شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
آه إسنا، أين نحن الآن منك؟

آه إسنا، أين نحن الآن منك؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الاثنين 3 يونيو 202412:55 م

في نهار شتاء دافئ، جلس محمد صالح، في محل عتيق لم تمسسه يد التطوير إلا في ماكينة الخياطة الحديثة نسبياً والتي يعمل عليها لحياكة الجلباب الصعيدي التقليدي للرجال، و"الصديري الداخلي" للجلباب، ليبدو في جلسته مثل مدينة إسنا التي يسكنها، وهي مدينة متعددة الثقافات متنوعة التاريخ.

واجهة المحل طُليت بلون أبيض مشوب بالأصفر تساقط أغلبه، وتبدو كأنها غابت عن اهتمام حملة تطوير السوق القديم حيث يقع المحل الذي يحتفظ في الوقت ذاته بالبوابة العتيقة، ليتحول إلى مثال حي لوصف المدينة بأنها منطقة متعددة الطبقات الثقافية والحضارية، بحسب وصف محسن كمال، مدير البرامج في مبادرة إعادة اكتشاف ثقافي لإسنا، إذ يقول لرصيف22: "المدينة تبدو كطبقات ثقافية تبدأ من معبد خنوم وما فوقه من آثار مصرية قديمة وقبطية وإسلامية باقية، وحتى منازل بُنيت قبل 100 عام".

محمد صالح

تخطّى محمد صالح السبعين من عمره، وما زال يعمل في محله ليصبح وجهه لافتاً لأنظار السائرين في سوق إسنا، وهو يجلس على كرسيه يتدفأ بشمس الشتاء ويتلمس اهتمامات جولات سياحية يعدّها قليلةً ولا تعبّر عن قيمة المدينة، بسبب تراجع شركات السياحة عن إدراج المدينة ضمن الرحلات النيلية بين مدينتَي الأقصر وأسوان.

أكثر ما يجذب الانتباه في إسنا وجوه ساكنيها، وتمسّك أهلها بحرف يدوية تراثية يمتهنها رواد في الحرفة قبل نقلها للأبناء كإرث عائلي

على بعد مئتي متر من محل صالح، وقف ثلاثة أطفال على أعلى تلة جبلية ينظرون إلى باخرة سياحية تبحر في مياه النيل وهي في طريقها إلى أسوان بعد انتظار لساعات أمام قناطر إسنا دون تفكير في النزول وزيارة المدينة.

زرت إسنا ضمن برنامج سياحي ليوم واحد بين ثلاثة أيام قضيتها في مدينة الأقصر، في محاولة لاكتشاف طبيعة ثقافية مختلفة عن المزارات الأثرية الشهيرة في الأقصر. أكثر ما يجذب الانتباه في إسنا وجوه ساكنيها، وتمسّك أهلها بحرف يدوية تراثية يمتهنها رواد في الحرفة قبل نقلها للأبناء كإرث عائلي.

يشكو صالح ضيق الحال، بسبب تطور صناعة الملابس واتجاه الكثير من الزبائن إلى شراء الجلباب الجاهز بدلاً من تفصيله.

قابلته قبل شهر رمضان الذي يعدّه موسماً. قال: "دلوقتي المفروض إنه موسم قبل رمضان والعيد، كنت بشتغل في تفصيل الطلبية الجديدة للصلاة في رمضان والعيد، لكن الحال زي ما إنت شايف مفيش شغل".

يلوم صالح جهود مبادرات تطوير المدينة لأنها تهتم فقط بالسوق السياحي وبازارات بيع مستنسخات القطع الأثرية، دون النظر إلى الحرف التقليدية في المدينة برغم شهرتها، ويقول بأسى: "المحل بقى مكان لزيارات السياح عايزين يصوّروني ومفيش حد يفكر يشتري جلابية. طب آكل البيت منين؟ عايز أبيع وأشتغل".

تحيط بمحل صالح محالّ لأصحاب حرف يدوية تقليدية يتمسك ممتهنوها بتراثها وبتوريثها للأبناء، وتوسيعها بغض النظر عن عوائدها المادية. يحتفظ بها كبار السن لتبدو إسنا كمدينة تاريخية بوجوه ناسها، فيكفي التجول لساعة في شارع السوق، كجولة زمنية في وجوه الرجال والأزياء التقليدية للصعيد حيث تتجاور مهن خياطة الجلباب مثل صالح، والمنجد العربي، والإسكافي، وصانع الأختام النحاسية، و"مكوجي الرجل" مثل حسين.

حسين

يحب حسين استعراض مهاراته في كي الملابس بمكواة تتحرك بالدفع بالقدم، حيث يضع قدمه على مكواة ساخنة على الملابس، في مهنة توارثها عن عائلته التي أدارت المحل نفسه لأربعة أجيال.

يقول حسين: "حرفة مكوجي الرجل قديمة وقليلة في إسنا. أفتكر أول ما تعلمت المهنة في الثمانينيات مع أبي كنا أربع عائلات فقط في المهنة، غبت بعدها للعمل خارج إسنا وعدت إليها لأدير محل أبي".

إحدى عتبات إسنا

حرف إسنا اليدوية تكافح على جبهات عدة، أولها تراجع العائد السياحي، ثم الركود الاقتصادي من بعد جائحة كورونا، ثم انصراف الناس عنها إلى ما وفّرته التكنولوجيات الحديثة من بدائل، وأخيراً توافُر منتجات مقلّدة لأكثر الأدوات تراثيةً وخصوصيةً للمدينة من مصانع في مصر أو من مصانع في الصين.

في الطريق إلى السوق السياحي خصص فاروق محلاً لغزل الشال والكوفية بنول غزل يدوي، بينما يعمل نجله مروان على الغزل بنول أرضي لتتقاسم العائلة تراث غزل تاريخي في المدينة. يقول: "البلد هنا أصلها في الحرف دي، وهي دي اللي بتخلي السياح يجوا هنا، مفيش بلد تاني في الصعيد هتلاقي فيه الحرف القديمة زي هنا".

فاروق

أهم أسباب تراجع إسنا، خروجها من خريطة السياحة الداخلية أو السياحة للأجانب قبل 10 أعوام، وقد عادت على استحياء بعد إطلاق مبادرة لإعادة اكتشاف المدينة وترميم مبانٍ تراثية فيها بدعم من وكالة التنمية الأمريكية، عبر إعادة تأهيل منازل قديمة وسوق تجاري ووكالة أثرية ومئذنة مسجد ومعبد يوناني روماني.

إحدى عتبات إسنا

يصف محسن كمال، مدير البرامج في شركة "تكوين"، صاحبة مبادرة اكتشاف إسنا، المدينة بأنها متعددة الطبقات بين الثقافات والحضارات، حيث يظهر معبد خنوم آخر المعابد المصرية القديمة الباقية بشكل سليم من بين أربعة معابد كانت في المدينة، على عمق 9 أمتار، حيث اكتُشف في المراحل الأولى سقف المعبد وجزء من الأعمدة، قبل أن يزال الرّدم حول المعبد ويظهر كاملاً للمرة الأولى في عهد محمد علي باشا، وترتفع حوله طبقات جيولوجية خضعت لدراسات طويلة، ويعتقد أن المدينة فيها آثار تحت المنازل، ولكن قرار إزالتها للتنقيب صعب الآن بسبب الكثافة السكانية، ولا يمكن تفريغ المدينة بالكامل من سكانها.

يخضع معبد خنوم حالياً لعملية ترميم بالتعاون بين وزارة الآثار المصرية وجامعة ألمانية منذ عام 2018، حيث بدأت عملية الترميم بوضع سياج حديدي لمنع دخول طيور الحمام إلى داخل المعبد حيث تسببت أعشاشها القديمة وفضلاتها في طمس الرسوم والأعمدة، فضلاً عن تعرّض المعبد لحادثتي حريق في القرن التاسع عشر بعدما خُصص في عهد والي مصر محمد علي باشا، ليكون مخزناً للأقطان ثم مخزناً للسلاح وفي المرحلتين تعرّض للحريق.

معبد خنوم

يقول أحمد إمام، مدير فريق الترميم المصري لمعبد خنوم: "الترميم يبدأ بتوثيق أعمدة المعبد وتحديد مظاهر التلف فيها واختبار طرق الترميم، وهل لها تأثير سلبي على المدى البعيد حتى 50 عاماً".

ويضيف: "تأثرت رسومات الأعمدة والألوان الأساسية لسقف المعبد بمادة سوداء تسمّى 'السناج' من آثار الحريق، وفضلات الطيور التي بنت أعشاشها على الأعمدة، والمياه الجوفية التي تؤثر على الأساسات مثل بقية الآثار المصرية القريبة من نهر النيل".

حول معبد إسنا تقع أكثر آثار المدينة، ويمكن التجول بين المباني القديمة التي بُنيت بطرز مختلفة، وأبرز علاماتها في أسلوب بناء الواجهات وعتبات الدور.

من عتبات إسنا القديمة

من المعتاد أن تكون عتبة البيوت في الأسفل لمنع تسرب الأتربة والمياه إلى المنازل، لكن في إسنا توضع العتبات أعلى الأبواب، وتُكتب عليها زخارف وكتابات لتسمية صاحب البيت وعائلته، وآيات من القرآن الكريم أو ترانيم مسيحية.

تقول رحاب، وهي مرشدة سياحية في المدينة: "العتبات لها طابع متفرد في إسنا، والكتابات عليها لا تشير بالضرورة إلى ديانة صاحب البيت. يمكن أن تكتب آيات قرآنية على عتبة بيت مسيحي والعكس، ويعود ذلك لديانة مقاول البناء وثقافته، إذ كان يضع بصمته بغضّ النظر عن ديانة صاحب البيت، وهنا يظهر مدى التسامح بين سكان المدينة قديماً".

عتبات إسنا

تشير رحاب إلى أن أسماء العائلات على عتبات البيوت تكون في بعض الأحيان مدعاةَ فخر، إذ كانت النساء قديماً يعايرن من هنّ من خارج إسنا وتزوّجن من رجالها بأن يقلن لإحداهنّ: "روحي شوفي لك عتبة في إسنا" (أي أنها ليست ذات أصل ونسب في المدينة).

حرف إسنا اليدوية تكافح على جبهات عدة أولها تراجع العائد السياحي، ثم الركود الاقتصادي من بعد جائحة كورونا، ثم انصراف الناس عنها إلى ما وفّرته التكنولوجيات الحديثة من بدائل

يحدد المسار السياحي لخريطة المدينة أربعة منازل كمثال للطراز المعماري المميز، أحدها واجهته بُنيت بطوب حجري وما زالت قائمةً برغم تهدّم جدران المنزل نفسه المبنية بطوب لبني، وقد رُمّمت الواجهة لتحكي تاريخ البناء واسم العائلة ولتنسب المنزل إلى مالكه. وكذلك وكالة الجداوي، وسوق القيسارية، ثم أقدم معصرة زيوت تقليدية، وقد توقفت عن العمل بسبب تكلفة إنتاج الزيوت مقابل تسويقه وسعر البيع.

معصرة الزيوت

تُنسب معصرة الزيوت إلى صاحبها محمد بكور، وهي أقدم معصرة في الصعيد، وقد توقفت بعد وفاة صاحبها، واكتفى أبناؤه بترميم "الرحايا" وأخشاب آلات العصر بلون بني زاهٍ و"ورنيش" ملمع لتكون زاهية الألوان أمام كاميرات زائري المدينة، ولكن بشكل أفقد المعصرة رونقها. كيف ننظر إلى آلة تراثية تلمع بفعل "الورنيش"؟

في طريق العودة إلى الأقصر عبر الحافلة، وعند قناطر إسنا، رأينا خمس سفن كروز تنتظر دورها في فتح "هويس" القناطر لتعبر إلى أسوان، دون زيارة المدينة.

مشهد السفن الراسية قبل إسنا تحدّث عنه الخياط العجوز بأسى، وقال: "كان زمان لازم السفن تنزل إسنا وهي بتستنى معاد فتح الهويس. لكن دلوقتي قليل منها اللي يقف. المهم أسوان الأقصر، فيا ريت الشغل في المعبد والشوارع يرجّع السياحة تاني للبلد".

أمنيات صالح تبدو طبيعيةً بحسب أهداف مبادرة إعادة اكتشاف إسنا، وهي أن تحسّن مبادرات الترميم دخل سكان المدينة، وتعود السياحة بشكل تدريجي، كي تُعدّ إسنا على الأقل محطةً ثقافيةً وسيطةً بين سياحة الآثار في الأقصر والطبيعة وآثار أسوان.



إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard