تناثرت قصص اليهود الذين استوطنوا عُمان وطوى بعضها النسيان، والريح عرّت آثارهم فأصبحوا أشبه بسطور ممسوحة من التاريخ ولا يُعرف عددهم الحقيقي.
في السنين القليلة الماضية، كثر الحديث عن يهود شبه الجزيرة العربية، وليست الحكايات كلها عن القبائل التي سكنت "يثرب" ويهود اليمن.
في العام 2020، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمؤيدي ومعارضي تقديم الممثلة الكويتية حياة الفهد، مسلسل "أم هارون"، من كتابة البحرينيَين الأخوين محمد وعلي شمس. بعيداً عن الدوافع وما أثير حول العمل، يبقى أنه فتح باباً جديداً للحديث عن يهود الخليج.
وكان قد سبق ذلك بعام صدور كتاب "تاريخ يهود الخليج"، ويتناول بالتحديد البحرين، عُمان، الإحساء ، والكويت، للكاتب والباحث العراقي نبيل الربيعي، الذي أبحر في حكاياتهم وأصولهم واندماجهم في المجتمعات الخليجية برغم شحّ المعلومات التي لم يوثّقها سوى الرحالة الأجانب الذين مرّوا بتلك المدن وخلّدوا بعض الحوادث والشواهد. بقيت حكايات يهود عمان متواريةً مقارنةً بحكايات يهود باقي المناطق.
بداية اللجوء إلى عمان
تحكي الأساطير عن معجزة وجود ذاك البناء العتيق في المقبرة اليهودية المنسية، وعن تلك الفتاة التي ظلّت تهرب باحثةً عن ملجأ وملاذ يحميها ممن يلاحقها محاولاً العبث بجسدها، ليحيط بها الطين من كل صوب مقيماً حاجزاً يحميها من غريمها.
بدأ اليهود بالتوافد إلى عُمان بالتزامن مع الاستعمار البرتغالي للمنطقة في القرن السادس عشر، والذي استمر نحو 150 عاماً، ويؤكد المؤرخ نبيل الربيعي أن ذلك له أثر مباشر على هجرة الأقلية اليهودية، فقد وفّر لهم الاستعمار الحمايةَ، وعدّهم من رعاياه، فلم يحاكَموا في المحاكم المحلية إلا بحضور المعتمد السياسي أو من يمثله
بدأ اليهود بالتوافد إلى عُمان بالتزامن مع الاستعمار البرتغالي للمنطقة في القرن السادس عشر، والذي استمر نحو 150 عاماً، ويؤكد المؤرخ نبيل الربيعي أن ذلك كان له أثر مباشر على هجرة الأقلية اليهودية، فقد وفّر لهم الاستعمار الحماية، وعدّهم من رعاياه، فلم يحاكَموا في المحاكم المحلية إلا بحضور المعتمد السياسي أو من يمثله.
إلا أن القرن التاسع عشر وفترة حكم الإمام سعيد بن سلطان، شهدا التواجد الأكبر للجالية اليهودية، وتُعدّ هذه الفترة بمثابة العصر الذهبي، حيث ازدهر نشاطهم الاقتصادي وكانت مسقط وصحار ومطرح أبرز المدن العمانية التي استوطنتها الأقلية اليهودية، فكانت مطرح وميناؤها مهمّين للنشاط التجاري ما جذب الكثير من السكان نحوها، وشجّع اليهود على الإقامة فيها. أما مدينة صحار، وهي واحدة من أهم المدن العمانية وأقدمها، فقد كانت مركز التجمع الأكبر للجالية اليهودية التي امتهن أبناؤها صناعة الطوب المحروق الأحمر الذي يُستعمل في المباني العتيقة، كما عملوا في تجارة المعادن والفضة، ومن آثارهم التي لا تزال إلى اليوم في صحار مقبرة عتيقة تعود إلى القرن الثاني عشر وتضم 200 قبر.
غالبية اليهود الذين جاؤوا إلى عُمان، هم من العراق واليمن وإيران والهند. تعددت أسباب مجيئهم، فكانت إما بدوافع سياسية أو هرباً من الكوارث والأوبئة. وبحسب الرحالة الإنكليزي جيمس ولستد، في كتاب "تاريخ عُمان... رحلة إلى شبه الجزيرة العربية"، فإن إمام عُمان سعيد بن سلطان، استقبل جماعةً من اليهود لجؤوا إلى مسقط هرباً من بطش والي بغداد داود باشا عام 1828.
المستشرقون ويهود عُمان
كان لسحر الكثبان الرملية وصحراء الربع الخالي وهي تعانق تلك الأجساد التي اعتادت البرد، الفضلُ في جذب اليهود إلى مدن شبه الجزيرة العربية. فقد لعب المستشرقون الأجانب من تجّار وسياسيين ورحالة دوراً بارزاً في تأريخ وتخليد الكثير من الصور والشواهد والحكايات المتوارثة في المنطقة.
تعرف نوارس الموانئ حكاية التاجر اليهودي إسحاق، الذي سكن صحار منذ القرن العاشر الميلادي في واحدة من أقدم المصادر على الوجود اليهودي. فالتاجر الشاب، وبحسب مجلة "الدراسات العمانية" (العدد 15)، كان من أثرياء مدينة صحار كما وصفه بوزورق (بُزُرْك)، وهو قبطان سفينة فارسية.
كانت مسقط مدينةً ساحرةً تعجّ دوماً بالحياة وكان الميناء أحد أكثر الأماكن حيويةً فيها، ترى فيه أجناساً وأعراقاً مختلفةً من البشر يتاجرون مع بعضهم بعضاً؛ هذا ما نقله المؤرخ البريطاني جون ب. كيلي في كتابه "بريطانيا والخليج 1795-1870"، عن القبطان فرانسيس لوش الذي زار مسقط عام 1818، وأشار إلى وجود جالية صغيرة من اليهود إلى جانب العرب والبلوش والفرس والهنود.
لم يكن فينزنزو الإيطالي، طبيباً عادياً، فإلى جانب الغموض المحيط بشخصيته لم تكن لتخفى عنه شاردة أو واردة تحدث في قصر إمام وحاكم عمان سعيد بن سلطان إلا عرفها، وقد دوّن في كتابه "تاريخ السيد سعيد" عام 1810، عن وجود عدد ضئيل من اليهود في مسقط وبعد سنوات عدة أكد الرحالة جيمس فريزر في "مذكرات رحلة إلى خراسان" تضاعف أعداد اليهود في مسقط بعد نحو 12 عاماً مما كتبه الطبيب الإيطالي.
معاملة حسنة تفوق معاملة أوروبا
لم يفرّق العمانيون بين الأعراق والأجناس والأصول، فكل من يسكن أرضهم ويحترم عاداتهم وتقاليدهم يصبح منهم. ولا عجب أن بعض اليهود في مدينة صحار لا يعرفون أصولهم ولا تاريخاً حقيقياً لهجرتهم إلى عُمان، هذا ما أكدته مجموعة من اليهود لأطباء بريطانيين في مسقط وذكرها عالم الآثار ويندل فيلبس في كتابه "رحلة إلى عُمان".
لم تكن الطبيعة الجغرافية المتنوعة في عُمان هي فقط مثار الدهشة والإعجاب، فلم يتوقع أن تكون الأخلاقيات والعادات عند العرب تفوق حالها في أرقى المدن المتطورة في ذلك الوقت. يقول المكتشف وعالم الخرائط والرياضيات الألماني كارستن نيبور، حين مروره بعمان في أثناء البعثة الدنماركية إلى بلاد العرب 1764م، إنه لم يستطع التفرقة بين الانتماءات الدينية والعرقية بين العمانيين المسلمين واليهود، فالعادات متشابهة ولا يوجد فرق في اللبس والتعامل وأماكن سكنهم، بل إنه لم يلمس أن بينهم أي نوع من أنواع الكره أو الحقد، ودوّن ذلك في كتاب "مشاهدات نيبور في رحلة من البصرة إلى الحلة"، واصفاً العمانيين بأنهم يعاملون اليهود باحترام ودون تفرقة إلى درجة تفوق معاملة شعوب أوروبا لهم.
غالبية اليهود الذين جاؤوا إلى عُمان، هم من العراق واليمن وإيران والهند. تعددت أسباب مجيئهم، فكانت إما بدوافع سياسية أو هرباً من الكوارث والأوبئة
كانت لليهود طقوسهم الخاصة، ومن أشهرها صناعة النبيذ التي ارتبطت بمناسبات دينية إلى جانب التجارة، فقد كانت إحدى مهنهم الأساسية في شبه الجزيرة العربية. وهناك حادثة ارتبطت ببدايات توافد اليهود إلى عُمان، وجلبهم تلك العادة التي لا تتوافق مع البيئة المجتمعية والدينية العمانية فتم رفضها بشكل عنيف حين دمّر بعض العمانيين بيوتاً لصنع الخمر في مدينة صحار عام 1696م، وهو ما وثّقه أندرو وليليامسون في كتابه "صحار عبر التاريخ".
هجرة اليهود من عُمان
باتت خسائرهم تتراكم ومكانتهم الاجتماعية تقلّ، ما دفع عدداً من يهود عُمان إلى الهجرة جراء انهيار اقتصادهم في الداخل العماني. في تلك المرحلة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، برزت تجارة مختلفة عن مهن اليهود العرب، وارتبطت هذه التجارة بشكل خاص باليهود الأجانب وهي تجارة السلاح، ويبدو أن موقع عُمان جذب العديد من التجار الأجانب والوكالات إليها في ظل التنافس البريطاني-الفرنسي على المنطقة. ومن تجار الأسلحة اليهود الذين أقاموا لفترة في عُمان كان الفرنسي أنطوان جوجييه (1864-1907)، كذلك منشي كوكيل الذي عمل لصالح شركة لويس دييو الفرنسية.
تقلصت أعداد اليهود تدريجياً مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، دون ذكرٍ لأسباب تتعلق بالعنف أو الاضطهاد. لكن اتضحت العديد من الدوافع التي أدت إلى هجرة الجالية اليهودية مسقط، وتركها منازلها وتجارتها في عُمان، ومنها أن اليهود وجدوا صعوبةً في منافسة الجالية الهندية "البانيان" التي سيطر أبناؤها على أغلب التجارات، ومنها المهن اليهودية الشائعة، وأبرزها تجارة المعادن والفضة، ما أثّر على حضورهم ونشاطهم الاقتصادي في عُمان ولم يجعل أمامهم من خيار سوى الرحيل.
لا يمكننا طبعاً الربط بين اليهود الذين استوطنوا عُمان والحركات الصهيونية، فلم يُنقل عنهم ما يدينهم في هذا الشأن أو ما يشير إلى أي علاقة بهم بالحركات الصهيونية. كانوا كغيرهم ممن احتوتهم هذه الأرض وانتموا إليها بمختلف أصولهم، كما الكثير من اليهود الذين سكنوا المنطقة وبلدانها كالعراق وإيران، بل كان لهم الأثر الكبير لا سيما في التجارة والأسواق في الشرق الأوسط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه