مع انشغال العالم بثورة الإيرانيات ضدّ القيود على اللّباس والحياة، نستعيدُ حياة أميرة إيرانية ثائرة، هي الأميرة "تاج السّلطنة" ابنة السلطان ناصر الدين شاه القاجاري، التي وُلدت عام 1882 في طهران. اسمها الحقيقي هو "زهرة"، لكن أباها أطلق عليها لقب "تاج السلطنة"، ليتماشى مع الصّيت الملكي. كانت زهرة من أوائل النّساء اللواتي خرجن من عتمة الحريم، وساهمت في تشكيل القوة والعزيمة، التي تتمتع بهما المرأة الإيرانية منذ وقت مبكّر.
مع مذكرات تاج السّلطنة، نعرف أن نساء البلاط السّلطاني، كُنّ غير بعيدات عن الحركة العامّة للمجتمع. خاصة أن هناك عدداً من النساء اللّواتي برزنَ في الفعل العام في تلك الفترة وعُرفن بذلك، لكنهنّ جئن من داخل الشعب، لا من نخبته الحاكمة. منهن "حيات زينب باشا" التي تعتبر من أبرز المناضلات النّسائيات في إيران حيث لعبت دوراً مهمّاً في "ثورة التّبغ"، بقيادة الاحتجاجات في مدينة تبريز، بعد قرار ناصر الدين شاه منح امتيازات لشركة بريطانيّة، لاحتكار قطاع التّبغ في إيران، وإجبار التّجار على إعادة فتح متاجرهم بعد أن أغلقوها احتجاجاً على هذا القرار.
من الثورة الاجتماعية إلى الثورة الدستورية كان لتاج السلطنة موقف مساند للثورة الدّستورية، التي طالبت بدولة حديثة، بدستور ومؤسسات سياسية، بدل احتكار الشاه لكل السّلط. وفي هذه الثّورة لعبت النّساء دوراً كبيراً، منهنّ: بِيبي خانُم أستَرآبادي، محترم إسكَندري، صديقة دولت آبادي، وقمر الملوك وزيري، وغيرهنّ من النساء اللّواتي شاركن بأعدادٍ كبيرة في مجالات الشّؤون العامة، مثل الصّحافة والمدارس والجمعيات التي ازدهرت في بدايات القرن العشرين.
هي معلومات يعرفها الإيرانيون كما يعرفون تاريخهم كلّه. أما نحن الذين لم نلتق نساء إيرانيات كثيرات، فقد شاهدنا في أفلام أصغر فرهادي ومخرجين آخرين، قوةَ شكيمة المرأة الإيرانية. وقد أتت "مذكرات تاج السلطنة" التي ترجمتها الشاعرة والمترجمة الإيرانية مريم حيدري، وفازت عنها بجائزة ابن بطوطة لارتياد الآفاق في فرع الترجمة، لتملأ فراغاً كبيراً.
درست تاج السّلطنة في الكُتّاب، الذي تردّدت عليه منذ سن السابعة. وتعلمت من مصادر متعددة اللغاتِ والفنون والآداب، لتفوق النساء حولها ثقافة ووعياً، لدرجة أنّها شعرت بالغربة بينهن. فكانت تجيد الموسيقى والرّسم، وتتقن اللغة الفرنسية، وتلم بالتاريخ والفلسفة والأدب. وبرغم حبها لأبيها ودفاعها عنه بتعصّب، انتقدت الجوّ الذكوري السائد، وعدم التعقّل لدى الحاشية، ورجال البلاط في عهدي أبيها وأخيها معاً.
بعد وفاة والدها تولّى الحكم شقيقها السّلطان "مظفر الدين شاه"، الذي لم تتوانَ عن الاستهزاء به، ومقارنته بأبيها، الذي تقدّسه، وتلتمس الأعذار لجبروته، ولسلوكه التي تتذكره بين الحين والآخر مع الحاشية ومعها هي نفسها. ترى أخاها هذا غير جدير بالحكم الملكي، وحاشيته غير منتقاة، بل هي أقرب إلى العوام. ورغم أنّها كانت من أنصار الثورة الدستورية، فإن حكم أبيها ناصر الدين شاه في تصوّرها، كان نموذجاً لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم.
مع انشغال العالم بثورة الإيرانيات، نستعيدُ حياة أميرة إيرانية ثائرة، هي الأميرة "تاج السّلطنة، التي وُلدت عام 1882 في طهران. كانت من أوائل النّساء اللواتي خرجن من عتمة الحريم، وساهمت في تشكيل القوة والعزيمة، التي تتمتع بهما المرأة الإيرانية منذ وقت مبكّر
يشمل كتاب "ذكريات تاج السلطنة" سيرة حياتها منذ الطفولة، حتى انفصالها عن زوجها الذي اقترنت به في عمر العاشرة، وهو حسن خان ابن أحد القادة السّياسيين، وذلك على الرغم من حبها لشاب آخر من أقاربها، وهو "عزيز السلطان"، الذي تزوج مجبراً من أختها.
ويضم الكتاب الكثير من الحقائق عن البلاط القاجاري، والحريم الملكي، والسّنوات الخمس لحكم أبيها ناصر الدين، حتّى مقتله وحكم أخيها مظفر الدين، وما كان يحدث في إيران من تبدلّات في السّلطة والثّورة الدُّستورية. كما أنها تطرّقت في كتابها إلى حرية النّساء، مُطالبة بالعدالة لهن، ومنحهنّ حقوقهن في الحياة والتعليم والسفر.
الخروج من عباءة الحريم
تنبعُ أهمية الكتاب من شخصيّة الكاتبة؛ أوّلاً، لكونها امرأة مثقّفة في مجتمع ذكوري تقليدي، وثانياً، من خلال مستواها الاجتماعي وانتمائها إلى الأسرة الملكية، مما جلب لها الأمان والحماية لتعيش وتعبر بهامش أكبر مقارنة مع الآخرين. ومن جهة أخرى تمثّل هذه المذكرات ملتقى لصراع الحضارتين الشرقية والغربية في تلك الفترة، من خلال زاوية نظر أميرة إيرانية.
غربة تاج السلطة لم تتضاعف بسبب طغيان الرجال حولها فقط، بل ساهمت فيها علاقتها الاجتماعية غير الملائمة لامرأة مثلها: "إنّ النساء الايرانيات كلّهن، صغيرات وكبيرات من الأقارب أو الغرباء، كنّ عدوّاتي في موضوع جمال وجهي، وكانت هذه العداوة تشتدُّ عندما كنّ يرين الجمال ممزوجاً بحسن السجايا، واللطف والأخلاق".
لاشك في أن تاج السلطة كانت مؤمنة بهذا الرّأي، الذي ربما يُعبّر عن جزء من شخصيتها واعتزازها بنفسها الذي بلغ حدّ الغرور، لكن الصُّور تثبت أن جمال تاج السلطنة لم يكن بذلك الشكل الذي وصفَته، أو قد يعود ذلك إلى معايير الجمال التي كانت مختلفة في ذلك العهد عما هي عليه اليوم.
ولأن التطوّر يحتاج وقتاً ليصل إلى مرحلة النضج، والثقافة المجتمعية عملية تراكمية، نجد نقطة تناقض أخرى لدى تاج السّلطنة، هي أنها انتقدت ترك تربيتها لمربّية، وإبعادها عن أمّها، التي لم تعرفها جيداً، لكنّها واصلت هذا التقليد مع أبنائها. ثم خلعت الحِجاب، وعاشت وفق الرّوح الأوروبية التي اعتنقتها، خاصة ما يتعلّق منها بالمرأة، وعلاقتها بالرّجل والأبناء وحرية اللباس والتفكير. لكنها مع ذلك، كانت تؤمِن ببعض التصوّرات التقليدية، التي عبّرت عنها في مذكراتها، ففي نظرها: "الحارس والمحافظ على المرأة هو زوجها. وأنيسة الزّوج وصاحبته هي المرأة". هنا تحافظ على التقسيم الاجتماعي التقليدي ولو بحسن نية، بالرغم من أنها أضافت أنه "لا يمكن أبداً لهاتين الروحَين الساميتين أن تغفل إحداهما عن الأخرى، ولا أن ترى سوى شريكها. إنهما يتقاسمان الحب والحميميّة وبساطة الحياة معاً".
خلعت تاج السلطنة الحِجاب، وعاشت وفق الرّوح الأوروبية التي اعتنقتها، خاصة ما يتعلّق منها بالمرأة، وعلاقتها بالرّجل والأبناء وحرية اللباس والتفكير. لكنها مع ذلك، كانت تؤمِن ببعض التصوّرات التقليدية، ففي نظرها: "الحارس والمحافظ على المرأة هو زوجها"
هذا ما يحدث حين يخذل الوسط الاجتماعي المرأة، ويتركها في حيرة من أمرها، مع غياب وسائل تطوير الثقافة وإنضاجها. والحصار المفروض عليها لمنعها من الوصول إلى اليقين. لهذا انتقلت حيرة تاج السّلطنة من غربتها في مجتمعها، إلى شكّ تام في معتقداتها، وهو شك عذبّها ولم يُرح نفسها. وتفسر ذلك بأنّ "الإنسان الكامل ينتفع من العلم، إلّا أنني تضرّرت منه. لأنّ الفهم الأساسي للعالم والكرة الأرضية والحياة والخليقة، أدّى بي إلى عدم إيماني بعقيدة واحدة، وعدم وجود سند لي أو وجود خشية من أيّ أحد".
غياب السّند هو أزمة المرأة في كلّ المجتمعات التقليدية. وليس السند شخصاً بعينه، بل مؤسسات ومجتمعا وقوانين وتعليما عاليا... وكلّ ما يحمي المرأة، ويسمح لها بالإزهار، والصعود في درجات الحياة بوعي مكتمل.
نهاية رحلة مرتبكة
قضت تاج السلطنة جلّ وقتها وحيدة، مع ابتعاد زوجها وغيابه عن البيت، قبل أن تتطلّق مع ثلاثة أبناء. لم نعرف ما الذي حدث مع تاج السلطنة، بعد طلاقها، وكيف تصرفت في شكّها فيما ورثته من معتقدات، لأنّ المذكرات توقفت عندها. لكن بعد أن قدمت لنا لمحة عن حياة المجتمع المخملي في إيران، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
والباحث عنها خارج مذكراتها سيعرف أن محاولاتها للسفر إلى أوروبا مُنيت بالفشل، رغم أنها باعت مجوهراتها من أجل تلك الرّحلة المشتهاة. لكن بعد مدة طويلة، نجحت وعاشت لسنوات في أوروبا قبل أن تعود إلى بلادها. وقد تزوجت ثانية خلال تلك الفترة، لكن زواجها لم يدم أيضاً. وتوفيت في طهران عام 1937، عن عمر خمسة وتسعين عاماً سعت خلاله نحو الحياة التي تليق بالمرأة.
في آخر صفحة من كتاب ذكريات تاج السلطة، نعرف أنّ بقية الفصول لم ترد في الكتاب، لأنّه ينتهي فجأة. وهي رقابة أخرى مورست ضدّها، في أن تحكي كامل قصتها، وتروي ما فعلته السّلطة السياسية والدينية بها وبالنّساء حولها. وهي رقابة ما زالت قائمة الآن، وربما زادت
أخرج أسلوب كتابة تاج السلطنة، الكتابَ من الكتابة الذاتية التقريرية، وقرّبه من الرواية التاريخية. يدلُّ على ذلك، محاولتها ابتكار الصّور، ووصف المَشاهد كتمهيد لشرح الأحداث، وسبر الحالات النّفسية، وأيضاً وصفها لوجوه شخوصها وسلوكهم. وللإشارة فهي لم تكن الوحيدة من العائلة القاجارية التي أقدمت على الكتابة؛ فوالدها ناصر الدين شاه كتب يوميات رحلته إلى أوروبا، التي دامت خمسة أشهر، ورحلاته الأخرى، وشقيقها مظفر شاه سار على درب أبيه، وكتب عن رحلته الأوروبية أيضاً.
في آخر صفحة من "ذكريات تاج السلطة"، نعرف أنّ بقية الفصول لم ترد في الكتاب، لأنّه ينتهي فجأة. وهي رقابة أخرى مورست ضدّها، في أن تحكي كامل قصتها، وتروي ما فعلته السّلطة السياسية والدينية بها وبالنّساء حولها. وهي رقابة ما زالت قائمة الآن، وربما زادت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه