لم يحالفني الحظ في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1984، كي أشاهد تأهّل الزمالك لنهائي بطولة أفريقيا للأندية أبطال الدوري، للمرة الأولى في تاريخه، بعد فوزه علي الفريق الجزائري "جيت تيزو" (شبيبة القبائل حالياً) بثلاثية نظيفة، أمام 100 ألف متفرج باستاد القاهرة، ولكني سمعت صوت الجماهير تحرث الأرض وتهزّ الإسفلت بعد هدف "كوارشي"، وأنا في بطن أمي وقبل ولادتي بـ 17 يوماً، ليكون الأمر أشبه بمعجزة شخصية أستطيع أن أسجّلها في قائمة الأساطير الخاصّة بي، وتلازمني حتى اليوم.
السبوع
كان اللون الأبيض هو أول لون رأيته في حياتي بعد أن وضعتني "الداية" على "ملاية" بيضاء دلالة بياض السريرة والمصير، وهو نفس لون "فانلة" النادي الملكي، نادي فاروق الأول "الزمالك حالياً". تقول الأسطورة إن الأنسان يولد "زملكاوي" بالفطرة، ولكنه يشجّع غيره بالوراثة والقهر، وأظن أن الإنسان يولد "زملكاوي" ثم "توسّخه" الحياة. أكاد أجزم أن والدي عندما أقاموا لي يوم "السبوع"، كان يهتف بصوت عال بجوار أذني، بعد البسملة والتكبير وتلك الطقوس المهمّة: "اسمع كلام أبوك وما تسمعش كلام محمود الخطيب".
تقول الأسطورة إن الأنسان يولد "زملكاوي" بالفطرة، ولكنه يشجّع غيره بالوراثة والقهر، وأظن أن الإنسان يولد "زملكاوي" ثم "توسّخه" الحياة
الأهلي مقابل ساندويتش البيض
لم أكن أعرف غير الزمالك، وكنت أعتقد أنه يلاعب نفسه، ولكني رأيت "فيما يرى المستيقظ"، مع الاعتذار لمجموعة نجيب محفوظ القصصية "رأيت فيما يرى النائم"، أن هناك أندية أخرى، منها غريمه الأهلي، لكني لست متأكداً حتى الآن، وعرفت من زميلي في المدرسة أنه نادٍ له شعبية كبيرة وهو يشجّعه بالوراثة أباً عن جد. حاول حينها أن يغريني بتشجيع ناديه وهو يلوّح لي بساندويتش البيض الذي تعتني بصناعته والدته قبل مجيئه إلى المدرسة، ولكنني اكتفيت بشتمه في سري وبساندويتش الطعمية البائتة الذي في حوزتي. لم ييأس صديقي العاق أو يملّ خلال سنوات الدراسة الخمس في الابتدائية في أن يجعلني أكره الزمالك، تارة بذكر بطولات ناديه وتارة أخرى بالسخرية بعد كل مباراة يُهزم فيها الزمالك على يد الأهلي. لم يكن يعنيني "التحفيل" بقدر "تقل دمه"، ولم يدرك حينها أن فرض الوصاية على أي فكرة أو هواية أو حب شيء أكرهه هو التعصّب بعينه واغتيال للمختلف، وأن الأبيض الذي طبع ذاكرتي لا يمكن لشيء أن "يعلّم عليه.
الحريفة
كان حب الزمالك أكبر من كل بطولات الأهلي وإغراءات صديقي الذي لازمني في فترة الإعدادية، وكأن دمي تجري به كرات دم بيضاء بخطين حمر. أعلّق في حجرتي صور أشهر لاعبيه في نهاية الثمانينيات وفترة التسعينيات: صورة فاروق جعفر تتوسّطها صورة المعلم حسن شحاتة، بجوارها صور هشام يكن وأشرف قاسم وعفت نصار وحمادة عبد اللطيف، بينما علقت فوق الصور ورقة بيضاء مكتوب عليها جملة بخط اليد: "شكراً لكل من كتب مجد وتاريخ الزمالك بحروف من ذهب"، وعندي يقين أنه لا يوجد على هذا الكوكب فريق يستحق التشجيع سوى الزمالك، حتى لو أخبرني حسن شحاتة نفسه غير ذلك.
كان عدد الأهلاوية من زملائي في الفصل يفوق عددنا بكثير. كنت بينهم كـ "زملكاوي" أشبه بالسمنة البلدي في زمن الزيوت المهدرجة، فكنت أقول: "يارب أنا زملكاوي ومن مواليد الثمانينات، فاغفر لي"
دعاء زملكاوي مضطهد
غرقت في حب الزمالك، ذلك الفريق الغريب الذي قد يجعلني في بعض الأحيان مرتبكاً ومكتئباً وعازفاً عن كل شيء، وهو نفسه من يحرّضني على البهجة والتفاؤل. في كل مباراة يخوضها لا تنتظر منه سوى المفاجآت والمغامرات، لا حسابات عنه، لا تهمّه الخسارة أو المكسب، كل ما يعنيه هو المتعة وكأنه يلعب على" دماغ خصمه" ومتعة جماهيره. كلّ لاعبيه يدركون أنهم ملك الجماهير التي لا ذنب لها في الخلافات مع إدارة النادي. كنت أشبّه الفريق بالشمس وجماهيره بـ "الستارة"، وكنت أقول: "مهما الشمس تدور مش هتلاقي أحنّ من حضن ستارة غلبانة".
على الطرف الآخر، كان يجلس صديقي الأهلاوي وهو يتوقع فوز فريقه الذي لا يقهر، لا يبحث عن المتعة هو يحفظ عدة عبارات كليشيهية يردّدها على مسامعي، حتى إنه صدقها. كان عدد الأهلاوية من زملائي في الفصل يفوق عددنا بكثير. كنت بينهم كـ "زملكاوي" أشبه بالسمنة البلدي في زمن الزيوت المهدرجة، والحكمة في زمن جرت فيه العادة على التكلف، أو كما قلت ذات مرة عن نفسي وأنا أحكي عن حياتي العادية: "يارب أنا زملكاوي ومن مواليد الثمانينات، فاغفر لي".
النحس في رواية أحدهم
كان الاضطهاد يلاحقني من أبناء الأهلي في الشارع والمدرسة، فذات مرة، وأنا في السنة الأخيرة بالشهادة الإعدادية وفي حصة الألعاب، شاهدني المدرس الأهلاوي مرتدياً تيشيرت شيكابالا، فرفض أن يلاعبني في الشوط الأول من مباراة مهمّة مع مدرسة منافسة، وطلب مني الجلوس على دكة الاحتياطي، وهو يقول ساخراً: "لو نزلت في الشوط الأول هنتغلب. خليك لحد ما نجيب هدف".
كان يحاول أن يشعرني بأن التيشرت الأبيض وزملكاويتي قد تجلب لفريقه النحس، واعتمد على تشكيلة فريقه التي تضم عدداً كبيراً من الطلبة الأهلاوية، ولكن شباك فريقه تلقت هدفين في الشوط الأول جعلته يلطم على وجهه مثل أربعينية تلقت خبر زواج زوجها من ثانية. لا أنكر أن تلك التفرقة جعلتني أفقد الانتماء لفريق مدرستي، ولم أحزن عندما انتهت المباراة وخرج خاسراً و"قفاه يقمّر عيش"، بل أحسست أن "الكارما" تنتقم لي.
لا أحب الأهلي ولكن في نفس الوقت لا أكرهه، وربما كلامي لن يعجب جمهور الأهلي ولكن عزيزي الأهلاوي، قبل أن تشتمني تذكر أن هناك رجلاً جاء من أقصى النادي، شتمنا جميعاً دون تفرقة بدعوى أن "سيديهاتنا معاه"
التاريخ يعيد نفسه
"فوز وتعادل وهزيمة"، هو حال كل الأندية، ولكن مع الزمالك الوضع مختلف، فلا يتمنى جمهور غريمه إلا أن يراه خاسراً حتى عندما يلاعب فريقاً آخر، مع حالة كره شديد لنجمه شيكابالا، منذ أن خطت قدماه ملعب مختار التتش مرتدياً فانلة بيضاء، ولم يتمكن من ارتداء الحمراء أو يجد نفسه داخل جدران النادي الأهلي، وعاد إلى حضن الزمالك، وحينها وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف يبني محمود عبد الرازق قواعد المجد وحده، بل لا يتورعون عن توجيه الإهانات لكل من يدافع عنه، وفي المقابل يمجّدون رموزهم مثل "زيوس" الأساطير الإغريقية.
لا أخفيكم سراً أن دموع "شيكا" كانت تبكيني لأني مثله سريع الغضب ولا أبتلع الاهانة. جمهور الأهلي هو "كوبي" ونسخة واحدة، لا يكتفي بتمجيد فريقه فحسب، ولكن يشكك في فريق الخصم ويقلّل من موهبة كبير نجومه في العلن، وفي السرّ يؤمن بمدى موهبته وحرفيته، أو كما قال نجاح الموجي في فيلم "الكيت كات": "صح بس هنكر".
ما فعله جمهور الأهلي مع شيكابالا هو نفسه ما فعله معي مدرس الألعاب عندما جعلني أجلس فوق دكة الاحتياطي لأنه شاهدني أرتدى تيشيرت شيكابالا، وهو يدرك أني لو نزلت الملعب سوف أصنع الفارق، أو التعادل في أسوأ الحالات بدلاً من الهزيمة.
"أوعى تشتم"
لقد كبرنا يا أمي، ومازال صديقي يخبرني أن "الأهلي فوق الجميع"، وأرد: "يا زمالك يا مدرسة... لعب وفن وهندسة"، وخناقات لا تنتهي عقب كل مباراة، ولكن لا تصل إلى حد الاشتباكات بالأيدي، ونكتفي بتبادل الإشارات البذيئة وأصوات تخرج من أنوفنا ليس للزكام سبب فيها، في كل زمن يخرج علينا من يزيد حالة الاحتقان بين الجمهور، فمدرس الإعدادي الذي اضطهدني في الماضي كوني لا أشجع نفس ناديه، هو نفسه المعلق الذي يستفز الجمهور المنافس لفريقه بالقول والفعل والـ "هالله هالله ع الفانلة".
كبرنا وما زال صديقي الساقط في مادة الحساب يجزم بأن "السبعة أكبر من التسعة". أعترف أنني لا أحب الأهلي ولكن في نفس الوقت لا أكرهه، وربما كلامي لن يعجب جمهور الأهلي ولكن عزيزي الأهلاوي، قبل أن تشتمني تذكر أن هناك رجلاً جاء من أقصى النادي، شتمنا جميعاً دون تفرقة بدعوى أن "سيديهاتنا معاه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...