سنكون، بحسب تفاسير الآيات المتعلقة بـ"حوريات الجنّة أو نساء الجنّة" و"الحور المقصورات في الخيام"، لأهل التراث وما رسَخَ في المخيلة لعموم المؤمنين، أمام مشهد هو على الشكل التالي: ملايين من الخيم المرصوفة تبيت فيها نساء تم وصفهنّ في القرآن "باللؤلؤ المكنون"، و"هم من النعيم الذي أعدّه الله تعالى لعباده المؤمنين"، بحسب ما ورد في الحديث الصحيح. ولا نعرف ما إذا كان المؤمن المُتنعم معنياً بهذا العدّ، فلكل مخيلته عن الموضوع.
والعدد المليوني للخِيم بمن فيها من حوريات، يأتي من حساب رياضي بسيط، إذ وُعد قتيل الجهاد في الحياة العليا باثنتين وسبعين منهنّ، مع من تزوج في الحياة الدنيا. فيما وُعد المؤمن غير قتيل الجهاد، باثنتين فقط مع من تزوّج، أي أن قتيل الجهاد يتنعم بسبعين زيادةً، والكثرة العائدة لقتلى الجهاد مربوطة كما هو معروف، ومُقررة سلفاً، بالتشجيع على الجهاد العسكري الصرف، ذلك التشجيع الذي مارسته كل الإمبراطوريات الغازية كلاً على طريقتها، وانسحب في القرن الماضي على أحزاب أيديولوجية عدة، وإن كانت "حوريات" تلك الأحزاب أرضيةً، وتُدفع نقداً وليس وعداً أخروياً.
سنحسِب أيضاً عدد الخيم التي تسع اثنتين وسبعين حوريةً لنخلص إلى ما يضاهي اثنتين وسبعين غرفةً ممدودةً أفقياً، بإمرة قتيل جهاد واحد يمارس الجنس مع حورياته بلا توقف، وعلى زمن الخلود الذي ذُكر تكراراً وَعداً له. ففي حساب أهل السلفية أن مدة المجامعة الواحدة أو "الشغل" على ما ذهب حياءً أحد شيوخ السلفية، يستمر ثمانين سنةً والسنة من سنين الجنة تعادل "يوماً من أيام الله"، وهذا اليوم الواحد بألف سنة. فيما سيُعطى الرجل من أهل الجنّة "قوة مئة رجل"، "كي يُطيقَ" بحسب حديث صحيح.
هذا المشهد السريالي الصاعق بكل أبعاده المادية والزمنية والشعورية، سيجعل من الجنة مكاناً للملذات الحسية لا غير، إذ لا نجد في القرآن وتفاسير الآيات والحديث طقوساً أو أفعالاً مرافقةً، أو زمن وقوفٍ بين المجامعة والأخرى
هذا المشهد السريالي الصاعق بكل أبعاده المادية والزمنية والشعورية، سيجعل من الجنة مكاناً للملذات الحسية لا غير، إذ لا نجد في القرآن وتفاسير الآيات والحديث طقوساً أو أفعالاً مرافقةً، أو زمن وقوفٍ بين المجامعة والأخرى كأن يقرأ المتنعّمُ كتاباً أو يشاهد عرضاً ما، حين تورد المخيلة المفسّرة حال بقية الحوريات المنتظرات دورهنّ يرجون المتنعّم نصيباً لهنّ منه. غير أن كتّاب الحديث -إذ إن القرآن لم يأتِ على ذكر تلك القوة الجنسية للمؤمنين في الجنة- غفلوا عن ذكر القدرة عند الطرف الآخر، أي المرأة، على تحمّل كل تلك القوة المئوية والزمن الشاسع التي تعمل خلاله. هكذا أيضاً غفلوا حين نسبوا إلى الرسول قوة أربعين رجلاً في الجماع وطوفه على زوجاته في ليلة واحدة. وما أسطرة تلك القوة الجنسية سوى رد على أسطرة أخرى وردت قبلاً، ومنها قدرة الملك سليمان الذي تزوّج حسب الرواية 600 امرأة إلى جانب 300 سرّية.
الزوجة والحورية
قال السعدي: "أي ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحلٌ وملاحة، وحسن وبهاء، والعِين: حسان الأعين وضخامها، وحسن العين في الأنثى من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها. 'كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ' أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، والذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسرّ الخاطر ويروق الناظر".
تتفوّق الحورية في النص القرآني وفي الأحاديث على الزوجة بما لا يقاس، بل تشكل ما يشبه الأنثى الأعلى مقابل الأنثى الدنيا، أي الزوجة وفقاً للأوصاف التي رُسمت عليها ولم توصف بها نساء أهل الأرض. فهي، أي الحورية، كالياقوت والمرجان، "بصفاء المرجان وبياض اللؤلؤ" عن ابن زيد عن الطبري. وهنّ بحسب النص القرآني: عُرُباً أَتْرَاباً، وعُرُب أي عواشق لأزواجهنّ وأزواجهنّ لهنّ عاشقون، بحسب سعد بن جبير عن ابن عباس، وقوله أتراباً أي في سن متطابقة وهي ثلاث وثلاثون سنةً.
وفسر السدّي "أتراباً" أي في الأخلاق المتواخيات بينهن ليس بينهن تباغض ولا حاسد، يعني: "لا كما كنّ ضرائر متعاديات". وفي كلا التفسيرين من صفات ما لم ولن توصف بها امرأة من أهل الدنيا ومن الواضح ذمُّ الضرائر وتعميم الصفة والذمّ على الزوجات في الحياة الدنيا.
"فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ"، وبحسب ابن القيم: خيّرات حسان، جمعت واحدتهن المحاسن ظاهراً وباطناً، فكمل خلقها وخلقها فهن خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه.
"وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (سورة البقرة الآية 25). وبحسب ابن القيّم: "طُهّرن من الحيض والبول والنجو (الغائط)، وكل أذى يكون في نساء الدنيا، وطُهّرت بواطنهنّ من الغيرة وأذى الأزواج وتجنّيهنّ عليهم وإرادة غيرهم". فتأتي هذه الآية لتحسم بشكل حاسم تفوّق الحورية على الزوجة علواً مقابل انحطاط، وطهارةً مقابل نجاسةٍ، وصفاءً مقابل خبثٍ وباطنيةٍ وغيرةٍ وأذى. والحال "إن كيدهنّ عظيم" لا تقربُ من زوجات أهل الجنّة وتبقى محصورةً في زوجات أهل الأرض، فتبدو بذلك الزوجة الأرضية نقيضاً منحطاً للزوجة السماوية (الحورية) العلوية حدّ السوريالية.
قراءة كريستوف لوكسينبرغ
كريستوف لوكسينبرغ، اسم مستعار لعالم وفقيه لغوي ألماني من أصل لبناني (سرياني)، يتكلم العربية ويجيدها فقهاً بامتيازٍ أكاديميٍّ، نشر كتاباً مُهماً أثار جدلاً، بعنوان " قراءة آرامية-سريانية للقرآن"، موقّعاً إياه بذلك الاسم المستعار. وعلى ما ورد في غير موقع، فإن الكاتب اختار اسمه المستعار "مخافة أن يُستهدف بأعمال انتقامية بتهمة معاداة الإسلام".
يشرح لوكسينبرغ، مجمل القرآن بناءً على القراءة السريانية لكلمات "لم يفهمها" مفسرو القرآن التراثيون وأغلبهم، من الأوائل، أصولهم من آسيا الوسطى، وشرحه يبرز المقصد ويعدل السياق اللذين اختلف حولهما المفسرون كثيراً ففارقوا أصل المعنى. ولإيراد المقصود هنا، قبل الذهاب مع لوكسينبرغ إلى موضوع "حور العين"، هذا مثلٌ عن شرحه لسورة "الكوثر"، وهي أقصر سور القرآن. "إنّا أعطيناكَ الكوثرْ، فصلِّ لربّكَ وانحرْ، إن شانِئكَ هو الأبترْ". فالكوثر، كلمةٌ تفرّقَ معناها بين "نهر في الجنة" وهو المعنى الأشهر "نهر أعطاه الله للرسول خلال المعراج إلى السماء"، أو"الكثير" و"الخير الكثير" و"الكثرة" (بمعنى الفضل)، "والكثرة من الأتباع" و"القرآن"، "ونور في قلب النبي"، و"الذرية". لكن أصل الكلمة السريانية هو "الكوتّر" بالتاء المشددة والواو لا تلفظ، وتعني الديمومة أي ما يفيد الدأب والصبر.
هكذا في الحال يستقيم المعنى: إنا أعطيناك (الديمومة) فصلِّ... ويدعم لوكسنبرغ ذلك المعنى من القرآن نفسه على قاعدة "أفلا يتدبّرون القرآن"، حيث شرح القرآن بالقرآن نفسه، بآية "وهم على صلاتهم دائمون". وهكذا مع كلمة "وانحر" وقد فسرت تراثياً "بتقديم أضحية"، بنحر شاة أو جمل، وبحسب لوكسينبرغ، تعني، تكملةً لمعنى "الديمومة": "واظب"، وأصلها السرياني "وانجر" بالجيم بدل الحاء، وقد استعيرت إلى نَجر وفاعله نجّارٌ بالعربية، وهو الذي يواظب على النشر حتى قطع الجذع والأخشاب.
أما "شانئك" وفي التفسير التراثي عنت "شانيك" بلا الهمزة، أي "المبغض"، وسمّى التفسير الشيعي شخصاً بعينه، هو عمرو بن العاص، مبغضاً للرسول. ويتوافق تفسير لوكسينبرغ مع معنى "مبغض" لكن أصلها السرياني "سانيك"، وتعني أيضاً المتخلّي عنك. و"الأبتر" صفة للشانئ، وفي التفسير التراثي "مقطوع النسل"، أما في الأصل السرياني، فمقلوبة: "بْتار" وتعني "كُسر وغُلب". هكذا، سنجد أن السياق اعتدل وأصبح مفهوماً وبسيطاً: إنّا أعطيناك الديمومة (الجلد) على الصلاة، فصلِّ لربك وواظب، إن مبغضك (وغايته عرقلة صلاتك) مغلوب. فإن أضفنا المعنى الأصلي لكلمة شيطان، وهي "ساطان" في العبرية، وتعني "المُعرقل"، فإن المغلوب هنا هو أي شخص يعرقل عمل المؤمن حصراً. فالميزة الأساسية للمؤمن هي المواظبة والجلد والديمومة على الصلاة وأصلها السرياني "صلوة" وتعني الصلة مع الله، التي تشكل درعاً للمؤمن ضد وسوسة الشيطان (المعرقل).
تتفوّق الحورية في النص القرآني وفي الأحاديث على الزوجة بما لا يقاس، بل تشكل ما يشبه الأنثى الأعلى مقابل الأنثى الدنيا. فتبدو بذلك الزوجة الأرضية نقيضاً منحطاً للزوجة السماوية (الحورية) العلوية. كيف؟
حور العين بين السوريالية والسريانية
يعتمد لوكسينبرغ، مفهوم "الكتاب" الوارد في القرآن، ويُسند تفسيرَه به. فالكتاب غير القرآن، وهذا ما أشار إليه أيضاً المفكر الإسلامي المعاصر محمد شحرور. فالكتاب هو كل ما أُنزل من كتب على الرسل، وهو "العهد القديم والجديد". وورد لكل رسول "وآتيناه الكتاب"، "وكُتب عليكم كما كُتب على الذين من قبلكم تأتي ضمن هذا السياق.
ويرى لوكسينبرغ أن آية "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، تعني "أن ما ورد من قبل (في التوراة والإنجيل) لا يختلف عن القرآن". ولعلّ "كثيراً" هنا تعني الجوهر والأسس، أي لا خلاف في الجوهر والأسس، وإن دلّت على اختلاف جزئي ربما في الشكل على الغالب. وعليه فإن ورود "الحور العين" في القرآن بمعنى حوريات الجنّة أو نسائها الكواعب الأتراب، بخلاف الكتب السابقة، أي التوراة والإنجيل، يجعل منه "اختلافاً كثيراً" أي جوهرياً. إذ لماذا لم يَعِدِ الله أهل الكتاب أيضاً وهو ربهم وربّ قتلى جهادهم، بحوريات؟ كذلك لم يخصّ نبياً واحداً من أنبيائه بمن فيهم رسول القرآن بحوريات، وهم الأولى بالمتع طالما أنهم أسياد الجنة أيضاً. ولم تذكر كتب التراث ولا كتب التفسير أن الرسول رأى حوريات في معراجه إلى السماء، فيما قابل في "كل سماء"، وهن سبع سماوات، نبياً. وتُذكر مرور الكرام رؤيته للجنة فيما هناك وصفٌ لجهنم وأهلها بالتفاصيل.
"للحور العين" كما وُصفن في كتب التراث والتفسير، حضور طاغٍ في مخيلة المؤمنين وعامّتهم. وقد فاضت تلك الكتب في وصفهن حدّ السريالية. فعنْ عليٍّ، قال رسول الله: "إِن في الجنَّةِ لَمُجتَمعاً للْحُورِ الْعِينِ يُرَفِّعْنَ بِأَصواتٍ لم يسمعْ الخلائِقُ مثْلَها قال يَقُلْنَ نَحْن الْخالدات فلا نَبِيدُ ونحنُ النَّاعماتُ فلا نَبْؤُسُ وَنَحن الرَّاضياتُ فلا نَسْخَطُ طُوبى لِمَنْ كَانَ لَنَا وكنَّا لَه".
وقال ابن حجر: "الحورُ التي يَحارُ فيها الطّرف يبان مخّ سُوقهن (عظم الساق) من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون". هذه الصور تحتاج في يومنا هذا إلى آلة سينمائية هوليوودية ضخمة كي تتجسد. لكن حدود "السريالية" تلك تتراجع عند "السريانية" حين يكشف لوكسنبرغ لغوياً أن "حور العين" تعني "العنب الأبيض" بهذه البساطة، فلا علاقة للعبارة بلحم ودم وأثداء وكواعب وسيقان يُرى من شفافتِها العظم. لكن الصورة المبتكرة تلك كانت تعمل على آلةِ الحرب والجهاد ووُصلتْ بها بعمق لا يحيد عنها.
وعلى القاعدة نفسها بنفي الخلاف الكثير، أي الجوهري بين الكتب السماوية، يؤكد لوكسينبرغ أن "الزواج في الجنة" إن لم يرد فيها -أي في تلك الكتب- فلن يرد في القرآن. هكذا حين يقف عند الآية: "متكئين على سُررٍ مصفوفةٍ وزوّجناهم بحور عين"، فإن "زوّجناهم" تعني في الأصل قبل التنقيط "وروحناهم" من راحة، كما أن القرآن يستخدم الماضي بمعنى المستقبل أي سنريحهم. كذلك فإن الزواج لا تليه الـ"باء" بأي حال من الأحوال. فيقال: زوجناك فلانةً ولا يقال زوجناك بفلانة، كما ورد في القرآن عن زواج الرسول بزينب بنت جحش. "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكَها..."(الأحزاب الآية 37)، كما أن لوكسينبرغ ينقذ الآية من شبقيّتها الجنسية بحسب تفسير التراث الذي يفسرها بـ"أن ذلك حصل بعد أن أخذ زيد حاجته (الجنسية) منها".
لكن بحسب تفسير العالم الألماني الضليع، فإن "وطراً" مقلوبة من طور، وتارة، وتعني زمناً. و"قضى منها" أي بعد أن ابتعد عنها زمناً. وسريانياً الباء تعني "بين"، فيستقيم المعنى: المؤمنون متكئون على أسرة مرصوفة مرتاحون بين (عرائش) العنب الأبيض. هكذا أيضاً تغدو مفهومةً بشكل عضوي عبارة "كاللؤلؤ المكنون" الذي إذا تكدس يبدو كعنقود. وكان المفسّرون بحسب لوكسينبرغ، قد وقعوا في خطأ حين استندوا إلى "زوّجانهم" المُذكّرة، فعدّوا حاجة الذكر إلى الأنثى وتالياً ظنّوا بأن "حور العين" إناث. لكن حور العين هي صفة للعنب الأبيض، وذكرها دائم كصفة في الحديث عن الجنة بخلاف "الأعناب" المتكررة في القرآن في الحديث عن الأرض. أي أن ذلك العنب الجنّاتيّ يُذكر دائماً بصفته. وقد مرّ على العنب تاريخ كان فيه مقدساً، ومنه ما انقرض بفعل أمراض أصابته.
العنب المقدّس دائماً
لطالما قُدّس العنبُ عبر التاريخ. وقُدّر تاريخ زراعة هذه النبتة بنحو ستة آلاف سنة قبل الميلاد، وكَنّ الناس لها احتراماً لما هي متنوعة ومدرارة، وتم تقديسها وتكريمها في العالم القديم فكانت رفيقةً قديمةً للإنسان منذ ما قبل النقلة من الصيد إلى الزراعة، إذ كانت الأعناب برّيةً ومرت قرون طويلة قبل البدء بزراعة الأنواع التي نعرفها اليوم على غرار ما جرى مع نبتة البن.
وكشفت آخر الأبحاث الأثرية عن جرار من السيراميك في إحدى القرى الجورجية وبعض نواحي البحر الأسود يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث (Neolithic)، أي إلى أكثر من ستة آلاف سنة، ومنها انتشرت الأعناب جنوباً إلى خراسان (إيران) وتركيا وأرمينيا. وكان قد تم العثور، قبل ذلك، على مثيلات من الفخار في إيران يعود تاريخها إلى 5400 سنة قبل الميلاد. وتابعت النبتة انتشارها إلى آسيا الجنوبية قبل 3200 سنة قبل الميلاد، فدخلت بلاد ما بين النهرين (العراق) ومصر القديمة حيث كان للعنب حضور في الاحتفالات الدينية. ورصد الباحثون خمسة أنواع من نبيذ الأعناب في مصر القديمة ضمن الموائد المعدّة للحياة بعد الموت، ومما بين النهرين إلى بلاد الفينيقيين الذين حملوها إلى أوروبا ضمن أسفارهم في غير اتجاه.
في اليونان حظي العنب بخمرته بإله جديد فكان ديونيسيوس (Dionysus)، واتّبع أهلها عادات شعوب قديمة في اتخاذ إله للخمر، مضيفين بعداً جديداً في التقديس. أما الرومان فكانوا أكثر من حوّل زراعة العنب إلى صناعة كبيرة، واستغلّوا كل شيء فيها فصنعوا الخلّ والمربيات والزيوت المشتقة من بذورها وأخشابها. كما أعاد الرومان نشرها في المناطق التي احتلوها كالبقاع اللبناني حيث شيّدوا معبد باخوس إله خمرتهم في مدينة بعلبك، وهو قائم حتى اليوم. وهم من أدخلوها إلى الجزيرة البريطانية قبل ألفي عام.
وعرفت معظم الشعوب فوائد العنب الطبية، والفينيقون قطّروا نبيذه عن طريق الصدفة فاستخرجوا الكحول الأبيض الذي نعرّفه اليوم بالعرق وكانت أولى استخداماته طبيةً. وفي معبد باخوس نقوش للأعناب والخشخاش بوصفها نباتات تساعد المتعبد على صلاته للإله باخوس. وتفوقت الأعناب وهي الكرمة والدوالي أيضاً على باقي الفاكهة بمديح فوائدها غير كونها مصدراً للخمرة، فهي الأكثر منفعةً وهي فاكهة وقوت ودواء وشراب. ومن الواضح حسب النقوش والرسوم الجنّاتيّة حضور العناقيد بوصفها مفخرة الفاكهة تعلو مثيلاتها في اللوحة سواء في ما نقشه المتقدمون في التاريخ أو المتأخرون فيه وما تدلِّي العنقود فوق الفم، المتكرر في لوحات عدة منها لوحة "أكلي البطيخ والعنب" للإسباني بارتولومه إستيبان موريو، حيث العنب أيضاً للعامة والفقراء، سوى لحظة جنّاتيّة بل رحميّة نسبةً إلى رحم الأم حيث سهولة الحصول على الطعام، والجنة في اعتقاد علم النفس بديل مجازي عن الرحم. وصفة التدلي من دوالي ولا تحظى بها فاكهة أخرى إذ يمكن أخذها بالفم مباشرةً عن غصنها.
يمكن عدّ العنب الفاكهة الأكثر تقديساً في القرآن لأنها الأكثر ذكراً بأوصافها "كاللؤلؤ المكنون". لذا، الأصوب إلى الجنة الموصوفة وإلى قدسيتها ومعناها الرمزي المفارق للدنيا، أن تكون أشجاراً وفاكهةً من أن تكون نساءً وجنساً، من طرف واحد هم الرجال، لا يتوقف
الأعناب... الأكثر ذكراً ومساحةً جنّاتيةً في القرآن
ذُكر التين في القرآن مرةً واحدةً، وجاء بصيغة القسم في سورة التين. ومثله الطّلح وفُسّر بالموز، والرمان ثلاث مرات. أما التمر كثمرة فذُكر مرةً والنخل عشرين مرةً كشجر. أما الأعناب فقد ذكرت صريحةً إحدى عشرة مرةً. وترافق ذكر النخيل مع الأعناب في وصف فاكهة الجنة مع ذكر للرمان. وفيما تكرر ذلك مراراً غابت الأعناب مرةً لتحلّ مكانها كلمة "فاكهة" كما في الآية 11 من سورة الرحمن "فيها فاكهة ونخل ورمان"، وإذ يستحيل نفي النخل والرمان من الفاكهة وصفاً، فما معنى هنا كلمة فاكهة سوى أنها الأعناب التي تكررت قبلاً في آيات عدة "فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب" (المؤمنون 19)، "وجعلنا فيها جنّات من نخيل وأعناب" (يس 34).
لكن الأعناب التي ذُكرت مباشرة 11 مرةً يزيد ذكرها بكثير إذا ما أضفنا "معروشات": "وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله" (الأنعام 141)، وإذا اعتبرنا أن حور العين التي ذُكرت ثلاث مرات هي صفة العنب الأبيض كما بيّنّا حسب الأدلة اللغوية التي أورها كريستوف لوكسنبرغ، بجانب أوصافها الأخرى "أزواج مطهرة" و"قاصرات الطرف" و"أتراباً" و"أبكاراً" و"كواعب"، إذ قاصرات الطرف بحسب لوكسنبرغ تعود للأعناب المتدلية المتوفرة للجالسين يقطفونها بسهولة ومنها أزواج مطهرة أي لم تمسسها يد. فالأزواج التي فسرها المفسرون "بزوجات الجنة والحوريات" ترد في سورة يس في الآية 36 "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرضُ ومن أنفسهم ومما لا يعلمون". والحال، يمكن عدّ العنب الفاكهة الأكثر تقديساً في القرآن لأنها الأكثر ذكراً بأوصافها "كاللؤلؤ المكنون"، وهي بذاتها جنات في الأرض وفي السماء كما ورد في النص القرآني. وإلى ذلك، فإن الأصوب إلى الجنة الموصوفة وإلى قدسيتها ومعناها الرمزي المفارق للدنيا، أن تكون أشجاراً وفاكهةً من أن تكون نساءً وجنساً، من طرف واحد هم الرجال، لا يتوقف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع