صار بعيداً، ذلك اليوم من شتاء عام 2014، حين سئمت القاعات المغلقة والشاشات الممتلئة بالبيانات، وأحاديث الزملاء عن آخر سبق صحفي، فخرجت لتنتعش رئتي بهواء عمّان البارد في منتصف الليل، وفي التاكسي المنطلق بي إلى شارع "الرينبو"، حيث يمكنني رؤية فلسطين على الجانب الآخر، وبمجرد بدء حديثي، أدرك السائق أني مصري، فأشاد ببلدي التي تزوّج منها مصرية، كانت سنداً قوياً له، وبفضل إدارتها لأمواله تمكّن من شراء هذا التاكسي.
ولأنها كانت المرة الأولى التي أغادر فيها مصر، صارت تلك المحادثة أول احتكاك عرفت من خلاله كيف يرى الغرباء بلدي، وفي الوقت الذي انتظرت أن يحدثني أحد عن التاريخ والفراعنة أو العروبة، تلخّصت القصة في "أصالة النساء المصريات".
هذا المشهد تكرّر أول أيامي ببيروت، حين التقيت شباب لبنانيين في أحد البارات، وبعد أن عرفوا أني مصري، أول ما ذكروه أمامي كان عادل إمام، ثم عدّدوا إفيهات شهيرة له من أفلامه. صراحة لم أغضب، فبالنسبة لمصريين كُثر، لبنان ليست أكثر من السيدة فيروز، وبالنسبة لي، بيروت هي "الهورس شو"، حيث كان يجلس محمود درويش ويدخّن غسان كنفاني ويسبّ محمد الماغوط كل الخونة، ثم ليس مطلوباً من كل الناس أن تعرف كل شئ، يكفي أنهم في النهاية يعبّرون عن حبهم لبلدي بطرق مختلفة.
في مدن مثل سيجيريا وإيلا بسريلانكا، لا يعرف معظم السكان مصر أصلاً، لا أين تقع أو إلى أي قارة تنتمي وأي عملة متداولة فيها، بل وفي المدينة التي يقع فيها "بيت المنفى" للزعيم أحمد عرابي، لا يعرف كثيرون البيت ولا قصته
كل ذلك تغيّر مؤخراً حين سافرت إلى سريلانكا، وهي أول دولة غير عربية أزورها، وبعد قضاء بضعة أيام فيها، تحوّل سؤالي من كيف يرى الغرباء بلدي، إلى هل يعرف الغرباء بلدي أصلاً؟ بكل ما تحمله الصيغة الأخيرة من السؤال صدمة لي، وقد بدأ هذا التحوّل من مطار "حمد" الدولي، ورغم أنه ينتمي إلى دولة عربية وهي قطر، لكن معظم العمّال فيه ينتمون إلى دول آسيوية كما بدت ملامحهم. ولأن 4 ساعات ترانزيت لا تخلو من أحاديث، تعرّضت للسؤال الرئيسي لأي مسافر: "من أين أنت؟"، وحين أجيب: "مصر"، يأتيني رد الفعل دائماً: "الأهرامات"، وكنت أظنّ أنهم يجيبون بأشهر المعالم لكنهم بالتأكيد يعرفون الكثير عن بلدي.
لكن ما اتضح لي لاحقاً، أن إجابة هؤلاء كانت تدلّ على ثقافة اكتسبوها بالتأكيد من عملهم في مطار دولة عربية، ففي مدن مثل سيجيريا وإيلا بسريلانكا، لا يعرف معظم السكان مصر أصلاً، لا أين تقع أو إلى أي قارة تنتمي وأي عملة متداولة فيها، بل وفي مدينة كاندي، التي يقع فيها "بيت المنفى" للزعيم أحمد عرابي، والذي تحوّل الآن إلى مركز ثقافي يتبع السفارة المصرية، لا يعرف كثيرون البيت ولا قصته، ومن يعرف يظنّ أنه يتبع مصر المشهورة بـ"الأهرامات" فقط، وهكذا باقي المدن التي زرتها، بل وعند جنسيات أخرى التقيتهم مثل الفلبين وجزر المالديف، لم تختلف الصورة كثيراً.
طبعاً كمواطن مصري تربى أن بلده هي "أم الدنيا"، وأن تاريخه هو الأقدم على هذا الكوكب، أردت الصِراخ فيهم جميعاً: كيف لا تعرفون الفراعنة، معابد الكرنك، مساجد القاهرة، مسار العائلة المقدسة، أم كلثوم، عادل إمام، جمال عبد الناصر، نجيب محفوظ، أحمد زويل؟
هل مصر فعلاً أم الدنيا؟ هل نحن "رمانة ميزان العالم" كما يردّد قادتنا، وهل العالم سينهار إن سقطت القاهرة، ويختفي الإسلام إن هُدم الأزهر كما يؤكد شيوخنا؟
قائمة طويلة أردت التفوّه بها، لكني تراجعت. قلت لنفسي لو عرفوا لقالوا، ماذا بيني وبينهم ليتعمّدوا عدم الإجابة؟ لكن جهلهم ببلدي جعلني أعيد النظر: هل مصر فعلاً أم الدنيا؟ هل نحن "رمانة ميزان العالم" كما يردّد قادتنا، وهل العالم سينهار إن سقطت القاهرة، ويختفي الإسلام إن هُدم الأزهر كما يؤكد شيوخنا؟
الحقيقة لا، هذا ما توصّلت إليه، فصحيح أن لنا علاقات دبلوماسية مع معظم دول العالم، وبالتالي على المستوى السياسي نحن معروفون للجميع، والجميع معروف لنا بالمناسبة، وصحيح أيضاً أننا مؤثرون في محيطنا الإقليمي، لكن هذا كل شيء، وما دونه ليس أكثر من شوفينية تُشبه تماماً جملة "أجمل بلد بلدي"، والتي يثبت كذبها لي كل يوم، فليس هناك بلد هي الأجمل على الإطلاق، لأن لكل بلد طبيعته وجماله، ناهيك أن الجمال أصلاً نسبي.
تلك الشوفينية التي نتربّى عليها، سواء من وازع الوطنية اللازمة للانتماء، أو حتى دينياً من أجل تقوية إيماننا، ندفع ثمنها غالياً بعد ذلك، حين تتسع مداركنا ونرى ونعرف أن العالم أكبر من تخيّلنا، وإننا لسنا سوى رقم في معادلة كبيرة، والدليل ما عشته هنا، فعدم معرفتهم ببلدي جعلني أتساءل: ماذا لو اختفينا من على الخريطة غداً؟ ما وقع الخبر على هؤلاء الناس؟ ووجدت أن بعضهم سيفتقد الأهرامات، وربما يحزن لأنه كان ينتوي زيارتها، والبعض الآخر لن يعرف الخبر أصلاً، بل حتى الأردني ربما قد لا يفتقد سوى الزوجات المصريات، كما سيفتقد اللبناني عادل إمام وفنّه، وهذا كل شيء.
لذلك وبعد أيام لم أستطع فيها إجابة السائلين عن أين تقع مصر، لم أجد غضاضة في إجابتهم بأنها تقع بجوار السعودية والإمارات وقطر. صحيح أن مصر أقدم بآلاف السنين، لكن الحقيقة أنهم يعرفون دول الخليج لأنهم يسافرون هناك من أجل العمل، ولذلك كانت إجابتي موفقة بالنسبة إليهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...