بعد إقرار قانون "مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي" من قبل البرلمان العراقي، والذي يهدف إلى معاقبة الأشخاص بناءً على توجهاتهم الجنسية وهوياتهم الجندرية، برزت مبادرات فنية تعبّر عن رفض هذا القانون ومقاومته، أبرزها صفحة "كالا" على مواقع التواصل الاجتماعي، التي اتخذت من فنّ الغرافيك أداةً لمقاومة القانونِ والتعبير عن رفضهِ.
من خلال رسوماتٍ مُبدعةٍ، ينقلُ سيف علي (26 عاماً)، مؤسس منصة كالا المدافعة عن حقوق أفراد مجتمع الميم-عين في العراق، رسالةً مُناهضةً للقانون، مُسلّطاً الضوءَ على معاناة فئة المثليين/ ات ومزدوجي الميل الجنسيّ ومغايري الهويةِ الجنسيةِ في العراق.
ما هو القانون؟
في 28 من نيسان/ أبريل الماضي، أقرّ البرلمان العراقي "قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي"، ويجرّم بشكل صريح المثلية الجنسية، ويعاقب عليها بأحكام تصل إلى السجن 15 عاماً. وفي 27 حزيران/ يونيو الجاري، صادقت رئاسة الجمهورية على القانون، ليصير نافذاً.
ويجرّم القانون أيضاً "تغيير الجنس بناءً على الميول والرغبات الشخصية"، كما يعاقب من يقوم بـ"الترويج للمثلية الجنسية" بالسجن لمدة لا تقلّ عن "سبع سنوات"، وهي تهمة "غير محدّدة" وفقاً لهيومن رايتس ووتش.
على الرغم من أن هذا القانون قد دخل حيّز التنفيذ، إلا أن المحاكم العراقية لم تشهد بعد قضايا تتعلق بالمثلية أو العبور الجنسي، نظراً إلى حداثة التشريع. ومع ذلك، فإن الخوف من مستقبل مظلم لهؤلاء الأفراد قد دفع فريق "كالا" للتعبير عن معارضته بطرق مختلفة.
اقتباسات من مستقبل العراق
صمّم سيف، سلسلةً من الأعمال الغرافيكية التي تصوّر أشخاصاً يتم القبض عليهم وسجنهم بتهم تتعلق بمثليتهم الجنسية أو عبورهم الجنسي، في تعبيرات عميقة ومؤثرة تسلّط الضوء على المآسي المحتملة التي سيواجهها الأفراد في المستقبل القريب، وكيف ستزداد تعقيدات حياتهم. يسعى سيف من خلال أعماله إلى توضيح تلك العواقب من خلال إبراز الجانب الإنساني لهؤلاء الأفراد، الذين غالباً ما يُجَرَّدون من إنسانيتهم في النقاشات العامة حول حقوقهم.
تعتمد أعمال سيف على تقنيات الغرافيك الحديثة لخلق مشاهد بصرية مؤثرة. تظهر في هذه الرسومات وجوه حزينة وأجساد منهكة خلف قضبان السجون، وهي تحمل رسائل أو شهادات مؤثرةً -برغم أنها ليست حقيقيةً- حول الانتهاكات المحتملة التي سيتعرض لها أفراد الميم-عين عند تطبيق القانون.
الألوان الداكنة والظلال الثقيلة تعزز الجو المأساوي الذي تعبّر عنه هذه الأعمال، ما يجعل المشاهد يشعر بالثقل النفسي والظلم الذي قد يتعرض له الأفراد بسبب هذا القانون.
النص الذي في الصورة أعلاه، وإن كان متخيّلاً، إلا أنه يعكس بوضوح المخاوف والقلق المتزايد لدى الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العراق. تصوُّر مستقبلٍ يُجرَّم فيه الحديث عن الجندر ويتعرض فيه المدافعون عن الحقوق الأساسية للسجن والملاحقة، يعكس واقعاً مريراً قد يصبح حقيقةً إذا استمرت السياسات القمعية.
يكمل سيف وصف هذا النص، ويكتب: "هذا ما سيكون عليه مستقبل المنظمات الدولية والمحلية المهتمة بحقوق الإنسان في العراق، فالقانون يحظر أي حديث أو كلام، ولو بشكل غير مباشر، عن مجتمع الميم-عين في العراق، وأي منظمة تخالف هذه التعليمات ستكون معرضةً لخطر الإغلاق وسجن أفرادها، كما أن القانون لا يلغي الحديث عن مجتمع الميم-عين كله، بل يلغي الكلام الإيجابي والمعتدل عنه فحسب، ويسمح بخطابات الكراهية والشيطنة؛ لأنها لا تُعدّ ترويجاً، ما يعطيني صورةً مستقبليةً عن وضع العراق، حيث ستكون حملات الكراهية والعنف هي الصوت الوحيد المسموع عند الحديث عن مجتمع الميم-عين فيه".
الفن يمتلك قدرةً فريدةً على خلق حوار اجتماعي وتحفيز التغيير. فهو لا يقدّم فقط جماليةً بصريةً، بل يساهم أيضاً في أنسنة صورة الأشخاص المختلفين ورفع وعي المجتمع بقضاياهم
تسلّط الرسوم الغرافيكية أيضاً الضوء على الصحة الجنسية لأفراد مجتمع الميم-عين، والتي ستتعرض لتهميش أكبر بعد إقرار القانون، إذ إنه "سيساهم في انتشار الأمراض المنقولة جنسياً في العراق، بسبب الرعب الذي زرعه القانون الذي سيمنع الأفراد من اللجوء إلى القطاع الصحي".
الفن في مواجهة القمع
يقيم سيف منذ سنوات خارج العراق، وهو ما يفسر حرية العمل نسبياً لديه، كما أن زملاءه في الصفحة هم أفراد من مجتمع الميم-عين يعملون طواعيةً، ويقطنون غالباً في المهجر.يقول سيف لرصيف22: "أعمل في مجال التصميم الغرافيكي منذ أربع سنوات تقريباً، وكذلك مجال الرسم، لذا حاولت أن أدمج أو أجمع بين الاثنين مؤخراً في أعمالي، وهذا ما ترجمته عبر صفحة كالا".
العراقيون المهمشون جندرياً، مثل أفراد مجتمع الميم-عين، غالباً ما يجدون أنفسهم مضطرين إلى البحث عن طرق بديلة للتعبير عن ذواتهم ومطالبهم. في ظل قمع اجتماعي وقانوني، يصبح الفن ملاذاً يمكن من خلاله إيصال الصوت والرؤية دون خوف من الرقابة المباشرة.
وعن صعوبة العمل والتعاون مع فنانين داخل العراق، يقول سيف إن الخوف من الميليشيات المسلحة والسلطة القضائية، بالإضافة إلى قلة التمويل، عوامل تشكل عائقاً أمام انتشار هذا النوع من فن المقاومة، كما يسميه.
"العراق، بتاريخه الثقافي الغني والمتنوع، كان دائماً موطناً للفن الذي يعبّر عن نضال الشعب وتطلعاته. في كل مرحلة من مراحل تاريخه، لعب الفن دوراً محورياً في التغيير الاجتماعي، ورفع أصوات المقموعين. من الحروفية التقليدية إلى الرسم والنحت المعاصر، ظل الفن وسيلةً للتعبير عن الذات والمقاومة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرة "كالا" لتعبّر عن استمرارية دور الفن هذا في مناهضة الظلم والتهميش"، يقول سيف.
وعن فكرة سيف عن الفن، يوضح أن "الفن يمتلك قدرةً فريدةً على خلق حوار اجتماعي وتحفيز التغيير. فهو لا يقدّم فقط جماليةً بصريةً، بل يساهم أيضاً في أنسنة صورة الأشخاص المختلفين ورفع وعي المجتمع بقضاياهم".
ويضيف أنه "في بلد مثل العراق، حيث الثقافة البصرية لها تاريخ طويل وعريق، يمكن للفن أن يكون أداةً قويةً للتواصل والتأثير".
من خلال أعماله، يفتح سيف قنوات للتواصل مع مجموعات مختلفة، بما في ذلك تلك التي لا تتفق مع ما يقدّمه بالضرورة. الفن هنا يصبح جسراً للتفاهم، حيث يمكن للأفراد مناقشة المواضيع الحساسة، دون أن يكونوا مضطرين إلى تبنّي وجهات نظر متطابقة.
سناريا، (اسم مستعار) شابة عمرها 19 عاماً من كردستان العراق، مثلية الجنس، تتابع الصفحات الخاصة بالكوير العراقيين، وتعرفت على صفحة "كالا" عبر صديقة لها شاركت منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا المنشور كان جزءاً من مجموعة من التصميمات والمنشورات التي توضح كيفية التعامل مع تبعات القانون الجديد، وتؤكد أهمية حماية البيانات الشخصية لأفراد مجتمع الميم-عين عبر الإنترنت.
"كانت ألوان التصميمات مؤثرةً وقويةً، وكان من المهم جداً بالنسبة لي أن أحصل على معلومات تساعدني على حماية هويتي وحساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي. للأسف، نحن مضطرون إلى اتخاذ كل الاحتياطات، ويلازمنا القلق طوال الوقت".
صفحة "كالا" على إنستغرام تحظى بمتابعة أكثر من 8،000 شخص. ومع ذلك، تواجه الصفحة محاولات متكررةً للاختراق، وتتلقى باستمرار رسائل تهديد، كما يقول سيف.
العراقيون المهمشون جندرياً، مثل أفراد مجتمع الميم-عين، غالباً ما يجدون أنفسهم مضطرين إلى البحث عن طرق بديلة للتعبير عن ذواتهم ومطالبهم. في ظل قمع اجتماعي وقانوني، يصبح الفن ملاذاً يمكن من خلاله إيصال الصوت والرؤية دون خوف من الرقابة المباشرة. الفن هنا ليس مجرد وسيلة للتعبير الشخصي، بل هو أيضاً فعل نضالي يعزز حضور هؤلاء الأفراد في المشهد الاجتماعي والثقافي. يتجلى ذلك أيضاً عبر منصة أخرى تُعرف بـ"عراق كوير"، وتقدّم تصميمات فنيةً مشابهةً، ولكن تميز نفسها بتوثيق شهادات حقيقية لأشخاص تعرضوا للعنف والتمييز بسبب هويتهم الجندرية أو توجهاتهم الجنسية.
في صفحات اخرى مثل "Queer Shia"، وهي ايضا مرتبطة بصفحة "كالا"، نرى كيف يمكن للفن أن يكون جسراً بين الماضي والحاضر، وبين الثقافات المختلفة. من خلال استعراض التراث الكويري الإسلامي والعربي، تقدّم هذه الصفحات رؤيةً أعمق لتاريخ غني ومعقد يعترف بالتنوع الجنسي والجندري.
تستعرض الصفحة جوانب من التراث والثقافة الإسلاميين والعربيين، مرتبطة بمجتمع الكوير. من خلال المنشورات، تسلّط الضوء على الأبعاد التاريخية والأدبية التي تبرز الأدوار والتجارب الكويرية في المجتمعات الإسلامية والعربية القديمة والمعاصرة. يُقَدَّم المحتوى عبر تصميمات فنية مبتكرة تجمع بين الجمال البصري والمحتوى المعرفي. تشمل الصفحة أيضاً منشورات تدعو إلى مناهضة القوانين التي تجرّم المثلية.
لا يمكن التنبؤ على نحو دقيق بمستقبل فنون المقاومة مثل "كالا" في العراق، خاصةً في ظل التحديات السياسية والاجتماعية الكبيرة التي يواجهها الناشطون والفنانون. ومع ذلك، فإن ظهور مثل هذه الصفحات والمنصات الفنية يشير إلى وجود طاقة شبابية قادرة على التعبير عن آمالها ومخاوفها بطرق مبتكرة وجريئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.