يعيش العم محمد عبد العزيز، أبو يونس (48 عاماً)، ابن غزة، من بلدة بني سهيلا شرق خان يونس، لاجئاً في مخيم نهر البارد في شمال لبنان. يعمل إسكافياً. يبقى في دكّانه من الصباح حتى المساء، وكلما مررتُ به، وسألته عن غزة والوضع فيها، يقول لي: "من يرى غزة عن قرب، ليس كمن يراها على شاشة التلفاز فقط. ذهبت إلى هناك قبل سنوات، وبنيتُ منزلاً في بلدتي. ولأنّ بلدتي قريبة من الحدود، فقد تمّ قصفها بشكلٍ كامل، ما أدى إلى دمار المنزل والبلدة بكاملها".
لا يتوقف عن الحديث. هناك قصّة يُخبرها، وعلينا جميعاً أن نسمعها. هي قصة آلاف الغزّيين. قصتهم كلهم أيضاً. يتابع: "أهلي خرجوا من هناك منذ اليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، لكنهم والحمد لله أخلوا دارهم، ونزحوا إلى أماكن متعددة، ولم يستقروا إلى الآن في مكان محدد في القطاع، ونحن أصبحنا نخاف التواصل معهم من هنا من لبنان، لأننا نخاف أن نعرضهم للخطر، فموضوع التواصل صعب جداً، ونعيش في قلق شديد، من الممكن أن يستشهدوا في أي وقت، دون أن نعلم أي خبر عنهم".
كحال كُثر، يفتح العم محمد تطبيق الواتساب. يدخل إلى أرقام أهله. يتفحص خاصية آخر ظهور لهم، كي يتأكد أنهم لا يزالون على قيد الحياة. يقول: "الحمد لله على كل حال، نقول لهم إن كانوا أحياء أو استشهدوا: الله يتقبل أهلي شهداء، لأن أهل غزة يدافعون عن كرامة الأمة العربية، الله يقوي المقاومة وأهل الغزة والشعب الفلسطيني".
أبو يونس حكاية فلسطينية وتغريبة أخرى. وُلد هنا، وعاش هناك، ثمّ عاد إلى هنا، ولم يرجع إلى هناك. وكأنّه يدور حول الهوية، لكي يجيب عن سؤال: من أنا؟ أو بالأحرى: أين أنا في نهاية الرحلة/ النكبة
أمشي وأسأل: كيف يعيش أبو يونس الحرب عن بعد؟ كيف يحتمل انقطاع الاتصال بينه وبين أمه؟ أو كيف يمكن أن تمر ساعات لا يعرف خلالها إن كانوا أحياء أم موتى؟ أراهُ في الصباح يعبر الشارع العام في المخيم، وهو عابسٌ، يفكر كثيراً. أطرح عليه السلام وأسأله عن حاله، فيجيب: "الوضع في غزة تعبان. سهرت طوال الليل وأنا تابع الأخبار، لكي أعرف إن كان أهلي في عداد الموتى أم بعد. هذا حالنا اليوم. وأتابع الفيديوهات التي تصلني من هناك. أنظر في وجوه الشهداء كي أتأكد، وأستمع إلى صراخ الأمهات والآباء. لا أريد أن أصير في الحال نفسه مستقبلاً. الله ينجينا".
يُعدّ أبو يونس من اللاجئين لجوءاً متكرراً، لأنّهُ يعيش نكبات عدة، بين ما حصل وما سيحصل، وبين الانقطاع والابتعاد، والنزوح الذي لا نهاية له سوى التحرير. في كلّ جولة حرب جديدة على قطاع غزة، أعيش مع أبي يونس مأساته الجديدة. أعيش معه هذا الصمود الأسطوري في تفاصيل حياته. أقول له: نحن عشنا في هذا المخيم، مخيم نهر البارد شمال لبنان، عشنا النكبتين؛ نكبة 1948 ونكبة 2007، حين وقعت الحرب هنا، وأدت إلى دمار المخيم وفقدنا كل شيء. أليست هذه نكبةً جديدةً؟ كنت أتكلم معه، بينما أسمع من الجهة الأخرى صوت التلفاز ينقل الأخبار العاجلة: "يتم قصف غزة الآن". كلنا فلسطينيون هنا يا أبا يونس، وجلست في دكانه الصغير والقديم، الذي يذكرني بالدكاكين القديمة في المخيمات.
لم يتحسس من كلامي. قال لي كي يغيّر الموضوع: "أتعرف، حين زرت غزة، وجدت قوة الصمود لديهم، برغم أنّ غزة منطقة تشبه صحراء سيناء، لا توجد فيها مقوّمات الصمود. أرض صحراوية منبسطة". قلت له مستغرباً: كيف يحفرون الأنفاق؟ قال: "يضعون حمايات إسمنتية في داخل الأنفاق. حين حفروا أرضية بيتي كي يرفعوا العماويد (الأعمدة)، كانوا يضعون الماء ويحفرون مباشرةً بعد الماء، كي يتمكنوا من وضع حديد العماويد في الأرض الرملية، لذلك لا توجد ملاجىء في غزة، لكي تأوي الناس هناك. أعانهم الله".
أنا وأبو يونس نسأل أنفسنا في كلّ لقاءٍ على حافة الدكّان، وبحزنٍ وانسجامٍ في المخيم: من يحاسب القتلة، القتلة الكثيرين؟ ومن يوقف حرب الإبادة التي تلحق بنا أينما وجدنا؟ نرفع معاً هويتنا الزرقاء أعلى، مثلما كانوا يقولون عنها: "هوية الإعاشة"
تركت دكّانه وأنا أفكّر في كلامه. أبو يونس حكاية فلسطينية وتغريبة أخرى. وُلد هنا، وعاش هناك، ثمّ عاد إلى هنا، ولم يرجع إلى هناك. وكأنّه يدور حول الهوية، لكي يجيب عن سؤال: من أنا؟ أو بالأحرى: أين أنا في نهاية الرحلة/ النكبة، عفواً، في هذه المجزرة المستمرة من زمنٍ إلى زمن. هو يشعر بالسعادة الآن، ليس لأنّه وجد أهله في عداد الأحياء، بل لأنّه لم يمُت بعد، لأنّهُ باختصار وجد نفسه على قيد الحياة، ويبحث عن هويته في عداد الموتى/ اللاجئين، أو الشهداء اللاجئين. على أبي يونس أن يستمع إلى قصيدة محمود درويش بصوت أميمة خليل: "يا وطن الشهداء تكامل/ ويا وطن الضائعين تكامل/ ويا وطن الزارعين تكامل..."، ويمكن لهُ أن يكملها بصوته: يا وطن اللاجئين تكامل.
هو الغزاوي الأسمر، ذو الوجه الترابي، متوسط القامة، عريض الكتفين، واثقٌ من خطاه، لا يكترث للتفاصيل الجانبية، بل يعيش كل التفاصيل الفلسطينية في المخيم، ويتحمس للمظاهرات والاعتصامات. في اليوم التالي، حين مررت بدكّانه وجدته مغلقاً، ومكتوباً على بابه: "عطلة اليوم". حسبت أن اليوم الأحد، وحين التقينا في اليوم التالي قال لي إنّه يلتزم بالإضرابات، ولن يفتح احتجاجاً على ما يحصل في غزة من مجازر يرتكبها العدو. يروي: "هذا ردّي أنا عليهم. لكنني إذا أغلقت وجلست في البيت لا يزيدني ذلك سوى عذاب أكبر، لكنني في حالة صمودٍ دائم".
حالة الصمود تلك، هي أنا وأبو يونس وأهل المخيم وأهل غزة، وما بيننا من شهداء. وأنا وأبو يونس نسأل أنفسنا في كلّ لقاءٍ على حافة الدكّان، وبحزنٍ وانسجامٍ في المخيم: من يحاسب القتلة، القتلة الكثيرين؟ ومن يوقف حرب الإبادة التي تلحق بنا أينما وجدنا؟ نرفع معاً هويتنا الزرقاء أعلى، مثلما كانوا يقولون عنها: "هوية الإعاشة"، فمتى يجد أبو يونس طريقهُ المفتوح دون معابر إلى وطنٍ بلا حدود، وأزورهُ في بيته الذي يكبر معهُ ككل البيوت، يكبر طابقاً طابقاً إلى الأعلى، دون حرب تعيده إلى التراب كلما حاول أن يقف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.