"فرح بنت إسماعيل"؛ بهذا الاسم كان حارس المدرسة يناديني في الصفيّن الأول والثاني عبر الميكروفون، ليُخبرني بقدوم بابا. كنتُ أركض إلى البوابة، بمريولي الأحمر الطويل، وخدودي الحمراء، وشعري الكيرلي الذي لم أكن أُحبّه، ورائحة الركض واللعب والرطوبة.
كنتُ -وما زلت قلباً وروحاً- طفلةً مدللةً، تزوّج والدها ووالدتها، وعمر كل منهما 23 سنةً. وبرغم صغر سنّ والدها، إلا أنه لسبب ما عرف كيف يُربّي ابنةً.
بذل والدي جهداً مهولاً ليُعطيني كل مشاعر الحب والاهتمام التي قد تحتاج إليها أي طفلة. فكنتُ طفلةً لم تتسوّل الحب والاهتمام من محيطها، ومراهِقةً آخر ما يلفتها لقاءات البنات والأولاد في نهاية اليوم المدرسي في مدارس جِدّة التي لم تكن مختلطةً. ذاكرتي الطفولية مليئة بمشاهد لعائلتي، وبالمسلسلات السورية، وبالأطعمة. والطعام في بيتنا شكل من أشكال الحب.
محاولات والدي لكي أكون "مكتفيةً" عاطفياً داخل البيت، تجنّباً لتبعات ما يعنيه أن تكون الطفلة غير مشبعة عاطفياً، لم تكن فرديةً، فقد أعطى تعليماته أو توصياته لتوأمي صلاح، وأخي الأكبر يوسف، فتلقيتُ معاملة "آخر العنقود" برغم أني أصغر توأمي بخمس دقائق. أما أمي، صديقتي المفضلة والمقربة، فلم تكن بحاجة إلى توصياتٍ لتُشعرني بحب الدنيا كلّه.
أعدّ نفسي من المحظوظات جداً، لكوني ابنة أبي، الذي برغم صغر سنّه وبرغم خروجه من مدينة لا أعتقد أنها كانت منصفةً جداً بحق النساء، عرف كيف يكون عادلاً. مارس أبي المساواة في المنزل. قال، على سبيل المثال، لشقيقيّ، في فترة مراهقتنا، إنه كما يحق لهما أن "يكونا في علاقات عاطفية"، يحقّ لي. وبرغم هذا، لم أكن مكترثةً.
أعدّ نفسي من المحظوظات جداً، لكوني ابنة أبي، الذي برغم صغر سنّه وبرغم خروجه من مدينة لا أعتقد أنها كانت منصفةً جداً بحق النساء، عرف كيف يكون عادلاً. مارس أبي المساواة في المنزل. أدرك باكراً، أن كل شيء يبدأ من البيت
أدرك أبي باكراً، أن كل شيء يبدأ من البيت، وشهدنا أنا وإخوتي على هذا منذ صغرنا. أعطانا دروساً أخلاقيةً كثيرةً دون أن يبدو أباً مملاً. كان يُعاقب على الكذبِ على سبيل المثال، لا على تدنّي الدرجات المدرسية لقناعته بأن لكل شخص قدرات تعليميةً تختلف عن الآخر.
وبالعودة إلى المساواة، يسألني أبي كلما قرأ في رصيف22 (حيثُ أعمل)، مادةً تتحدث عن عدم المساواة بين الرجل والمرأة مثلاً، أو مادةً تحكي فيها امرأة عن ظُلم المجتمعات الذكورية، إن "كنت أعرف امرأةً مظلومةً واحدةً في حياتي؟"، معتقداً أن التركيز على قصص النساء المظلومات يُبيّن أن النسبة الأعظم من النساء مظلومات وأن لا وجود لرجال أسوياء.
كنت أجيبه في كل مرة بأن النساء الأكثر حظاً يتحدثن عن الأقل حظاً، في محاولة لتغيير واقعهنّ.
أنا يا أبي من الأكثر حظاً. أن أكون ابنتك يعني أن أكون من الأكثر حظاً. كم من ابنة لديها أب مُستمع؟ أب لا يفرض شيئاً على أبنائه ودائماً يترك لهم حق الخيار، وإن لم يُعجَب بخياراتهم؟ أب لا يميّز بين أولاده الذكور وبناته الإناث؟ أب يبذل جهداً ليُشعر أولاده بالحبّ؟ أب نجح في أن يكون أباً وصديقاً في الوقت ذاته؟ أب يعرف كيف "يعيش" واستطاع أن ينقل هذا لأولاده؟ أب عمل جاهداً لتكون ابنته مشبعةً عاطفياً داخل المنزل، فلا تتوسل الحب والاهتمام من أي عابر سبيل؟
أنا يا أبي من الأكثر حظاً. أن أكون ابنتك يعني أن أكون من الأكثر حظاً. كم من ابنة لديها أب مُستمع؟ أب يعطي ابنته فرصةً لتكون ما تودّ أن تكونه؟ أن تتغير وتتشكل كل يوم؟ أن تكون حيّةً إلى هذه الدرجة؟
كم من ابنة لديها أب يعتني بأجنحةِ ابنته؟ يعطي ابنته فرصةً لتكون ما تودّ أن تكونه؟ أن تتغير وتتشكل كل يوم؟ أن تكون حيّةً إلى هذه الدرجة؟
أراك في نفسي. أرى حبّك للحياة فيّ. أحب الحياة بقدر حبّك لها. أشعر دوماً بأن هناك شمساً في قلبي، دافئةً وحنونةً، تعرف متى تشرق، ومتى تعطيني قليلاً من الظل.
لستَ أباً عابراً، وأنا من الأكثر حظاً. اسمح لي أن أتحدث عن الأقل حظاً حينما تسنح لي الفرصة. فأمثالك ليسوا كثيرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...