تأتي العلاقات في غالب الأحيان مصادفة، وهي الطريقة الأجمل من غيرها في بناء الصداقات مع الآخرين، لا يعني ذلك أنّ العلاقة التي تُبنى بالوساطة الموعودة والمقصودة لا تعيش طويلاً، ولكن كما يقول المثل "ربّ صدفةٍ خير من ألف ميعاد".
كنّا مجموعة من الشباب والصبايا في صفحة "فيسبوك" تهتم بأخبار الفلسطينيين في أوروبا وكندا وأمريكا، ولم أكن أعرفهم جيّداً إلا عبر صورهم اليومية التي تنتشر عنهم في الـ"سوشال ميديا"، وفي يوم من الأيّام انتابني فضول أن أقرأ عن أحدهم يدعى "ماك" ماذا ينشر؟ ومن هو؟ وبماذا يهتم؟
أعرفكم بـ"مايك"
دخلتُ إلى صفحته، فرأيت شاباً يبدو أمريكياً للوهلة الأولى، لكن من اسم مدينته اكتشفت أنّهُ كندي من "أوتوا"، ينشر كثيراً من الصور والمواضيع والمقالات عن مفهوم الإنسانية في العالم، والعدالة، وحقوق الإنسان، والهوية. فتحتُ خانة "الشات" وسألتهُ بالإنكليزية:
كيفك؟
تمام. وأنت؟
تمام الحمد لله.
قال: من أين أنت؟
قلتُ: فلسطيني لاجىء في لبنان، من مخيم نهر البارد. وأنت؟
قال: من كندا - أوتوا.
أهلا وسهلاً.
قال: هل أنت في الخيمة؟
قلتُ: لا. في بيت يشبه الخيمة.
قال: أهلاً وسهلاً.
كنّا مجموعة في صفحة "فيسبوك" تهتم بأخبار الفلسطينيين في أوروبا وكندا وأمريكا، ولم أكن أعرفهم جيّداً إلا عبر صورهم اليومية، حتى انتابني الفضول أن أقرأ عن أحدهم ويدعى "ماك" ماذا ينشر؟ ومن هو؟ وبماذا يهتم؟
لم يَرد بعد ذلك على المحادثة، فافترضتُ بأنه لا يريد التحدّث معي لأني لاجىء، لكنه ردّ في نهارٍ آخر، وكأنّ شيئاً لم يكن، تابع الحديث بعفوية مطلقة، سألتهُ عن سبب الغياب المفاجىء للدردشة، قال: الآن صحوت من النوم، لا تعرف أنّ بيننا سبع ساعات كاملة، فاعتذرت لهُ بأنني لم أنتبه لفرق التوقيت الكبير بيننا، وكان شفّافاً وخفيف الظل، وأشعرني من خلال كلماتهِ بأنّهُ يحاول التخفيف عنّي من حزنٍ كبير، ولم أدر ما هو هذا الحزن، بل على العكس كنتُ سعيداً بصداقتي معهُ، فاعتقدتُ أنّهُ لم يصدق أنّني لا أعيش في خيمة من القماش، دائماً كان يقول لي: انتبه على نفسك من الحرب. كن بخير في منطقتكم. كن في سلام في الخيام.
صور نهر البارد
في الأسبوع الثاني من الصداقة العابرة بين " أوتوا" و"مخيم نهر البارد"، أرسل رقمهُ لي وبدأنا بالكلام عبر الهاتف بشكل شبه يومي، مع فارق الوقت بين البلدين، وفارق المفاهيم بين العقول، ولكن مع تماوج العاطفة بين القلوب، ورغم اختلاف الأمكنة، كنتُ دائماً أفكر قبل المحادثة معهُ، ماذا سأقول لـ"ماك" اليوم؟ ما هي أخباري لو سأل عنها؟ وماذا سأسألهُ؟ كيف سأجيب لو سألني عن الحرب والسلام؟ هل سأسأله نفس الأسئلة؟ كيف أقول لهُ "انتبه لنفسك" وهو يعيش في مجتمعٍ رومانسي الهدوء، وأنا أعيش في مجتمعٍ رومانسيّ الخراب والحرب والتوتر، والفارق شاسع بين هنا وهناك؟
حتى حديث الليل عندي وحديث الصباح عنده يختلفان في المزاج والفراغ وحيرة الكلام عن النفس والحال، لكنّنا تعاهدنا على تقريب وجهات النظر وفهم الاختلافات.
لم يصدق مايك أنني لا أعيش في خيمة من القماش، ودائماً كان يقول لي: انتبه على نفسك من الحرب، كن بخير في منطقتكم، كن في سلام في الخيام.
في إحدى المرات، أرسل إلي مقطع فيديو وهو يصحو صباحاً، ويفتح النافذة التي تطلُّ على الغابات والمشهد البحري، واللون الأخضر المفتوح على الطبيعة والأمل.
قلتُ لهُ: أوووه ... هذا الصباح الطبيعي، صباح متكامل العناصر، وخفت أن يسألني عن فيديو مشابه للطبيعة في المخيم، فهربتُ من السؤال ومن الكلام، وصرتُ أغيّر مجرى الحديث إلى حديثٍ آخر، لكن ظلت تنتابني أسئلة مفاجئة.
يا الله، أين أجد مقطع فيديو جميل لو طلب منّي أن أفعل؟ كيف سأرسل لهُ الحارات والزواريب والزينكو الذي يسيل منهُ الماء؟ وكيف سأرسل لهُ مشهد الأطفال الحفاة والنساء الثكالى ورمزية المشهد المفتوح على معانٍ كثيرة في عالمي الناقص.
يا "ماك" أعذرني، أنا آسف.
لا تتأسف صديقي، أصبح وجودك بالنسبة لي عالماً آخر.
وأنتَ أيضاً، عالمي هو إنسانية الصداقة رغم اختلاف كلّ شيءٍ.
سآتي إلى لبنان.
حقّاً؟
نعم وأنت هل ستأتي إلى كندا؟
نعم، إن شاء الله، عندما آتي ستصبح التفاصيل بين اليدين.
ماذا تقصد؟
أقصد، سنفهم معنى الاختلاف أكثر.
صحيح، هذا طبيعي في الصداقات العابرة.
كأنّنا طائران في فضاءٍ شاسع.
لا أفهم ماذا تقول؟
أرسل لي مايك فيديو وهو يصحو صباحاً، ويفتح النافذة التي تطلُّ على الغابات والبحر، فخفت أن يسألني عن فيديو مشابه للمخيم، كيف سأرسل لهُ الحارات والزواريب والزينكو الذي يسيل منهُ الماء؟ ومشهد الأطفال الحفاة والنساء الثكالى
من هذه العبارة أدرك "ماك" صعوبة اللغة العربية ومدى اختلافها في الترجمة، وقالها بخجلٍ، لا أفهم ماذا تعني، حتى بالانكليزية، وبدأتُ أفسر لهُ رويداً رويداً حتى شعرتُ بأنّني أتعلم اللغة من جديد، وأولد من جديد في صداقة جعلتني أمام خيارين: الاستمرار أو التراجع؟ وهل الوفاء مع الصديق المختلف أغلى من الشعور المختلف والولادة من جديد لاكتشاف الحقيقة؟
أتعلم منه جيداً، ما هو البرزخ بين عالمين مختلفين، لست أنا وماك وحدنا المختلفين، بل كلُّ شيء فينا له اختلافه الخاص، إذ لا أستطيع أن أكشف سرّي وسر حقيقة ما نعيشه، ليس لأنّني أخجل من الحقيقة، بل لأنّ الفكرة لن تصل إليه بالطريقة التي سأعبّر عنها، ولأنني أخاف من الاختناق في الحقيقة، ففي حديثنا هناك دائماً جملة تتردد Did you understand me؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ يومحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي