يخيّم الفراغ على شوارع العالم الكبير، منذ أولى أيّام انتشار جائحة فيروس كورونا عليه. مدن العالم أصبحت خالية تماماً من سُكّانها، الشوارع يسودُها الصمت المريب. شيءٌ ما يدعو للقلق، فأين باريس التي كانت تضجُّ بالحياة؟ وأين روما التي كانت ملاذَ السائحين في آثارها القديمة؟ كأنَّ العالم دخل إلى سجنٍ كبير، بما فيه الفقير والغني، والصغير والكبير، والمواطن واللاجئ، فلا يفرّقُ هذا الفيروس بين أحد من البشر على اختلاف انتماءاتهم وأعراقهم وبلدانهم.
الفيروس لا يحمل جواز سفرٍ للانتقال عبر المطار من مكانٍ لآخر، ولا بحاجةٍ لإذن الدخولِ إلى جسد الإنسانية. هذه هي عدالة كورونا التي أشعرت العالم بهذا التساوي بالعدوى. أمّا في العالم المخيمي، وتحديداً في مخيم "نهر البارد"، شمال لبنان، كباقي المخيمات والمناطق والمدن، الشوارع فارغة من الناس وقد صارت أشبه بمنطقة الأشباح المخيفة، كأنّنا في فيلم رعب؛ فالمخيم بالأصل يعيش الفقر والحرمان واللجوء، ثمّ ازدادت هذه الظروف صعوبةً أكثر من قبل في ظلّ أزمة فيروس كورونا. يؤكّد أبو جندل، صاحب مقهى "الشعراء" في المخيم، لرصيف22 بأن تأثير كورونا على المقهى كان دماراً كبيراً حوّل وضع المقهى بشكل كامل؛ أغلق المقهى أبوابه تماماً، ممّا أدى إلى تعطيل العمل والعودة إلى الحجر المنزلي. كما أكّد أنّ الوضع الاقتصادي للمقهى وللمخيم بشكل عام أصبح أكثر سوءاً في هذا الوضع الكوروني الذي وضع العالم كلّهُ في السجن.
وأضاف: "كان المقهى يمثّل الحياة بالنسبة للمثقفين والشعراء في المخيم، وحين أغلق المقهى ازداد الأمر ضيقاً وسجناً، وعلينا أن نقاوم هذا السجن. لكن أيضاً، نطالب الجهات المعنية بالنظر إلى وضعنا هذا، لأن المقاهي مدخولها نسبيّ ومحدود، وهو جزء من حركة الحياة في الشارع المخيمي الذي يعيش أصلاً حياةً صعبة. كما نفتقد اللقاءات التي كانت تجمعنا مع الكتّاب والشعراء والأصدقاء كلّ مساءٍ بنفس التوقيت في المقهى. اليوم يسود المقهى الصمتُ والعتمة في غياب الطيبين."
يقع مقهى "الشعراء" أو "أبو جندل" في الشارع الفوقي عند مدخل المخيم الثاني، والمنطقة كانت تشهد ازدحاماً يوميّاً لحركة الناس في تلك المنطقة التي كانت تنبض بالحياة.
أمّا خليل البهلول، صاحب مطعم "أبو فوزي وإخوانه" في المخيم، فقال لرصيف22: "المطعم كان يفتح أبوابهُ من الصباح حتى منتصف الليل، والآن صار مسموحاً لنا أن نفتح المطعم ثلاث أو أربع ساعات في النهار فقط، وهذا أثّر على حركة الزبائن فيه، وازداد الوضع سوءاً عند انتشار وباء كورونا. الفراغ يسودُ المكان هنا. جميع الزبائن في الحجر المنزلي. لا بيع ولا حركة، ولا نستطيع أن نُدخل المواد الأوّلية، وذلك بسبب غلاء سعر الدّولار في السوق اللبناني اليوم في ظلّ هذه الأزمة. ويترك هذا تأثيراً كبيراً على واقع المطاعم بشكل عام في المخيم".
أصبح الإصابة بفيروس كورونا أهون بكثير من عدم الإصابة به والإغلاق للبقاء في المنزل، دون دعمٍ ومساندةٍ من المسؤولين عن معالجة هذه الأزمة الاقتصادية لمقاومة الفيروس
وتابع: "للأسف الشديد، أصبح الإصابة بفيروس كورونا أهون بكثير من عدم الإصابة به والإغلاق للبقاء في المنزل، دون دعمٍ ومساندةٍ من المعنيين المسؤولين عن معالجة هذه الأزمة الاقتصادية لمقاومة الفيروس. نحن بحاجةٍ ماسةٍ اليوم، لأنّنا نشتغل كي نأكل ونشرب. ومن ناحية التعقيم، فنحن نعمل بالإجراءات المتبعة التي وضعتها الأونروا (وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين)، للحدّ من انتشار الفيروس. كما أنّ هناك دوريّات يومية تقوم بتعقيم وتنظيف الشوارع والأماكن من حولنا".
يقع مطعم أبو فوزي وإخوانه عند مفترق الشارع العام في المخيم. ويُعتبر هذا المطعم من الأماكن المشهورة والخبيرة في تقديم الوجبات السريعة كالحمّص والفول والفلافل الشهية التي يشتهيها أهالي المخيم. قبل كورونا كان المطعم يشهد ازدحاماً شديداً، حتى نكاد لا نستطيع الدخول إليه من شدّة الطلبات المتراكمة.
اللاجئون مأساتهم ومعاناتهم أكبر بكثيرٍ من الآخرين. دخل الفيروس على جسد حياتنا ويومياتنا، غيّب الأحباب وفكّك المجتمع، وذلك أثّر على طبيعة المقهى كمجمّعٍ صغير لأبناء المخيم
ومن جهته أكد صاحب السيد عزّام، صاحب مقهى "إكسبرس كافيه" الواقع في الشارع الرئيسي في المخيم لرصيف22: "أقفل المقهى أبوابه منذ إعلان حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة والأونروا في المخيم مؤخراً بسبب فيروس كورونا المستجد، ممّا أدى إلى حالة الفراغ الشديد وتأزم الوضع الاقتصادي بشكل عام. لم نعد نرى الزبائن يتردّدون على المقهى، ويوماً بعد يومٍ غاب الكلُّ عنه حتى الإغلاق التام مثلما ترى الآن". وتابع: "كان المقهى محلَّ اهتمام المهندسين والكتّاب والمثقفين، أما اليوم فالكلّ في الحجر المنزلي، وحالة الهلع والخوف تسود الجميع؛ فكيف لمقهى صغير بمدخولٍ ضئيلٍ أن يفتح اليوم؟ أدعو الله أن تنفرج علينا جميعاً ويختفي هذا الفيروس الوبائي، وتعود الأمور كما كانت إن شاء الله، فذلك أثّر كثيراً على العموم هنا، بما فيهم أصحاب المقاهي والمطاعم. اللاجئون مأساتهم ومعاناتهم أكبر بكثيرٍ من الآخرين، والحياة أصبحت أصعب بكثير في ظلّ كورونا. دخل الفيروس على جسد حياتنا ويومياتنا، غيّب الأحباب وفكّك المجتمع عن بعضه البعض، وذلك أثّر على طبيعة المقهى كمجمّعٍ صغير لأبناء المخيم".
ومقهى "إكسبرس كافيه" كان مقهى صغيراً يرتادهُ المهندسون والكتّاب أكثر من غيرهم، يجتمعون فيه للحديث عن مشاريعهم الخاصة التي يعملون فيها. وكان ينعمُ بالهدوء المميز وبموقعٍ جميل، ممّا يدفعهم إلى التأمل والتفكير والنقاش حول استمرارية العمل الذي توقف الآن بعد انتشار وباء كورونا.
وأخيراً، تحدّث لرصيف22 مسؤول مقهى وملتقى "سوا" في المخيم، وائل فرغاوي، قائلاً: "الإغلاق بدايةً أثّر على روّاد المقهى الذين غابوا فجأةً عنه، وأصبح فارغاً تماماً من روّادهِ، كما أنّ التأثير أصبح على الفعّاليات الثقافية التي كانت تقام داخل المقهى، وهي طبعاً توقّفت بشكلٍ كامل، كالوصلات الموسيقية، القراءات الأدبية، وبرامج القراءة. كما أنّ أجرة هذا المكان تراكمت وصار من الصعب دفعها وأيضاً دفع أجرة العاملين بالمقهى. وجرّبنا أن نقدم مبلغاً خاصاً وفرديّاً كمبادرة من الشباب لكي يستمر عمل المقهى، ولكن، أيضاً، وجدنا صعوبة في الاستمرار، ممّا أدى إلى الإغلاق، لأنّهُ لم يبق شيئاً يدفعنا لبقاء المقهى مفتوحاً، وطبعاً، ذلك كلّهُ، بسبب أزمة كورونا الفيروس المستجد".
وأضاف وائل: "تمّ الإغلاق، ولكنّنا نطمح، إن شاء الله، إلى زوال هذا الفيروس بشكلٍ كاملٍ عمّا قريب، لكي نستعيد عافيتنا من جديد، ونعيد فتح المقهى ثانية. وكما المعروف، كان للمقهى صدىً واسع في المخيم، من ناحية نشاطهِ الدائم في لمّ شملِ المثقفين والمبدعين من الشباب والصبايا، وكان روّاده من داخل المخيم ومن خارجهِ. كان يأتينا الضيوف من طرابلس وبيروت أحياناً لكي يشاركونا في الأمسيات الشعرية التي كانت تقام فيه، وهو يعتبر من المقاهي الهامة في المجتمع المخيمي، وقد أغلق المقهى اليوم التزاماً منّا بالوقاية، ومنع التجمعات، وذلك لسلامة الجميع".
هكذا هو حال العالم اليوم، والأمنية الوحيدة، هي: إعادة فتح المقاهي والمطاعم، وعودة الحياة والحرية من جديد في المخيم الصغير هذا والعالم كله. هذا الحلم سيتحقق بالانتصار على كورونا إن شاء الله، وهو حلم كوني، لنخرج ونرى الشمس تزور كلّ الشوارع والمدن التي غاب عنها الناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.