على مدار أكثر من خمسة قرون متتالية، لعبت ممكلة ميسان أدواراً سياسيةً وتجاريةً مهمةً، وذلك بحكم موقعها الجغرافي المتميز على رأس الخليج العربي، ما جعلها هدفاً لعدد من الإمبراطوريات والدول آنذاك. فما هي قصة هذه المملكة المندثرة؟
يذكر الدكتور محسن مشكل الحجاج، في دراسته "دولة ميسان 324 ق.م-225 م إحدى دول الخليج العربي القديمة"، أن المؤرخين اختلفوا حول الموقع الدقيق لمملكة ميسان، فرأى قسم منهم أنها تشمل جنوب بلاد الرافدين بأكمله، وأنها على ساحل الخليج العربي، ورأى البعض الآخر أنها في منطقة القرنة أو جنوبها، فيما أضاف فريق ثالث مدينة المحمرة إليها بل ذهب إلى أنها كانت عاصمة المملكة.
على مدار أكثر من خمسة قرون متتالية، لعبت ممكلة ميسان أدواراً سياسيةً وتجاريةً مهمةً، وذلك بحكم موقعها الجغرافي المتميز على رأس الخليج العربي، ما جعلها هدفاً لعدد من الإمبراطوريات والدول آنذاك. فما هي قصة هذه المملكة المندثرة؟
ويرى الحجاج، أنه من خلال تحديد المدن التابعة لدولة ميسان يمكن القول إن حدودها تشمل جنوب العراق كله من ساحل البحر جنوباً وتشمل أيضاً المحمرة، لكن تقلصت مساحتها في الفترات الأخيرة لعمر هذه الدولة.
حلم الإسكندر المقدوني بدجلة
ويذكر سيف جلال الدين الطائي، في كتابه "أسرار نخلة ميسان... تاريخ مملكة ميسان منذ النشوء إلى نهاية الدولة الأموية"، أن ميسان من أهم الممالك التي عُرفت في العصر الهيلينستي (بدأ بعد وفاة الإسكندر الأكبر وشهد انتشاراً للثقافة اليونانية)، ولا تقلّ أهميةً عن البتراء في الأردن، أو تدمر في سوريا، أو الحيرة في العراق أيضاً، إذ كانت ذات أهمية تجارية عالمية، والروايات والنقوش القديمة تشير إلى ذلك.
وبحسب الطائي، فإن هذه المملكة هي إحدى الإسكندريات التي أنشأها الإسكندر المقدوني عند دخوله بلدان الشرق، وأراد أن ينطلق منها بمشروعه العالمي، وذلك بغرض السيطرة على مركزية الإدارة، ونشر الثقافة الهيلينية في المناطق التي سيطر عليها في الشرق أو في شمال إفريقيا، لتصبح بذلك مركز إشعاع حضاري.
على كلٍ، أنشأ الإسكندر هذه الإسكندرية في شهر نيسان/أبريل أو أيار/مايو عام 324 ق.م، وأطلق عليها بعض الباحثين تسمية "إسكندرية دجلة"، برغم أنها حملت أسماء عديدةً في ما بعد منها "ميسان". وبحسب الطائي، اختير موقع المدينة بدوافع تجارية لوقوعه على طرق بحرية رئيسية، فأراد الإسكندر لها أن تكون حلقة وصل بين بابل (استولى عليها عام 331 ق.م)، وموانئ الخليج العربي من جهة، وموانئ الهند وباقي مناطق آسيا من جهة أخرى، كما أسكن فيها المرتزقة والمشردين من الإغريق والجنود المقدونيين القدماء.
غير أن المدينة تعرّضت لفيضانات عديدة، خاصةً في بداية عهد الدولة السلوقية (دولة إغريقية تأسست في غرب آسيا بعد تقسيم تركة الإمبراطورية المقدونية التي أسسها الإسكندر الأكبر)، ولذلك لم ترقَ إلى حلم الإسكندر بأن تكون ميناء مهماً، لذا أهملها السلوقيون، خاصةً بعد بروز مدن تجارية أخرى مثل الجرهاء العربية في الجزء الجنوبي من الخليج العربي، والتي سيطرت على تجارة الجزيرة العربية والهند.
عودة الحياة إلى ميسان
بيد أن الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة في ما بعد، زادت من أهمية مدينة إسكندرية دجلة، فقد تولى الحكم فيها رجل يُدعى "تيخون" بعد ثورة مولون على حكم أنطيوخوس الثالث في حدود عام 221 ق.م، وكان قبل ذلك رئيساً لأركان الجيش السلوقي، حسب ما ذكر الدكتور واثق إسماعيل الصالحي في دراسته "نشوء وتطور مملكة ميسان... دراسة تاريخية وأثرية".
في ميسان عاش العرب، ومنها نزحوا إلى بلاد فارس، وتوغلوا شرقاً إلى عيلام (خوزستان)، ثم إلى الأقسام الجنوبية من فارس.
ويبدو أن تعيين حاكم ذي منزلة عالية لميسان دلّ آنذاك على بدء اهتمام السلوقيين بها، لما لها من أهمية اقتصادية، حيث أراد تيخون أن يعيد سيطرته على طرق التجارة العالمية من خلالها، ومن ثم ازداد نشاط الأسطول السلوقي في الخليج العربي بهدف إتاحة حرية الملاحة في المنطقة والمحافظة على طرقها البحرية المؤدية إلى الهند.
وبعد اعتلائه عرش السلوقيين (175-164 ق.م)، صمم أنطيوخوس الرابع على تحسين حالة اقتصاد مملكته المتردية، لذا وضع خطةً لتحويل مركز النشاط التجاري نحو منطقته، فأصدر أوامره بإعادة بناء مدينة الإسكندرية لتحل محل مدينة الجرهاء كحلقة وصل بين السلوقيين والشرق، وأطلق عليها اسم أنطاكية، كما روى الصالحي.
وارتدت المدينة حلةً جديدةً في حدود عام 166-165 ق.م، حيث عُيّن عليها حاكم عربي اسمه "هيسباوسينس"، وانتعشت في عهده.
صراعات في البلاط واستقلال ميسان
غير أن هذا الاهتمام المتزايد من قبل الملوك السلوقيين لم يدُم سوى فترة قصيرة من الزمن، إذ انتهى بوفاة أنطيوخوس الرابع في عام 163 ق.م، بعدما دبّ الضعف في جسم الدولة السلوقية نتيجة الصراع داخل البلاط بين المتنافسين على السلطة، مما أدى إلى انفصال أجزاء وأقاليم شرقية مهمة وإعلان استقلالها مثل ممالك "عيلام" و"فارس" و"ميديا"، كما ذكر الصالحي.
تميزت ميسان بتعددية دينية تشير إلى كونها مملكةً عالميةً منفتحةً على العالم بفعل تجارتها وعلاقتها الطيبة بالدول الأخرى، وكذلك تشير إلى التعايش السلمي بين الأديان.
وبرغم ذلك، استطاع هيسباوسينس أن يحافظ على دولته بعيداً عن تلك الصراعات والمنازعات، وأن يستثمر النشاط التجاري المزدهر في إنعاش مدينته التي أصبحت حلقة اتصال بين الشرق والغرب. وخلال الأعوام من 141 ق.م إلى 139 ق.م، استطاع أن يعلن استقلاله عن الدولة السلوقية التي كانت قد وصلت إلى نهايتها بعد سيطرة الفرثيين عليها.
وفي حدود عام 120-121 ق.م، وقعت مملكة ميسان تحت سيطرة الفرثيين بقيادة الملك مثراداتس الثاني، لكنه أبقى على هيسباوسينس في حكم المملكة بعد أن قلّص نفوذه السياسي وحدّ من سلطاته وجعلها تابعةً للسلطة الفرثية، بحسب الصالحي.
وتوالت الأحداث على ميسان؛ استقرار وازدهار اقتصادي في فترات، وقلاقل بسبب طمع بعض القوى والإمبراطوريات والغزاة فيها بسبب موقعها الفريد فترات أخرى، حتى تمكّن الملك الساساني أردشير بن بابك من السيطرة على المملكة، وقتل ملكها الأخير عبد نركل الثالث عام 224م، وجعل ابنه مهرشاة ملكاً عليها، لتنتهي بذلك المملكة التي استمر وجودها على مدار أكثر من 500 عام.
ويروي الصالحي، أن أردشير بن بابك اهتم بميسان، فأعاد بناءها من جديد، ووسّع المرافئ البحرية القديمة وأنشأ فيها مرافئ جديدةً، ولذلك أخذت السفن الفارسية تسيطر على البحار الشرقية كلها، ثم تفوقوا عليهما في ما بعد. وبحسب الصالحي، غيّر أردشير اسمي أهم مدينتين في المملكة إلى أسماء ساسانية، وهما العاصمة خاراكس إلى إستراباد-أردشير، والفرات إلى بهن-أردشير.
واستمرت المدينتان حتى الفترات الإسلامية الأولى، إلا أنهما فقدتا أهميتهما السوقية التي تمتعتا بها بسبب توقف التجارة، لكنهما في العصر الأموي الإسلامي أصبحتا من مناطق سك النقود.
ويذكر الصالحي، أن فرات هُجرت كلياً خلال منتصف القرن التاسع للميلاد، وأن الكرخة استمرت حتى عام 1340م، ثم لم تُذكر مطلقاً بعد ذلك التاريخ.
مدن مملكة ميسان
على مدار تاريخها ضمت ممكلة ميسان عدداً من المدن المهمة، منها خاراكس العاصمة، وكانت ميناءً مهماً على رأس الخليج العربي، بحسب الطائي في كتابه المذكور آنفاً.
وعلى بعد 11 ميلاً من خاراكس، وُجدت "الفورات" أو "الفرات"، وعُرفت أيضاً في مصادر عديدة باسم "فرات ميسان"، وكانت من المدن التجارية المهمة، باعتبارها ميناء تنطلق منه خطوط تجارية بحرية ونهرية إلى مناطق مختلفة وقد وصلت إلى الهند.
وإلى الجنوب كانت تقع مدينة "الأبلة" على الضفة الغربية لنهر دجلة، على مقربة من خاراكس ونهر الفرات، وهذا الموقع الجغرافي المميز جعلها نقطةً مهمةً في طريق المواصلات البحرية، فكانت بمثابة حلقة وصل بين أسواق الشرق من ناحية وأسواق البحر المتوسط من ناحية أخرى، وكانت تستقبل أعداداً كبيرةً من سفن الهند إلى درجة أن أُطلق عليها "أرض الهند".
ويذكر الطائي أيضاً مدينة باب ساليميتي، وكانت عبارةً عن ميناء يقع على رأس الخليج العربي، بالقرب من نهرَي دجلة والفرات، وكذلك مدينة "أفاميا" التي وردت في التلمود باسم "أباميا العليا والسفلى"، وبسبب موقعها التجاري أقيم فيها سوق تجاري مهم، حيث كانت تصدّر إلى موانئ الهند محاصيل بلاد وادي الرافدين والشام وآسيا الصغرى وأوروبا، وتستورد منها أخشاب الصندل والأنبيوس ومنتجات الهند والصين.
جاليات وأعراق مختلفة
عُرفت ميسان بتمازج الثقافة الهيلينية مع الثقافة الشرقية فيها، ما يعني أن المملكة ضمت جاليات يونانيةً، خاصةً جنود الإسكندر الذين أطلقوا اسم "بيلا" على جزء من المدينة التي سكنوا فيها، في إشارة إلى اسم المدينة التي وُلد فيها الإسكندر المقدوني. وبحسب الطائي، سكن ميسان أيضاً عمال بابليون، وشكلوا جزءاً مهماً من سكانها، كما شهدت المملكة وجوداً آرامياً.
عُرفت ميسان بتمازج الثقافة الهيلينية مع الثقافة الشرقية فيها، ما يعني أن المملكة ضمت جاليات يونانيةً، خاصةً جنود الإسكندر الذين أطلقوا اسم "بيلا" على جزء من المدينة التي سكنوا فيها
وفي ميسان عاش العرب، ومنها نزحوا إلى بلاد فارس، وتوغلوا شرقاً إلى عيلام (خوزستان)، ثم إلى الأقسام الجنوبية من فارس.
ولأن ميسان كانت مدينة تجارة عالمية، فهذا يعني وجود جاليات من شتى الأماكن الأخرى فيها، مثل تدمر والبتراء وكذلك من روما، فضلاً عن أواسط آسيا مثل بلخ وبلاد الصغد والترك والهند والصين.
تعددية دينية
تميزت ميسان بتعددية دينية تشير إلى كونها مملكةً عالميةً منفتحةً على العالم بفعل تجارتها وعلاقتها الطيبة بالدول الأخرى، وكذلك تشير إلى التعايش السلمي بين الأديان في جنوب العراق. وبحسب الحجاج في دراسته المذكورة آنفاً، تأثّر أهل ميسان عقائدياً بحضارة وادي الرافدين القديمة، فعبدوا الإله نرجول (إله العالم الأسفل) في العصر السومري، كما عبدت الجالية الإغريقية الإله هرقل، أما السكان العرب فقد عرفوه بالإله "نركول" أو "نرجول" ونقشوا صورته على نقودهم وأقاموا له التماثيل في دور عبادتهم.
وعرفت ميسان الديانة اليهودية منذ القرون الثلاثة قبل الميلاد، حيث استقرت جالية يهودية في مدينة أفاميا التي كانت مقراً رئيساً ليهود ميسان، وكذلك في مدينة "بيرات دي ميشان". وبحسب الحجاج، كانت العلاقة بين يهود ميسان ويهود بابل غير طيبة، وكان التزاوج بين الطائفتين محرّماً.
كما عبد أهل ميسان آلهةً عربيةً، مثل الإله بعل الذي كانت له مكانة سامية عند عرب هذه الدولة، وكذلك انتشرت فيها الديانة المسيحية، وأصبحت لها مطرانية في المملكة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.