سمعنا الكثير عن النساء المناضلات والقويات في العصر القاجاري (القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين) في إيران. كانت هؤلاء النساء يحكمن ويتخذن قرارات مصيريةً للبلاد وهن جالسات في منازلهنّ. هؤلاء النساء المؤثرات منهن من لم يتعلمن فكّ الخط في كثير من الأحيان، وأخريات كُنَّ يعانين من قلة التعليم، لكن بالرغم من هذا الأمر كان لهنّ تأثير عميق على التاريخ والمجتمع الذي عشن فيه، وذلك باعتمادهن على شخصياتهنّ القوية وما تعلّمنه من الحياة.
العديد منهن تركن وراءهنّ تاريخاً عظيماً يُذكر حتى يومنا هذا، ومنهنّ من كن أمهات لأبناء أصبحوا ملوكاً أم وزراء مقتدرين، وغيّروا أجزاء من التاريخ، ومنهن من شيّدن قصوراً أو نظمن جمعياتٍ أو ألّفن كتباً، فكان لكل منهن تأثير ملحوظ على تاريخ البلاد. إحدى هؤلاء النساء هي الأميرة القاجارية ملك تاج فيروز الملقبة بـ"نجم السلطنة".
نجم السلطنة، والدة إحدى أهم الشخصيات السياسية في تاريخ إيران، أي محمد مصدق، رئيس الوزراء الذي أمّم البترول في إيران، وهي معروفة أيضاً بتأسيسها "مستشفى نجمية" في طهران، أول مستشفى خاص وحديث في إيران، تمّ افتتاحه عام 1929، وقد خصصته نجم السلطنة للمرضى المعوزين. قبل التعرف على الإرث القيّم الذي تركته تلك الأميرة القاجارية، نلقي أولاً نظرةً على حياتها.
طفولتها
وُلدت "نجم السلطنة" عام 1855، في مدينة تبريز شمال غرب إيران، وسُمّيت بملك تاج فيروز. جدّها هو عباس ميرزا نائب السلطنة، ووالده فيروز ميرزا "نصرت الدولة الأول"، ووالدتها حاجية همايون سلطان، أو كما كانت تُسمّى "هما خانم". ارتبطت أسرة فيروز ميرزا ارتباطاً وثيقاً بالعائلة المالكة، وذلك من خلال زواج شقيقة "نجم السلطنة" الصغرى "سرور السلطنة"، من مظفر الدين شاه القاجاري، وأيضاً زواج شقيقها عبد الحسين ميرزا من ابنة مظفر الدين "عزت السلطنة".
نجم السلطنة، والدة إحدى أهم الشخصيات السياسية في تاريخ إيران، أي محمد مصدق، الذي أمّم البترول في إيران، وهي معروفة بتأسيسها "مستشفى نَجمية"، أول مستشفى خاص وحديث في إيران
كانت والدتها "الحاجة هوما خانُم"، امرأةً جميلةً ومتدينةً وقويةً ومحترمةً، وكانت بسبب كثرة أسفار زوجها، مسؤولةً عن تربية الأطفال وكذلك شؤون المنزل. قامت هوما خانُم ببناء مدرسة ومسجد الأميرة (مسجد الزهراء حالياً)، في طهران عام 1918، في عهد ناصر الدين شاه. كما يُعدّ بناء قبة مقام داود (بالفارسية إمام زاده داود) بالقرب من طهران من أعمال والدة نجم السلطنة.
لم تكن هذه الأعمال غريبةً عن نجم السلطنة، إذ ورثتها من والدتها. ولو ألقينا نظرةً سريعةً على التاريخ، سنرى أن جميع أبناء الحاجة هوما خانُم، يُعدّون شخصيات مرموقةً ومهمةً في تاريخ إيران.
تعلمت نجم السلطنة القراءة والكتابة مع إخوتها وأخواتها، وذلك تحت إشراف معلمي المنزل.
الزوجة والأخت والوالدة المؤثرة
تزوجت في سن الرابعة عشرة من مرتضى قلي خان نوري، ابن حاكم كِرمان، الذي كان يكبرها بكثير. وكانت نتيجة هذا الزواج ابنتين هما شوكت الدولة وعِشرت الدولة، لكن زوجها توفي بعد فترة، فتزوجت بعد ذلك من الوزير ميرزا هدايت الله في عام 1881، وأنجبا طفلَين، هما: آمنة دفتر الملوك ومحمد مصدق.
أما زوجها الثاني أيضاً توفي مصاباً بالكوليرا، وكان عليها أن تتحمل مسؤولية تعليم أطفالها وحدها. بعد برهة من الزمن، تزوجت للمرة الثالثة، وكان نتيجة هذا الزواج ميلاد أبو الحسن ديبا، رجل الأعمال الشهير ومؤسس فندق "طهران بارك".
تُعدّ مراسلات "نجم السلطنة" مع شقيقها عبد الحسين ميرزا فَرمانْفرما، من خير الشواهد على العصر الذي عاشت فيه، إذ بعد اعتلاء مظفر الدين شاه العرشَ، بعد مقتل والده ناصر الدين شاه، اشتبه في عبد الحسين ميرزا، الذي كان مسؤولاً عن وزارة الحربية في بداية عهده، ومن هذا المنطلق نفاه الملك الجديد إلى العراق. وخلال فترة النفي كان عبد الحسين ميرزا يراسل شقيقته باستمرار.
جمعت الكاتبة الإيرانية منصورة اتحادية في كتاب "النساء اللواتي ارتدين القبعات تحت الوشاح"، الرسائلَ المتبادلة بين نجم السلطنة وأخيها. هذه النصوص تمثل أسلوب حياة المرأة القاجارية، إذ كُتبت بلغة بسيطة وبعيدة عن الخط الأدبي المتداول آنذاك، وشملت كلّ شيء، بدءاً من التاريخ والمشكلات، مروراً بالأحوال السياسية والاجتماعية ومعيشة الناس إلى وصف الاضطرابات في طهران في ذلك الوقت.
ذُكرت في هذا الكتاب، ست عشرة رسالةً من نجم السلطنة، يمكننا من خلال قراءتها أن نحصل على صورة ملموسة إلى حد ما عن نساء العصر القاجاري، النساء اللواتي على الرغم من سلطتهنّ وقوتهنّ في إدارة العديد من الأمور، بقين في منازلهنّ ولم تُتَح لهنّ الفرصة للتعبير عن أنفسهنّ. بالإضافة إلى ذلك، في تلك الرسائل أخبار حول تفشّي المرض في طهران والوضع الصحي لنساء البلاط، وقضايا مختلفة أخرى.
والأهم في هذه الرسائل هو صورة المرأة التي تعرف التجارة جيداً، وتتكلم عنها باللغة المتواضعة نفسها التي جاءت في النصوص التي كتبتها نساء ذلك العصر. فمن خلال هذه الرسائل البسيطة، تتخذ السيدة قراراتٍ أو تعرب عن آراء حول قضايا لا حصر لها، مثل بيع وشراء الأراضي والممتلكات.
تقول بنت شقيقها عن نجم السلطنة البالغة من العمر 80 عاماً: "كانت امرأةً هرِمةً وصغيرة الجسم، ترتدي عباءةً سوداء. كان لها وجه أبيض وعينان كبيرتان منتفختان لونهما كستنائي فاتح، وبرغم كبر سنها كانت رشيقةً وتتمتع بعقل صافٍ، وتخاطب الآخرين بحدّة وقسوة إلى حد ما"
وهناك رسالة أخرى تشرح فيها لزوم الدعم المالي للحكومة آنذاك. نستعرض في ما يلي جزءاً من نص إحدى الرسائل تلك:
"عزيزي المدير!
منذ بعض الوقت، كتبت الصحفُ الوطنية وخطّ المتحدثون الوطنيون المتحمسون مقالات بشأن لزوم الاقتراض الخارجي، وقدّموا معلومات ودلائل في الجلسات والاجتماعات، وطلبوا المساعدة من الداخل لتلبية الاحتياجات العاجلة للحكومة [...] والحادثة يجب معالجتها قبل حدوثها. ففي الوقت الحاضر، من الضروري والواجب على كل فرد من أفراد البلد أن يساعد الحكومة على تلبية الاحتياجات الحالية والضرورية في هذه الفترة الصعبة، بحيث لا تضطر الحكومة إلى اقتراض أربعة أو خمسة ملايين من الخارج. فالقروض الخارجية السابقة، جلبت ما جلبت لإيران والإيرانيين، فلنكتفِ بهذا الحدّ".
الأميرة المحسنة
تأثرت الأميرة نجم السلطنة بوالدتها التي أسست مدرسة ومسجد "الأميرة"، وكذلك بشقيقها الذي أسس "معهد باستور" الطبّي في إيران، فبدأت في عام 1928، ببناء مستشفى "نجمية" بالقرب من منزلها في طهران، وقد أنفقت الكثير في هذا الوقف، الذي كان أول مستشفى حديث في إيران، كما خصصت ميزانيةً خاصةً لعلاج المرضى المحتاجين والفقراء.
كانت نجم السلطنة تُشرف بنفسها على شؤون المستشفى، وبعد وفاتها في عام 1935، أُسندت إدارة المستشفى إلى ابنيها محمد مصدق وأبو الحسن ديبا. مسؤولية هذه المرأة عن بناء هذا المستشفى وإدارته، وصلت إلى درجة أن يقال إنها برغم كبر سنّها كانت تذهب بنفسها إلى المبنى وتدفع أجور العمال بنفسها كلّ مساء.
تقول إحدى بنات فرمانْفَرما، عن عمّتها نجم السلطنة البالغة من العمر 80 عاماً: "كانت امرأةً هرِمةً وصغيرة الجسم، ترتدي عباءةً سوداء. كان لها وجه أبيض وعينان كبيرتان منتفختان لونهما كستنائي فاتح، وبرغم كبر سنها كانت رشيقةً وتتمتع بعقل صافٍ، وتخاطب الآخرين بحدّة وقسوة إلى حد ما، لكن معظم الأمراء -والأميرات- القدامى في تلك الفترة كانوا يتكلمون بالأسلوب نفسه. كانت حياتها بسيطةً ونظيفةً، وأنفقت ثروتها، بطاقة كبيرة وإيمان راسخ، لبناء أول مستشفى خاص وحديث في طهران".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه