شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الرب لم يولد في روزاريو"... ليونيل ميسي وتحريف الكتاب المقدّس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 28 مايو 202412:25 م

"دييغو الذي في الملاعب، لتتقدّس يدك اليسرى، لتجلب لنا سحرك، لتكن أهدافك كما في السماء كذلك على الأرض، أعطنا بعض السحر كل يوم، اغفر للإنجليز كما نحن غفرنا لمافيا نابولي، ولا تدع نفسك منشغلاً بالتسلّل، لكن حرّرنا من هافيلانج وبيليه". آمين

هكذا تبدأ الصلاة في "الكنيسة المارادونية" بمدينة بوينس آيريس، نعم؛ فهناك أشخاص حقيقيون في هذا العالم يعبدون اللاعب الأرجنتيني دييجو أرماندو مارادونا بالمعنى الحرفي، ويرون فيه تجسيداً حقيقياً للرب، وفي يده اليسرى أطهر معاني الحب والنضال والقداسة، لدرجة أن قام اثنان من مشجّعي النجم الأرجنتيني بتأسيس كنيسة مرجعها الديني هو هدف مارادونا ضد المنتخب الإنجليزي، والمعروف باسم "يد الله"، باعتباره نابعاً من سر إلهي مقدّس.

تلك كانت مقدمة هامةً كي نفهم مدى انسحاق الشعب الأرجنتيني أمام مارادونا، وأن صديقنا ليونيل أندريس ميسي، لن يصل إلى تلك المرتبة من التقديس مهما صنع من المعجزات، وبما أننا قرّرنا منذ زمنٍ بعيد ألا نتحدث عن الآلهة، أتينا لنحدثك عن لاعب كرة قدم من لحم ودم، ولد في روزاريو، تلك المدينة العادية، فدنّس المقدسات، وجاب العالم حتى أصبح ملء السمع والبصر، وعندما يعود إلى مدينته مرة أخرى ملفوفاً بعلم بلاده، سيدفن فيها كرجل عادي أيضاً، بلا كنائس، وبلا صلوات، وبلا أضحيات تنحر أمام مذبحه المقدس.

الفتى من روزاريو

تبدأ القصّة في منزل صغير في ضاحية من ضواحي "أندورا"، الواقعة أعالي جبال "البرانس"، وفي ليلة من ليالي سبتمبر الباردة من العام 2000، ومن اللحظة التي يجلس فيها وكيل أعمال اللاعبين الإسباني، هوراسيو جاجيولي، يقضم أظفاره، متابعاً بشغف شريط فيديو أرسله أحد شركائه من الأرجنتين، في حدث يتكرّر كل ليلة حتى بات روتيناً قاتلاً، ما محتوى هذا الشريط؟ حسناً، لم يكن إلا مجموعة من اللقطات سيئة الجودة، للاعب كرة قدم يبلغ من العمر 13 عاماً، ويلعب لنادي "نيولز أولد بويز" في مدينة روزاريو.

لم يصل ميسي بعد إلى درجة التقديس، ولكنه يظل احتمالاً وارداً، خاصةً وأن هذا ما جُبل عليه الإنسان: تلخيص الرحلة في شخص واحد، واختزال الواقع بكل ما فيه من تعقيدات، في فكرة واحدة مُصمتة

لكن الغريب هذه المرة أن الشريط كان مرفقاً بورقة صغيرة: "هام للغاية، عليك متابعة هذا الطفل بتركيز كبير"، وعندما سأل عن السبب، جاءه الرد بأن هذا الصغير: "أشبه بمارادونا من مارادونا نفسه". تبلد الرجل قليلاً، ثم ضحك سائلاً: "منذ متى ويقارن البشر بالآلهة؟". المهم؛ بعد لحظات من المشاهدة، لمعت عيناه وابتهجت أساريره: "صحيح أن البشر لا يقارنون بالآلهة، ولكن يبدوا أن القدر بعث إلينا إلهاً آخر"، وبعد تأكده من صحة ما شاهده، عقد اتصالاً بزميله في الأرجنتين: "أريد هذا الطفل في القريب العاجل".

بعد أيام قليلة؛ كان وكيل الأعمال المتردّد يجلس على أهبة الاستعداد في مطار برشلونة الدولي، منتظراً الطائرة القادمة من روزاريو، وعلى متنها الصبي الصغير ووالده خورخي، تلك الطائرة ستفتح له أبواب النعيم، خاصةً بعدما نجحت خطته في إقناع نادي برشلونة بتجربة اللاعب، صحيح أن التجربة ستستمر لمدة أسبوعين فقط، على أن يقرّر النادي ما سيفعله بعد ذلك، ولكنها تظل خطوة جيدة ولو بشكل مبدئي.

وبينما هو شارد، سمع منادياً من مكان قريب، وما إن التفت، حتى نزلت عليه صاعقة من السماء، لا تكفيها ألف سيجارة لضبط معدل النيكوتين في دمه: "الطفل قصير للغاية، وساقاه أصغر من عقلة الإصبع، وواضح أنه يعاني من مشاكل بالنمو"، ما يعني أن النادي الراغب في التوقيع معه سيتعين عليه دفع تكاليف علاجه الباهظة، وقبل أن يُلقي السلام على الحاضرين، خرجت منه ضحكة مجلجلة لم يستطع منعها: "إله يعاني من مشاكل في النمو؟ هذا ما لم نسمع به من قبل".

عيد الميلاد المجيد

في اليوم التالي، حدث ما لم يكن متوقعاً، فبينما كان الرجل في أشد حالات الاكتئاب، لتأكده من رفض النادي ضم اللاعب المريض، إلا أنه فوجئ بقرار المسؤولين بالتوقيع مع اللاعب فوراً، مع استعداد واضح لدفع تكلفة العلاج كاملة، وصرف الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على تلك الموهبة الخام> لقد تلاعب الطفل بالخصوم كما لم ير أحد من قبل، وأثبت أن في قدميه الصغيرتين كمالاً لم يشهده النادي، حتى من مارادونا.

"حسناً، سنوقع العقود": قالها أحد المسؤولين؛ ثم استطرد: "أليست جاهزة بعد؟ ممممم، لا بأس، سنوقع العقد على منديل في التو واللحظة، حتى نضمن أن الشاب أصبح ملكاً لنا رسمياً، وبعد ذلك نبدأ في إجراءات علاجه".

كانت تلك هي الليلة التي ولد بها أعظم لامسي كرة القدم في تاريخها، بالنسبة للبعض، ورغم أننا لا نميل إلى إجراء تلك المقارنات العابرة للأزمان، إلا أننا نفهمها في بعض الحالات المتطرفة؛ بالمناسبة، هل تعلم ان هذا المنديل التاريخي، قد بيع في مزاد علني بسعر 220 ألف جنيه إسترليني، بعد أن غيّر تاريخ كرة القدم؟

هل نرى افتتاح كنيسة في روزاريو لعبادة "قدم" ميسي اليسرى فقط، أو كنيسة تدمج بين "الديانتين"، فيظل مارادونا إلها كما هو، ويتحول ميسي إلى ظله، أو ابنه، أو حتى روحه القُدس؟

الفتى من برشلونة

حسناً، هناك رابط متضارب بعض الشيء يجمع بين كل ما سبق: هذا الفتى الأرجنتيني صغير السن والخبرة والمعرفة، يُعامل في كتالونيا باعتباره امتداداً لدييجو مارادونا، خاصةً بعدما رفض تمثيل منتخب إسبانيا، مفضلاً تمثيل المنتخب الأرجنتيني عليه، بينما يعامل في الأرجنتين باعتباره "الفتى الذي تنصّل من جذوره وذهب إلى برشلونة".

لماذا؟ لأن ميسي لم يلعب إلا لست سنوات فقط مع فريق الشباب في "نيولز أولد بويز"، وبحسب تقرير ميداني نشره موقع "ذي أثلتيك"، تبين أن ميسي كان مجهولاً تماماً لأهالي روزاريو، مجرّد طفل ذهب إلى برشلونة، وهذا كل ما في الأمر، وحتى عندما أتته الشهرة، لم يسع لبناء علاقة عاطفية مع أهل بلده، وذلك على عكس مارادونا الذي بنى علاقة قوية مع أهالي البلد قبل الذهاب إلى أوروبا، حيث لعب لعدة سنوات مع أندية المهمشين، "أرجنتينوس جونيورز" و"بوكا جونيورز".

وقد ظهر ذلك الفارق الشعبي جلياً أثناء حضور ليو المباراة الوداعية لزميله السابق خوان رومان ريكيلمي، في استاد "بومبونيرا"، حيث غنّت الجماهير: "ميسي، عليك أن تسامحنا، خوان رومان ريكيلمي هو الأعظم"، وحتى يردّ ريكيلمي كرامة صديقه، شبّهه بمارادونا، كالعادة، حيث قال نصّاً: "كنت طفلاً محظوظاً لأنني لعبت مع دييغو مارادونا، لقد كان أعظم لاعب رأيته في حياتي، ولكن بعد ذلك كبرت وكنت محظوظاً بما يكفي للعب مع ليو ميسي، هو أشبه به من أي لاعب آخر"، وهكذا سكنت الجماهير.

وهكذا أيضاً استمرّت تلك العلاقة "التوكسيك" بين مشجعي مارادونا وبين الابن الضال، فأصبحت متابعة ميسي تتعلّق بمدى قربه من دييجو، لدرجة أن بعض المشجعين المتعصّبين فضلوا عليه لاعباً آخر مثل كارليتوس تيفيز، لأنه نشأ في حي فقير تنتشر فيه الجريمة، تماماً مثلما نشأ مارادونا في أفقر أحياء بوينس آيرس، بينما جاءت نشأة ميسي مدلّلة للغاية، في أكاديمية "لا ماسيا" الأوروبية، حيث تلقى علاجاً باهظ الثمن، لا يقدر على دفع عُشر ثمنه أي مشجع متعصب لبوكا جونيورز.

انقلاب السردية

"ما أفعله هو لعب كرة القدم، وهذا ما أحبه، أفعل ذلك لأنني أحبه، وهذا كل ما أهتم به". ليونيل ميسي

بعد أن أطلق حكم المباراة صافرة النهاية، في ستاد "لوسيل" بقطر، سقط ليونيل ميسي على ركبتيه من التعب، ونظر إلى السماء. لم يعد يعبأ بزملائه المحتفلين، ولا بالعالم الذي اشتعل فور انطلاق صافرة النهاية. وقف في دائرة المنتصف، وانحنى، وضع يديه على ركبتيه صامتاً، لفّ الليل والنجوم على رأسه، فإذا بالعالم بأكمله بين يديه: "سكان الكتب، أئمةٌ وحداةٌ وشعراء، وكيميائيونَ وأطباء، ومُنجمُون، وخيلٌ تَملأُ البيتَ وتفيضُ على الشارع"، الكل يقف أمامه فخوراً، ولكن الغصّة في قلبه، جعلته ينظر إلى العشب في أسى، هل كان يبكي؟ لا، ولكنه لم يبتسم.

وفي تلك اللحظة، امتدت يد من ورائه، متعدية 35 عاماً، يد الله، ربتت على كتفه قائلة: "لا تخف، مادمتُ معك"، ثم فجأة، شحذ همّته، وقطع نصف ملعب كامل نحو أسرته في المدرجات، ملوحاً لهم فيما معناه أن الأمر قد انتهى، وعندما ردّت عليه أسرته التحية، وأكدت أن الأمر انتهى بالفعل، وأنه سدّد دينه لمارادونا وشعبه، بدأت السعادة تغمر وجهه الهزيل، ليتقدم في ثبات نحو المشجعين، ويغني: "يا رفاق، نحن الآن أبطال مرة أخرى، ودييغو، في السماء ينظر لنا، ويعطينا الهمة".

آه يا دييغو، لقد أرهقت هذا الرجل كما لم يرهقه أحد قط، لدرجة أنه وهو في عزّ مجده يقف منسحقاً أمامك، ويضطر للهتاف باسمك، رغم نعتك له بأبشع الصفات، نعم؛ فكم مرةً استخففت به أمام الصحافة والعلن؟ آخرها ما حدث بعد بطولة كأس العالم 2018 حين قلت: "لم يعد علينا تأليه ميسي، فمن الصعب أن تصنع قائداً من رجل يذهب إلى دورة المياه عشرين مرة قبل المباراة"، في إهانة صريحة وواضحة، ورغم ذلك، ها هو يطلب المدد منك تحديداً بعد كل هزيمة أو نصر.

بالطبع لا يمكننا "تأليه" ميسي، ببساطة لأنه ليس إلهاً، بل أنت الإله، وستظل هكذا طوال العمر، لن يزحزك أحد عن مكانك، وسيبصم على قدسيتك كارهوك قبل محبيك، حتى مدرب الفريق ليونيل سكالوني، سيستنجد بك إن تعقدت الأمور، فطالما تحمل الجنسية الأرجنتينية، فهذا يعني أنك ترزح تحت نير هذا الكيان الخارق المسمى بمارادونا، إلى الأبد.

بعد أن أطلق حكم المباراة صافرة النهاية، في ستاد "لوسيل" بقطر، سقط ليونيل ميسي على ركبتيه من التعب، ونظر إلى السماء: لقد سدد دينه لمارادونا وشعبه

"دع ما لله لله، وما لميسي لميسي"

هاهو ليو بعد تلك الرحلة المأزومة، يقف مبتسماً أمام الصحفي، صوفي مارتينيز، ليتلقى مديحاً هائلاً: " ليو، لقد أثرت في كل أرجنتيني، لا يوجد طفل في الأرجنتين لا يرتدي قميصك، شكراً لك على السعادة الكبيرة التي جلبتها لكثير من الناس، أتمنى أن تُبقي تلك اللحظات في قلبك لأنها أهم من كأس العالم، لقد أصبحت معشوق الجماهير، وهذا بالنسبة لي أكثر أهمية من كأس العالم". لحظة واحدة؛ هل معنى ذلك أنه سيتحول إلى إله أرجنتيني آخر؟

حتى هذه اللحظة، لا؛ لم يصل الرجل إلى درجة التقديس تلك ولكنه يظل احتمالاً وارداً، خاصةً وأن هذا ما جُبل عليه الإنسان: تلخيص الرحلة في شخص واحد، واختزال الواقع بكل ما فيه من تعقيدات، في فكرة واحدة مُصمتة، هذا هو التاريخ البشري بكل بساطة؛ خلطة عجيبة من التنكر والخوف والخيانة والكذب والتدليس والقمع، وعندما يغيب الطرح المنطقي في مجتمع يملأه الرعب الخوف، يذهب الناس تلقائياً لخلق الأساطير، ويصابون بأفظع ما يصاب به المرء؛ لعنة انتظار البطل المخلص، وساعتها فقط تبدأ الآلهة في الانتشار والنمو، آلهة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وكرة القدم، آلهة بشوارب غليظة ورتب عسكرية.

وهذا ما نخشاه فعلاً؛ أن نرى افتتاح كنيسة في روزاريو لعبادة "قدم" ميسي اليسرى فقط، أو كنيسة تدمج بين "الديانتين"، فيظل مارادونا إلها كما هو، ويتحول ميسي إلى ظله، أو ابنه، أو حتى روحه القُدس، ثم يتحوّل بعدها من لاعب عظيم وممتع إلى كيان اعتباري يضغط على أعصاب المجتمع، ويُحول كل نجاح لم يصل إلى هذه الدرجة إلى فشل تام.

ولذلك نُفضل أن نتذكره كإنسانِ عادي، أدخل السرور على قلوبنا في أشد لحظات الظلمة، وملأ العالم بهجة وحباً وجمالاً، ثم رحل عنَّا بكل بساطة، نحب أن نمصمص شفاهنا عند استرجاع لقطاته البديعة، قائلين: "آه يا حلو يا مسليني، من كتر شوقي إليك ما بنام"، دون أن نضطر لخوض هذا النقاش الأبله مرة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard