الأحمال وجداولها الموحدة في مصر هي ساعتان إلى ثلاث ساعات فقط يومياً، لكن محمود يشير إلى أن قطع الكهرباء أصبح متكرراً جداً الآن، وبات الناس في الشوارع يضطرون للبحث عن الظل تحت الأشجار أو الاحتماء بقطع من الكرتون للهروب من الحرارة اللاهبة.
ظروف مناخية صعبة
وتأتي موجة الحر هذه لتؤكد على خطورة الاحتباس الحراري وتأثيره المباشر على مدينة أسوان التي تتميز بظروف مناخية صعبة للغاية، وفقاً لتصريحات الدكتور مجدي علام، أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب.
يقول علام لرصيف22 إن موقع أسوان الجغرافي يجعلها تحت تأثير تغيرات مناخية قاسية، إذ تقع في منطقة يقل فيها الغطاء السحابي، مع انعكاس عالٍ لأشعة الشمس والكتل هوائية الصحراوية، مما يجعل موجات الحر أكثر حدة، بينما تشهد المحافظة تحولاً نحو درجات الحرارة المرتفعة حتى في فصل الشتاء. وتُعد أسوان واحدة من أكثر المدن سخونة وجفافاً في العالم، ولا تسقط الأمطار فيها طوال العام تقريباً، وقد سُجلت أعلى درجة حرارة في المدينة عند 51 درجة مئوية في تموز/ يوليو 1918 وفقاً لخبير المناخ.
ويتوقع علام بأن ارتفاع درجات الحرارة في الأعوام المقبلة سيؤدي إلى كوارث طبيعية في المحافظة، بما في ذلك الجفاف والحرائق وتجريف التربة وزحف الرمال وقلة الإنتاج الغذائي، إضافة إلى انقراض النباتات، ما يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة تداعيات التغير المناخي.
في السياق نفسه، يضيف حسام الدين محمود، الباحث في السياسات المناخية، بأن الممارسات الخاطئة في السنوات الأخيرة بشأن توسيع المناطق المبنية على حساب المساحات الخضراء تثير مخاوف أكبر بشأن وضع المحافظة في السنوات المقبلة، ويقول إنها بحاجة إلى المزيد من المساحات الخضراء للتصدي لارتفاع درجات الحرارة. وينوّه في حديثه لرصيف22 إلى أن الغطاء النباتي قد لا يكون الحل الوحيد، فتوسع البناء بطريقة مخالفة يؤدي أيضاً إلى زيادة سنوية في درجات الحرارة، وهو أمر يحتاج إلى رقابة وضبط.
* تصوير: هيثم فهمي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.