شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مدارس لإعداد المُخبرين...

مدارس لإعداد المُخبرين... "بدّك البغدادي يحكمنا؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 10 يونيو 202411:05 ص

يخرج الأستاذ من الصفّ لبعض الوقت متحججاً بأمرٍ ضروريّ، ويأمر عرّيف الصفّ بتسجيل أسماء المُشاغبين في غياب الأستاذ، ليُصار إلى معاقبتهم بالعصا التي يُفترض أنها صُنعَت لاستخدامها في حصص الرياضيات والهندسة، وأحياناً كانت تُستبدل بعصا الرمان التي تكون لينةً وطيعةً؛ ضربتها خاطفة وسريعة، لدرجة أنك لا تشعر بالألم إلا بعد الضربة بثوانٍ قليلة، لربما تتجاوز سرعة الضربة بها سرعة وصول السيالة العصبية الألمية إلى الدماغ، وكما كان صديقي يصف ألمه بعدها "أخخخ.. بتسلخ سلخ"، وفي طريق خروج الأستاذ من الصف يستدير موصياً العريف: "إذا حدا سكت وقعد عاقل، اشطب اسمه من القائمة".

آثار "التركيع" التي لا تزول

هنا تكتمل عناصر إعداد مُخبرِي المُستقبل: سُلطةٌ تُعطى لأحد التلاميذ ليُسجّل أسماء أصدقائه وزملائه ليُصار إلى معاقبتهم وضربهم، في ظلّ عجز الأستاذ (الديكتاتور) عن مراقبة كل التلاميذ (المواطنين) في كل وقت، مع إعطاء العرّيف إمكانية العفو عنهم، ووجود عصاً تُخيف أيّ مُخطئ.

ناهيكَ عن تعليم الأطفال الوشاية ببعضهم البعض، تُتاح الفرصة أمامهم لتصفية حساباتهم الطفولية من خلال ورقة يستطيع صاحبها كتابة أي اسم، يُصار إلى معاقبته دون التثبت من استحقاقه للعقوبة. أذكر أنّ الأستاذ الذي كان يتبع الطريقة تلك، يُركّع الأسماء الواردة على اللوح؛ أي يركّع الطالب على ركبتيه وجبهته تتكئ على السبورة، يداه مرفوعتان وراحتا يده تلتصقان عليها، وأي التفاتةٍ إلى الخلف أو محاولةٍ للكلام كانت العصا تأتينا من الخلف بقوة.

وأذكر مرةً أنّ السبورة قد امتلأت، فأمرني الأستاذ بالركوع إلى جانب مقعد صديقتي، هامستُها ودار حديثٌ قطعه الأستاذ بأنِ انهال ضرباً عليّ بالعصا وأنا في وضعية الركوع، بكيتُ كثيراً لأنني أحسستُ بالذل، ولا أزال أذكر كيف انهمرَت دموعي من أنفي لتشكل نقاطاً تجمعت على بلاط المدرسة المتسخ.

وفي مرةٍ أخرى، قام الأستاذ بتركيع أحد أصدقائي لفترةٍ طويلةٍ، لدرجة أنّ شكل يده بقي مطبوعاً على السبورة بقية الحصص بسبب تعرّق اليد الذي كان يترك علاماتٍ واضحة على سبورة الطبشور ذات اللون الأخضر في ذلك الزمن، فبقيت آثار تعرّق اليدين بضع ساعات.

تشابهٌ كبير بين المدرسة والسجن، وعلى ما يبدو أنّ الكثير من أفكار السجن مُستوحاة من المدرسة، وتشترك المؤسستان في سوريا بكونهما وسيلتين لتدجين المجتمع، ومن فشلت المدرسة في تدجينه يكون السجن بانتظاره

ولكن، كم تبقى تلك الآثار النفسية في ذاكرة وشخصية طفلٍ لم يتجاوز عمره اثني عشر عاماً؟ جزء مهم من هذه العقوبات كان يحدث بسبب الوشاية من تلاميذٍ في المرحلة الابتدائية (تتراوح أعمارهم من ست إلى اثني عشر سنة) وبتكليفٍ مباشرٍ من الأستاذ، وعليه، كيف يكون إحساس هذا الطالب/الطفل بأنّ العقوبة القاسية التي تلقاها كانت بسبب زميله في الصف؟

مدرسة/ سجن، من هنا أتت الفكرة

أسرّ لي رجل سبعينيّ أنه يكتب التقارير منذ كان في طالباً في الثانوية، واستمرّ في ذلك إلى ما بعد تقاعده من الوظيفة الحكومية: "لقد تعودتُ على كتابة التقارير ولم أعد أستطيع التوقف عن هذه العادة"، وعندما سألته إن كان يقبض مالاً مقابل تلك التقارير أجابني بالنفي: "إطلاقاً، فهم كانوا يعتبرونها خدمةً للوطن، ولكن كان يحق لنا التمتع ببعض الامتيازات البسيطة، فقد قبلوا طلبي بتوظيف ابنتي في وقتٍ كان الحصول على وظيفةٍ أمراً صعباً". يتفق كلام الرجل على طريقة تعامل الجيل الجديد من المُتعاملين مع الأمن، الذي يكتفون بإعطاء بعض الخدمات البسيطة أشخاصٍ بسطاء.

تذكّرتُ قصة تسجيل الأسماء تلك عندما قرأتُ رواية "القوقعة" للمعتقل السياسي مصطفى خليفة، ويروي الكاتب يوميات تعذيبه في سجن تدمر الصحراوي سيء الذكر، حيث كان يُراقبهم السجّان من نافذة في سقف المهجع يسمونها "الشرّاقة"، وأي كلامٍ أو حركةٍ لا تُعجب السجّان كان يطلب من رئيس المهجع -وهو أحد السجناء- "تعليمه" ليُصار إلى معاقبته في اليوم التالي. تشابهٌ كبير بين الحالتين، بين المدرسة والسجن، دفعَت الكثير من السوريين لتشبيه المدارس بالسجون، وعلى ما يبدو أنّ الكثير من أفكار السجن مُستوحاة من المدرسة، وتشترك المؤسستان في سوريا بكونهما وسيلتين لتدجين المجتمع، ومن فشلت المدرسة في تدجينه يكون السجن بانتظاره.

وحتى أكون منصفاً، فإنني أذكر الكثير من الأساتذة الذين إذا أتتهم وشاية من أحد التلاميذ على أصدقائه، كانوا يصرخون بالتلميذ الواشي "الفسّاد"، ويعاقبونه -بالإضافة إلى معاقبة التلاميذ الذين يثبت ارتكابهم مخالفة- ويحذرونه من تكرار "التفسيد" أو الوشاية على زملائه، ويخبرونه أنّ هذا الفعل مكروه وسيعرّضه للنبذ ولن يحبه أحد، وربما تبقى الصفة أو السمعة مرافقة له طيلة حياته، ما يؤكد على أنّ مهنة المُخبر لم تكن محبوبةً في المجتمع السوري، وخاصةً بيئة الساحل التي عشتُ فيها أكثر من ثلاث عقود.

الرد الدائم على محاولات التغيير: "بدك البغدادي يحكمك"؟

يخاف الناس هنا من التغيير الذي يُحاربونه بكل ما لديهم بالوعي واللاوعي، وفي الوقت نفسه يتذمّرون من استمرار واقعهم السيء وتدهوره. يتوقعون في كل مرةٍ فرجاً وحلاً وتغييراً نحو الأفضل، وهم يحاولون بالطريقة ذاتها، ويفعلون الأشياء نفسها التي اعتادوا عليها. يطلبون العون من السماء وينتظرون الحلول من السماء، وعلى الأرض يجلدون أصحاب الحلول أو محاولات تغيير الأفكار ثم الأفعال للوصول إلى نتائج مختلفة.

وبعد ما يُعرف بالرفع الثلاثي في الخامس عشر من آب لعام 2023، كثرَ التذمّر والاحتجاج من الوضع المعيشيّ السيء في الساحل، لكنّ بعض الأشخاص "تذمّروا من هذا التذمّر" واعتبروه استسلاماً وقصر نظر وخيانة لدم الشهداء الذين لاقوا أياماً أصعب بكثير وانتصروا في النهاية، وأنّ المتذمّرين أشخاصٌ لا يفهمون المسألة في العمق، ويجب أن ينصرفوا إلى العمل عوض الحديث عن قضايا لا يخبرونها، لذلك اقترحتُ عليهم حلاً: "طيب غيّروا الشعب".

يأتيني الرد بسرعة ودون أي تدرجٍ أو تسلسلٍ في الحديث، على شكل سؤال: "إنت بدك البغدادي يحكمك؟ بكرا لتحرّم تمشي مع بنت بالطريق"، في إعادةٍ واضحة للسردية التي اعتمد ولا يزال تعتمد عليها السلطات، فأيُّ محاولة للتغيير تُقابل بالتلويح بداعش والتنظيمات المتشدّدة، وقد قامت على مدى عقود بخنق أي بديلٍ ممكن، والاحتفاظ بالمتشدّدين لحين الحاجة لاستخدامهم، هو أحد أذناب المُخابرات يوصل رسالةً مفادها: "اصمت ولا تتمادى أكثر في الكلام"، تتلوها عبارات تلطيفية ليُبقي على علاقته الشخصية معي، ثم يسرد بعض القصص عن مُعاناة أشخاصٍ اعتُقلوا في الأقبية وضاع شبابهم من أجل بضع كلماتٍ لن تحلّ المشكلة، وهو يرسم أمارات الأسى على وجهه ونبرة صوته، مُمثلاً بذلك صوت العقل وميزان الحكمة الذي يختار الصمت على السجن: "بتضيّع شبابك مشان كلمة؟!".

وهو في ذلك مُحقّ في الظاهر، وربما يعكس من وجهة نظري نزاعاً داخلياً -ولو كان محسوم النتيجة- بين ولائه لمصلحته في خدمة السلطات من جهة، وما تبقّى من ضميره وإحساسه بالذنب أنه قد يُؤذي ابن بيئته، وقد فعلها من قبل بطبيعة الحال، هذا ما ينطبق على بيئة الساحل السوريّ، حيث يكون المخبر صديقاً أو جاراً أو قريباً، أو حتى فرداً من العائلة، وربما أخاً ولدته أمك. هذا ما يُعيق الساحل أن يحذو حذو السويداء.

أبناء الساحل ليسوا كلهم مُخبرين، وكثيراً ما يغيّر أبناء المحافظات الأخرى لهجتهم عندما يعرفون أنّ أمامهم رجلاً من الساحل، ويبدؤون بكيل المديح للرئيس: "بيفكروه بيشرب متة عنا كل يوم، وبيستشيرنا بكلشي!"

تحول لافت في جيل المخبرين

وبعد تتالي المواقف والنقاشات الجماعية، أصبحتُ أتتبّع الأنماط والشخصيات وأحللُ تصرفاتهم ومدلولاتها. من المُخبرين أو المتعاملين من يكونون ميسوري الحال نسبياً في الساحل، يستغلون حاجات بعض الشباب، فإن كُنتَ راغباً في السفر يُوهمك أنه يُمكنه مساعدتك في السفر، من خلال سرد قصص أشخاص قدم لهم المساعدة من خلال دَينٍ أو تسهيلات معينة، أو الاستعانة بهم في أشغالٍ خاصة، مثل الاعتناء بالمزرعة أو في أعمالهم التجارية أو خدماتٍ بسيطة، لكنّها غالباً ما تكون غير مأجورة أو مأجورةً لمرة واحدة، والمقابل خدمات بسيطة تُرسّخ السيطرة.

والتحوّل اللافت في بعض الأجيال الجديدة من المُخبرين والمتعاملين، هو عدم وجود الولاء المُطلق للرئيس، لأنّ ذلك سيجعل الناس تنفر منهم، خصوصاً مع تراجع شعبيته في الساحل، فخيبة الأمل بادية على وجوه الناس البسطاء الذين قدموا أرواح أبنائهم ليدافعوا عن الوطن أو هكذا شُبّه لهم. ويكتفي المخبرون الجدد بإعلان ولائهم لرموزٍ أخرى، مثل شقيق الرئيس والضباط الكبار، ويشاركون عامة الناس تذمّرهم من الرئيس، لكي يبقوا قريبين منهم، أو ربما تكون تعليماتٍ بقصد احتواء الوضع المُحتقن في الساحل وحصر التذمّر وبقائه تحت المراقبة، والسماح به طالما أنه يجري في السرّ دون أي تحريضٍ أو خروجٍ للعلن.

ليسوا كلهم مُخبرين

أبناء الساحل ليسوا كلهم مُخبرين، وكثيراً ما يغيّر أبناء المحافظات الأخرى لهجتهم عندما يعرفون أنّ أمامهم رجلاً من الساحل، ويبدؤون بكيل المديح للرئيس. "بيفكروه بيشرب متة عنا كل يوم، وبيستشيرنا بكلشي!": هكذا يقول صديقي فادي الذي سكن بضع سنواتٍ في الحسكة قبل الحرب، إذ على العكس من الصورة النمطية السائدة، يكره معظم أهل الساحل "المُخبر" أو "كتّيب التقارير"، فمهنة الواشي مكروهةٌ في كل مكان، ولا يقتصر دور المخبر على كتابة التقارير بالآخرين أو الغرباء أو "المندسّين"، إذ يمتد أذاه إلى مجتمعه وقريته وجيرانه وأقاربه، كما أخبرني جدي مرةً عن أحد رجال القرية الذي كتب تقريراً بابن خالته بعد أن اغتاظ منه بسبب سفره إلى الولايات المتحدة، في زمن الحرب الباردة، واتهامه بمعاداة حلفاء الأمة.

وأذكر تماماً الخلاف الحادّ الذي نشب في البناية التي أسكن فيها، إثر اعتراض مالك الطابق الثاني على رغبة مالك الشقة في الطابق الرابع تأجيرها لشخصٍ يعمل مُخبراً، رغم العلاقة الوثيقة بين المالكَين، لم ينتهِ النزاع إلا بالعدول عن فكرة تأجير المُخبر، رغم أنّ الرافض لوجود المُخبر مُستأجراً معه في البناية ذاتها، لديه شاب متطوع في السلك الأمني.

هذا ما يدفعنا للتفكير ملياً في التعميم القائل إنّ كل أبناء الساحل السوري مُخبرون، وكلّ عناصر الأمن سيئون، فهناك منهم من لا يرضى أن يسكن إلى جانبه واشٍ، ما يدعونا كسوريين إلى أن نكون أكثر لطفاً وتسامحاً مع أنفسنا، فمن تطوع بالأمن كان عمره 18 عاماً (وغسيل الدماغ بدأ قبل ذلك بكثير)، ومن  التحق بالتنظيمات المسلحة على اختلاف مشاربها، متشددةً أم منفتحةً أم معتدلة، كان أيضاً في عمرٍ مقاربٍ؛ منهم في عمرٍ أكبر ومنهم في عمرٍ أصغر. أعتقد أننا جميعاً كشعبٍ عاش على الأرض السورية -عناصر أمن أم مدنين أم مُخبرين أم مُوشى بهم- "ضحايا" لأصحاب المصالح والكراسي والأموال، وللفوضى العارمة التي تبعتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image