نعيشُ اليوم مثل كلِّ يومٍ أخبارَ الحرب، ونعيش معها التفاصيل كاملةً: القصف والشهداء، التصدِّي والصمود، والنزوح هنا وهناك، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الصباح حتى المساء. أحداث تجيء وأحداث تذهب، وكأنّنا في حلمٍ أو في كابوس. الأخبار تجعلنا في مزاجٍ متقلِّبٍ أو في حيرةٍ طويلة، وتترك في داخلنا الكثير من الأسئلة، وتتركنا نبحث عن الأجوبة. أين الأجوبة؟
يوم من أيام أكتوبر
إنه يوم من أيام أكتوبر، تذكرتُ قصّة المرأة التي ضربت نتنياهو بالحذاء حين كان يتكلّم، فكسرت شاشة التلفاز، ورمت التلفاز في سلّة المهملات وقالت: لا أريد نتنياهو ولا الأخبار ولا الحرب في بيتي، أريدُ أن أنام، العالم ظالم وقبيح.
كلما لمعت هذه القصة في ذهني، تذكرتُ أن أقدّمها كمقترحٍ لمقالةٍ في رصيف22. تلمع الفكرة وتذهب، ثمّ تأتي قصة جديدة حين أبدأ الكتابة عن القصة الأولى. القصص تتجدد مع كل نشرة أخبار لم تُضرب بالحذاء بعد، فكيف أكتب؟ وهل الحذاء وسيلة للخلاص من نشرة الأخبار اليومية الدامية؟
تذكرتُ قصّة المرأة التي ضربت نتنياهو بالحذاء حين كان يتكلّم، فكسرت شاشة التلفاز، ورمت التلفاز في سلّة المهملات وقالت: لا أريد نتنياهو ولا الأخبار ولا الحرب في بيتي.
أنظر من النافذة إلى كومة البيوت في مخيم نهر البارد، في كل بيت قصة حرب. أنظر كي ألتقط الفكرة لأكتب، فأتخيّل مخيم نهر البارد هو مخيم جباليا، وصوت مذيعة نشرة الأخبار في أذني يزعجني ويعطّل صفاء التفكير. فأؤجّل الكتابة لليوم التالي، ربّما، يكون أكثر صفاءً للكتابة.
أصحو صباحاً في تمام الساعة السادسة وعشر دقائق، أنظر في ساعة الهاتف، وأتحايلُ لالتقاط الأخبار الجديدة. ماذا حدث في الساعات الماضية بعد ليلةٍ دامية؟ أحمد الله أنّ أخبار الهاتف السريعة دون مذيعة، تنقل الأخبار عن حرب الإبادة. أكتفي بقراءة الخبر وأتركه. أجلس على الكنبة، أشعل الغاز لتسخين الماء من أجل النسكافيه، الحمد لله أنني ما زلت حيّاً. أتناول النسكافيه مع قراءة رواية الأسير باسم الخندقجي "قناع بلون السماء" الفائزة بجائزة بوكر 2024. الأسير يكتب للطليق، لكن الطليق أصبح هو السجين، والسجين طليقاً. أكمل القراءة وأترك الكتاب، وأفتح البريد كي أرسل المقترح، فيرنُّ الهاتف، الخبر يحمل قصة جديدة من غزة. يا إلهي ... أفتح الفيديو: المراسل يسأل الرجل الذي يركض والكيس على كتفه في شوارع خان يونس: ماذا في الكيس المرفوع على كتفك؟ إنّها جثّة أخي.
كيس أسود يلاحقني
القصة تدفع بالقصة الأخرى إلى الأمام، إنّها جثة أخي ... أشعرُ بالاحتراق الداخلي ولا أعرف كيف أعيد صوت الرجل في ذاكرتي، مرّة أخرى: "إنّها جثّة أخي.. إنّها جثّة أخي" على كتفي في كيسٍ أسود، وأخي على كتفي. هل أكتب المقترح أم لا؟ أفضّل أن أغلق صفحتي، وأعود إلى فنجان النسكافيه البارد. أحاول أن أضع "فيش" التلفاز في الكهرباء كي أشعله، كلما وضعتهُ تنقطع الكهرباء كلّياً عن البيت. لماذا؟ ماذا يحدث؟ أعيد وأعيد ولم أستطع تشغيل التلفاز.
أفكر، ربما في هذه الساعة سيتكلم "نتنياهو"، لذلك لا يشتغل التلفاز وتنقطع الكهرباء في عطلٍ كهربائيٍّ مفاجئ. "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم" الحمد لله على العطل المفاجئ، لأنني كنت سأفعل ما فعلته المرأة لو اشتغل التلفاز.
أعدتُ الفنجان الفارغ إلى المطبخ، فرأيتُ الكيس الأسود على الطاولة، فهربتُ من الفكرة لكي لا أدخل في مشهدٍ وهميٍّ مشابه.
أنظر من النافذة إلى كومة البيوت في مخيم نهر البارد، في كل بيت قصة حرب. أنظر كي ألتقط الفكرة لأكتب، فأتخيّل مخيم نهر البارد هو مخيم جباليا، وصوت مذيعة نشرة الأخبار في أذني يزعجني ويعطّل صفاء التفكير. فأؤجّل الكتابة لليوم التالي
أنا في مخيم نهر البارد / شمال لبنان - لستُ في مخيم البريج أو في مخيم المغازي في غزة، نحن من هناك لكنّنا لسنا هناك. هذا النهار يفيضُ بالقصص التي تمرُّ في كلّ نهارٍ يشبه هذا النهار: المقاومة مستمرة/ التلفاز معطل/ رواية الأسير على سطح المكتبة/ والحذاء - السلاح في وجه نتنياهو/ الليل والكيس الأسود/ والشاشة المكسورة أمام عتبة المرأة في المخيم اللاجئ "شمال لبنان".
الحرب التي تنام معي وتصحو معي
هذه هي الحرب التي تدور معي في البيت، وتكاد تنام على السرير جانبي. أغفو وأصحو وأنا أبحث عن لحظة الثأر بالكتابة، وأركض وراء الفكرة في منامي، وأسأل ما بين النوم والصحو: عن الكيس الأسود أم عن المذيعة التي تتلو نشرة المجزرة كل يوم؟
فأغفو على وقع الفكرة، فأحلمُ بأنني في غزة، أمشي في إحدى حدائقها. بينما كنتُ أمشي بين الزهور، هبطت طائرة مروحية للاحتلال الصهيوني أمامي وبدأت بملاحقتي وأنا أركض هرباً منها، حتى صحوتُ أهذي: يا إلهي .. يا إلهي.. أين المروحية؟ أين المروحية التي هبطت هنا؟ وضعتُ يدي على السرير، فانتبهتُ بأنّني أحلمُ، ما هذا الحلم؟ كاد يخنقُني.
أريد أن أبقى حيّاً كي أثأر بالكتابة خارج الكيس الأسود. ليس لأنني خارج غزة، بل لأنني لاجئ في مخيم نهر البارد، المخيم هو كيس أسود من نوع آخر، محمولاً على كتف البلد المضيف وفيه جثّث اللاجئين. لبنان يحمل الأكياس السوداء التي فيها جثثنا الشهيدة الموعودة بالعودة إلى الشمس
فتحتُ النافذة التي تطلُّ على المخيم، وما زال صدى الصراخ في أذني، أين المروحية؟ اللعنة عليها، لا أريد هذه الفكرة للكتابة، أريدُ أن أنسى تماماً، لا أن أتذكر هذا الكابوس، لأنّني لا أريد أن أضع جثتي في كيس أسود، أريد أن أبقى حيّاً كي أثأر بالكتابة خارج الكيس الأسود. أحتاج أن أنسى الكيس الأسود والمروحية، ليس لأنني خارج غزة، بل لأنني لاجئ في مخيم نهر البارد الذي يأخذ شكل الكيس الأسود، ويسجنني في صمته الأسود. نعم، المخيم هو الكيس الأسود من نوع آخر، ومحمولاً على كتف البلد المضيف وفيه جثّث اللاجئين. لبنان يحمل الأكياس السوداء التي فيها جثثنا الشهيدة الموعودة بالعودة إلى الشمس. أغلقتُ النافذة.
النص أصبح جاهزاً، الفكرة في قلب القصة، المخيّلة ضاعت في تفاصيل نشرة الأخبار، لكن التلفاز انكسر تماماً من الوجوه الشيطانية المبللة بالدم. سأرسل النص وسط استمرار الحرب في البيت. ينقصهُ إعادة القراءة للتحرير المبدئي، ثمّ إعادة القراءة للتحرير النهائي، ويصبح جاهزاً للإرسال قبل سقوط الخبر الجديد / الخبر العاجل من الهاتف، فأضطرُّ للتعديل بسبب الحدث الذي يمكن أن يغيّر مسار الفكرة إلى فكرةٍ تصلح للواقع الفلسطيني الجديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...