ما إن نسجت أصابع الكاتب المصري نبيل فاروق، شخصية "رجل المستحيل" حتى فتح لنا أبواب الخيال على مصراعيها لاعتبار "أدهم صبري" ملكية عامة للخيال، عكس ما قام به آرثر كونان دويل، الذي حبس شارلوك هولمز داخل عالمه المؤمّن بحقوق الملكية.
كانت بداياتي مع أدهم صبري في أواخر التسعينيات، لذلك وبعد أن قام "رجل المستحيل" بالاستحواذ الكلّي على خيالي، وككثيرين مثلي، حاولت أن أجد بطلاً يصلح لتجسيد دوره على الشاشة، بل وكنت أتخيّل القصة وكأنها فيلم كامل يدور في رأسي، لا ينقصه سوى وجه أدهم الذي كان مشوّشاً بعض الشيء، لأني لم أجد حينها بطلاً يستطيع أن يجسّد تلك الشخصية الخارقة.
ربما لو كنت قد قابلت أدهم في حقبة الزمن الجميل، لوجدت وفرة في الخيارات، فأبطال تلك الحقبة كانوا يمتلكون تلك المقومات التي أصبحت في زمننا الحاضر صفات نادرة، فإذا ما تحدثنا عن أبطال حقبة تلامس الملكية بالجمهورية، سنجد مثلاً أحمد رمزي، رشدي أباظة، عمر الشريف، صلاح ذو الفقار، شكري سرحان، وبالتأكيد أحمد مظهر، أما في الحقبة الموازية للقائي بـ "رجل المستحيل"، لم يكن هناك جان بريمير بمفهومه الذي أعرفه، وقد ظهر في السنوات اللاحقة بطل أو اثنان، سأتحدث عنهم خلال لقاءاتي مع دكتور نبيل فاروق، وإن كانت صداقتي به جعلت مهمة البحث عن أدهم صبري أصعب وأصعب.
قام "رجل المستحيل" بالاستحواذ الكلّي على خيالي، وككثيرين مثلي، حاولت أن أجد بطلاً يصلح لتجسيد دوره على الشاشة، بل وكنت أتخيّل القصة وكأنها فيلم كامل يدور في رأسي، لا ينقصه سوى وجه أدهم الذي كان مشوّشاً بعض الشيء
الهوس بأدهم صبري
بعدما فشلت محاولاتي في تخيّل وجه أدهم وأصبحت أراه كالأنبياء في المسلسلات، جسد دون ملامح وجه واضحة، اتجه عقلي إلى صورة جعلت تلك الصورة المشوشة تتوضح شيئاً فشيئاً. كنت قد تعمّقت كثيراً في عالم نبيل فاروق الشخصي دون أن أراه. علمت في ذلك الوقت أنه كان ضابطاً، بخلاف شهادة الطب التي حصل عليها، كما أنني لاحظت هالة الغموض التي كان يحيط بها حياته، فهو شخص لا يظهر كثيراً، لا يهوى الإعلام بشكل ملحوظ، هذا بجانب ملامحه الذكورية المحاطة بهالة الوقار وبنيانه القوي، ما جعلني كلما عدت لقراءة سلسلة "رجل المستحيل" أو أتذكر أدهم، أضع صورة نبيل فاروق على وجه البطل الخارق.
استمر الحال هكذا لمدة تقترب من خمسة عشر عاماً، وحتى لقائي الأول معه والذي فتح لي عالماً آخر وغيّر ملامح شخصيتي جذرياً، بعدما صرنا أصدقاء نتسامر ونتحدث ونختلف قليلاً، نحتسي القهوة التي يصنعها لي واقترب من مكتبته المقدسة دون خوف.
لقائي مع "رجل المستحيل"
ما زلت أتذكر اللقاء الأول وكأنني عدت منه منذ قليل، كنت في ذلك الوقت بارعة في محاورة الشخصيات العامة بمصر، ولدي مساحة ثابتة غير صغيرة بأشهر مجلة مصرية في تلك الفترة، وكان رئيس التحرير يصفني بـ "جوكر" المجلة. كنت على دراية أكثر من كافية بتفاصيل الوسط الفني والرياضي والسياسي والثقافي، لذلك كانت اللقاءات التي أجريها متنوعة لدرجة محيرة، فاليوم مرشح لرئاسة الجمهورية وغداً رمز كروي شهير ومن بعده فنانة أو عالم أو عضو برلماني، لذلك توقع الجميع أن لقائي مع نبيل فاروق سيكون مجرّد حلقة في السلسلة، ولم يتوقع حتى أقرب المقربين أنني سأشعر بالتوتر يمزج أحشائي طوال الليل، وكأنني لم أحاور شخصاً من قبل.
المشهد الأول ليوم اللقاء كان في مدينة الرحاب. وقفت أمام البناية التي تقع فيها صومعة "رجل المستحيل"، أنتظر المصوّر بينما يمرّ الوقت ببطء مقارنة بأنفاسي ودقات قلبي. ها أنا أمام الرجل الذي شكّل جزءاً من الطفولة والمراهقة، ومازال يكمل معي مسيرتي لأن لولاه ما امتلكت هذا القدر من الجرأة والثقة والشغف بعملي.
المصور مازال أمامه وقت ليصل والموعد قد حان، لن أجد من يشتت ذهن دكتور نبيل عني إذن وأنا أحاول جمع شتات نفسي من تداعيات رؤيته للمرة الأولى. إذن فهي الحرب. نفس عميق... أنا وفاء فاروق... اطرقي الباب أيتها الحمقاء وفكّري بكل تلك الأمور في الداخل.
الباب ينفتح. لم يكن خادماً أو سكرتيرة أو حتى فرداً من العائلة هو من فتح لي الباب بل كان هو، هو شخصياً. ماذا أقول؟ تبادلنا نظرات لمدة ثلاث ثوان ثم: "هل تعلم دكتور نبيل أنك سبب فشلي في الحصول على درجات أعلى في الثانوية العامة؟"، يردّ قائلاً دون تردّد: "لو كان ما تقوليه يدعى فشل ما كنت واقفه امامي الآن. تفضلي".
لن أسرد عليكم تفاصيل اللقاء أكثر، يكفى أن أقول إن الموعد المحدّد كان الساعة الثانية ظهراً ولمدة نصف ساعة، وقد سمح لي دكتور نبيل بالرحيل عند التاسعة والنصف مساء، مع ترتيب للقاء قريب في الأسبوع القادم، ليس بصفتي المهنية، ولكن بصفتي صديقته التي وجدها.
رجل المستحيل
سألته ببساطة: "دكتور، ألن يتحوّل أدهم لعمل فني؟"، أجاب بنفس البساطة: "أنا أنتظر هذا الحدث ولكن أود أن ينفّذ بشكل يناسب أدهم، وإلا كان من الممكن أن يتم تنفيذ العمل منذ سنوات عديدة، فأنا أحصل على عروض مستمرّة لتحويل السلسلة إلى عمل فني، لكنني أنتظر أن يكون العرض لائقاً بأدهم صبري".
ــ "هل لديك بطل ما تراه يصلح؟
ــ "أحمد عز هو أقرب انعكاس حالي، وإن كانت مسألة العمر قد تتسبّب في أزمة، ولكن في الوقت الراهن لا أرى سوى عز".
سألته و أنا متردّدة بعض الشيء: "ماذا عن خالد النبوي؟". رد بلطف: "هل تخيلتيه؟".
ــ "أراه يشبه الغلاف بعض الشيء".
أجاب: "خالد يصلح أيضاً فهو كان الخيار الثاني بعد عز، لكنني لم أفصح عنه وهذا ما جعلني أبتسم لأنك تفكرين بالشيء ذاته".
رددت في خبث الطالبة الذكية: "بما أنني كشفت عن خيار ثان فهل هناك خيار ثالث؟"،
رد قائلاً: "في الوقت الراهن صعب أن أجد خياراً ثالثاً، كما تعلمين أدهم لديه تفاصيل معقدة ولن يكون الاختيار على أساس الملامح فقط، فنحن أمام رجل المستحيل واختيار تجسيده لن يكون بعيداً عن لقبه".
اصطحبت الألفية الثالثة نوعاً جديداً من السينما، ورغم أن الأغلبية تعتبرها ثورة على ما سمي بأفلام المقاولات وأفلام البطل الواحد، إلا أنه، من وجهة نظري، كان من أخطر عيوب تلك الثورة تغيّر ملامح البطل
فتى الشاشة الأول
اصطحبت الألفية الثالثة نوعاً جديداً من السينما، وهي سينما الشباب والأعمال الجماعية، ورغم أن الأغلبية تعتبرها ثورة على ما سمي بأفلام المقاولات وأفلام البطل الواحد، إلا أنه، من وجهة نظري، كان من أخطر عيوب تلك الثورة تغيّر ملامح البطل، فأصبحت القوى الجسدية والصوت المرتفع مقياساً يتفوّق على مقياس الشخصية الجذابة والبطل الذي يشبه في ظهوره النجوم الخاطفة للأنظار.
لا أتحدث عن الوسامة بالمعنى التقليدي، أي الملامح المنمّقة والبشرة البيضاء، فالسينما المصرية، باعتبارها هوليوود الشرق، حطمت تلك النظرية منذ زمن بعيد، وإلا لما حصد عماد حمدي أو يحيى شاهين وأحمد مظهر، أو حتى أنور وجدي، اللقب من قبل، لكن حتى هذه المواصفات أو "الاكس فاكتور" لم تعد تستخدم لاختيار البطل، وبالتالي عندما يقف واحد من الجمهور الآن ليختار بطلاً يصلح لأداء دور ما بعمر الثلاثين، سيصدم أن الخيارات المتاحة غير مثالية، فلا توجد خيارات على الساحة لم تتجاوز أعمارها منتصف الأربعينيات.
فتى أحلام فتيات الجيل الحالي أصبح، في الشكل والمضمون، مختلفاً كلياً عن مفهوم فتى الأحلام المتعارف عليه على مرّ التاريخ، وبين هذا وذاك، وخاصة بعد وفاة الدكتور نبيل فاروق، تحققت نبوءته بأن العثور على "رجل المستحيل" أصبح بمثابة الجزء الثاني من لقبه، وهذا ما يفسّر تراجع العديد من شركات الإنتاج الكبرى عن مشروع فني يجسّد شخصية نافست شارلوك هولمز في قلوب قراء الوطن العربي، بل إن هناك فئة لم تعرف عن هولمز سوى الأفلام، ولا ترى لها بطلاً خارقاً يداعب خيالهم القارئ سوى أدهم صبري، وسواء كان أدهم صبري بطلك الوحيد أم واحداً من ضمن قائمة أبطالك الخارقين، فرؤيته فقط في الخيال هو أفضل كثيراً من رؤيته بصورة غير متناسبة مع التوقعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.