شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من سرق منّا الوقت، من يسرقه دائماً؟

من سرق منّا الوقت، من يسرقه دائماً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 27 يونيو 202410:37 ص

سيحدث ذلك غالباً قبل النوم، أو في ليالي الأرق الطويلة، في جلسة صادقة متعبة مع صديق عمرك، أو جلسة عابرة مع أحدهم في انتظار موعد القطار الليلي المتأخر دائماً، ستتساءل بنبرة منخفضة لا تخلو من يأس: من سرق منّا الوقت؟

لن تنتظر جواباً على الأغلب، سيتمدّد سؤالك داخلك حتى يمتلئ جوفك به. ربما تأتيك رغبة في التقيّؤ، ستتحايل عليها بالأكل، الكثير من الأكل الدهني أو الحلوى. ستضغط السؤال داخلك حتى يندمج مع كل ما حشرته في معدتك، حتى يتلاشى مع أول خيط من ضوء النهار.

ستزعجك أعياد الميلاد، والأعياد عموماً، وربما تزعجك كل الإجازات الرسمية والمناسبات الإجتماعية، ستربطك أكثر بالوقت الذي ينفذ، تواريخ جديدة واضحة تضعك عمداً أمام انتهاء سنة وبداية أخرى، ستعتاد عيناك رؤية أطفال يكبرون وشباب يتشبّثون بيد أطفالهم، ومواليد ألفية يحاورونك في مواضيع هامة، ستشرد مفكراً بجدية: " كيف مرّ كل ذلك الوقت؟".

ربما ستواتيك لحظة فارقة، بينما تقود سيارتك أو أثتاء تمشيتك الاعتيادية عائداً إلى منزلك في شوارع مدينتك المزدحمة، ستدرك أنك تجري، تهرول منذ سنوات، وغير قادر على التقاط أنفاسك بكفاءة. ستفتح نوافذ سيارتك أو تتوقف على جانب الرصيف إن كنت سائراً. سيدهشك إدراك أنك لم تتوقف منذ فترة طويلة، لم تأخذ هدنة لالتقاط الأنفاس. ستنظر إلى حياتك الفائتة بعين جديدة، لن يهمّك كثيراً وقتها ما أخذت من خطوات، ستنتبه فقط كم أنت متعب، وكم تحتاج إلى الراحة، وكم مرّ من الوقت هنا.

ستعتاد عيناك رؤية أطفال يكبرون وشباب يتشبّثون بيد أطفالهم، ومواليد ألفية يحاورونك في مواضيع هامة، ستشرد مفكراً بجدية: " كيف مرّ كل ذلك الوقت؟"

لن يشغلك ذلك السؤال كثيراً سوى في الأيام المرهقة، وستجد طريقتك الخاصة في إلهائه بعيداً عنك. ستبقى العلاقة بينك وبينه شائكة كوجبة ثقيلة لمعدة ممتلئة، حتى ينكسر ذلك الحاجز بينكما بحادث. سيختلف ذلك الحادث من شخص لآخر، ربما يكون فقد شخص/ منزل/ وظيفة، أو لحظة تأمّل عابرة في جلسة عائلية مملة، أو ربما رؤيتك لصورتك الشخصية التي التقطت لك دون أن تدري، فترى فيها نفسك الحقيقية التي لا تراها غالباً في نمط الصور الواعية.

ستقابل ذلك السؤال وجهاً لوجه كحيوان وفي. سترتعب منه أول الأمر، ستتجاهله  لكنه لن يتركك وحدك. سيشغل كل مساحتك الخاصة التي خصّصتها لنفسك، سيزاحمك بشكل مربك يجبرك على رؤيته. ستفرغ غضبك كله مرة واحدة، غضب سيدهشك حجمه وقوته، عاصفة ستضيع في غبارها، بعد أن تنفض ترابها من جسدك. ستربّت على كتفه بهدوء معاتباً، مردداً إياها وكأنه أغنية، تعويذة حياتك، تعويذة البشر: "من سرق منّا الوقت؟".

ستحاول الإجابة عن ذلك السؤال بمنطق، ستبحث عن رأي العلم. ربما تمرّ في طريق بحثك الجاد على نظرية "النسبية الخاصة" لآينشتاين. ستقرأ عما يعرف بـ "تمدّد الزمن". ستشاهد الكثير من الفيديوهات عن فيزياء الكم، سترى عالم فيزياء يقول "إنه لا قياس للوقت"، إذا رفعت يديك قليلاً يتغير الوقت. يقول: "المكان مؤثر طبقاً لفيزياء الكم، الكتلة مهمة، كلّما قلت الكتلة يتباطأ الوقت".

لا تهمّك فيزياء الكم على الأرجح، سوى أنها أهدتك تعريفاً حرفياً أن المدينة تأكل الزمن، المدينة المفخّخة بالكباري والطرق السريعة ويافطات الإعلانات الملونة؛ كتلتها زائدة.

تنهش الوقت ككلب مسعور، حتى إن جميع سكانها قبل النوم في دهشة يتساءلون: من سرق منّا الوقت؟

لن تعرف مدى صحّة ما فهمته عن فيزياء الكم وعلاقتها بمدينتك، لكنك ستبدأ في تكوين عداوة ما مع المدينة، ومع كل ما تشكّله، أتوبيسات النقل الزرقاء الطافحة بالبشر، عربات الكبد والفول في الشوارع، السيارات العالقة فوق الكباري، ورائحة البول تحتها، بهجة لمبات يافطات الإعلان وبؤس وجوه الناس المارّين، نداءات السائقين المختلطة مع آذان الجوامع، سباب الشباب مع طرقعة قطع الديمنو فوق طاولة المقهى الخشبية. ستخبر نفسك أن كل ذلك " كتلة زائدة"، كل ذلك يسرّع الزمن، كل ذلك يسرقك.

سيتزايد شعورك بالسرقة، دون أن تمتلك القدرة لتوجيه الاتهام لأحد، سيؤثر ذلك على صوتك، ستصحو يوماً وقد لازمتك "بحّة" في حنجرتك، ستنتهي غالباً بعد دقائق، ستواتيك من حين لآخر حين يضيق عليك الخناق لتنتهي لاتهام نفسك، بدلاً من اتهام المدينة

سيتزايد شعورك بالسرقة، دون أن تمتلك القدرة لتوجيه الاتهام لأحد، وذلك تحديداً ما يعذّبك، سيؤثر ذلك على صوتك، ستصحو يوماً وقد لازمتك "بحّة" في حنجرتك، ستنتهي غالباً بعد دقائق، وقد تطول إلى منتصف النهار، ستواتيك من حين لآخر حين يضيق عليك الخناق لتنتهي لاتهام نفسك، بدلاً من اتهام المدينة.

في رحلتك الطويلة مع الوقت/ الزمن، ستتقبل مضيه في نهاية الأمر، ستتقبّل سرقته منك، ستنشغل فقط بكونك سعيداً في تلك السرقة، أو بأضعف الاحتمالات كونك أقلّ تعاسة، ستجرّب أن تخطو أقدامك أرضاً جديدة، أكثر خضرة وأقل كتلة. سيكفيك في المكان شجرة ضخمة تفرد قدميك المتعبتين تحت ظلّها، أو كرسي بلاستيكي أمام بحر هادئ تفرد عليه ظهرك المنحنى من مقاعد المكاتب وكرسي العربة/ المترو/ الأتوبيس الخشنة.

لن تتقيأ السؤال مرة أخرى، لن تخالطه بطعام ليلي، لن تغضّ بصرك عنه كحيوان أجرب، لن تغضب، لن تجزع لحضوره المفاجئ في أوقاتك السعيدة، بل ستوقظه معك، ستسير معه، ستمتنّ لوجوده اليومي، الذي أبطأ خطوتك وأراح صوتك ورأيت معه اللون الأخضر الغائب طويلاً عن حياتك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image