تختلف قصص الآباء الذين مرّوا بحياة بناتهن. لكل منهم قصته، هناك من يطيب ذكره في كل الأوقات، هناك من مرّ كعابر سبيل، وهناك من تمنّين عدم مروره. ربما تختلف طرق التربية بين أب وآخر، لكن لا يمكن أن ننكر أنه في بعض الأحيان، رغم القسوة التي يظهرها، تفلت منه لحظة حنان لا يُنسى أثرها مدى الحياة.
حاولتُ جاهدةً أن استمع لقصص من خسرن آبائهن وتضاربت القصص، فكل واحدة عاشت تجربةً مختلفة عن الأخرى، إلّا أن أكثر ما لفتني أنه رغم اختلاف طرق حياتنا، تشاركنا كلنا نفس الوجع، ولعل أكثر ما ركن في ذاكرتي تلك التي قالت: "كان كتير قاسي وكنت أكرهو بس يا ريت بعده هون".
منذ خمس سنوات، كان والد تلك الصديقة يصارع الموت، طلبت مني نصيحة فأجبتها بأول ما تبادر إلى ذهني: "بكل بساطة، سجّلي صوته لكي تستطيعي الاستماع اليه في كل مرة تشعرين بالاشتياق"، ربما هذا أكثر ما أفتقده!
لعلّ الجواب الذي نطق به لساني، قذفته الأفكار المتصارعة داخل رأسي عن صورة الأب في حياة ابنته، فبعد حديثهنّ عن القسوة والظلم الذي قد يحدثه الوالد أحياناً، تراءت أمامي صورة والدي... والدي الذي جعلني أكون ما أنا عليه الآن! أيُعقل؟ أيُعقل أن يمسح بعضُ الآباء صورة الرجل السند والحامي وكل صفات الأبوة ويترك عند بناته تجارب أليمة ومؤذية؟
نعم، فقدتُ والدي... وبعد رحيله، صرت أسمع الكثير عن قصص رحيل الآباء وعلاقتهم مع عائلاتهم. الآن أجد نفسي متأرجحة على خشبة بين أمواج من التساؤلات، أتمرجح بين صورة والدي الجميلة وبين ما أرى من صور لرجال آخرين؟
اسمحوا لي أن أحدثكم عن أبي، عن النموذج الذي أتمناه في حياة كل عائلة، عن الرجل الذي نفتقده في هذه الأيام مع كل قصة نسمعها. كم تمنيت أن يكون والدي هو والد كل فتاة تتلطى عائلتها تحت ما يسمى "الشرف" كي يدافع عنها ويحميها من شر التقاليد التي تسيطر على مجتمعنا، كيف لا وأنا لا زلت أسمعه يعاتب أختي حين بكت لان أحدهم عايرها بملابسها فكان جوابه الوحيد: "قوليله بيقلك بيي المشكل فيك مش بثيابي".
بعد رحيل والدي، صرت أسمع الكثير عن قصص رحيل الآباء وعلاقتهم مع عائلاتهم. الآن أجد نفسي متأرجحة على خشبة بين أمواج من التساؤلات... بين صورة والدي الجميلة وبين ما أرى من صور لرجال آخرين
أبي ربما هو النموذج المثالي لكل أب تتمناه فتاة، هو الرجل الذي حاول جاهداً أن يخرج من علبة الرجل الشرقي الذي يتحكم بعائلته، كان أبي يلعب دوره في حمايتنا من ذكورية المجتمع. كان هو أول من علمني أن أكون "أنا" وأن أضع نفسي أولاً وألّا أقبل أن أكون في المرتبة الثانية. كان ذاك النموذج الذي يحتذى به، فكان يرى أن أُسس التربية في العائلة تكمن في المساواة بين الجميع. ربما لم أكن محظوظة مثل البقية ولم أعش معه أياماً كثيرة، وربما فاته الكثير من مراحل حياتنا، ولكن له الفضل بكل ما نحن عليه. هو من أعطاني حريتي لكي أختار ما أريد، لم يفرض العادات والتقاليد علينا.
في البداية شعرتُ بالفراغ، ربما لم أبكِ، كنت أرى الحياة تنهار بأشكال مختلفة، أرى نفسي في محرقة جثث تنبعث منها رائحة الموت والحزن. لم أكن مستعدة لتلك اللحظة رغم أنه كان يصارع الموت، أخبرني الجميع أن الأسابيع القليلة الأولى ستكون الأصعب... اليوم بعد تسع سنوات من الرحيل يمكنني أن أجزم أنه منذ اليوم الأول لرحيله وحتى هذه اللحظة، لم يتغير حجم الوجع.
أصبح لدي الآن ما أسميه: "لحظاتي الدامعة"، عندما أرى أصدقاءه يرقصون في حفلات زفاف بناتهن، عندما أشم رائحة عطره على أحد المارة، عندما يسألني أحدهم لماذا قررت العمل في المجال الإنساني، تلك اللحظات كلها تذكرني أني فقدت الجبل الذي كنت أستند عليه.
أكثر ما أحاول إخفاءه هي حسرتي على فقدانه، لكن ملامح وجهي تفضحني في كل مرة أذكر اسمه، ربما حسرتي تأكلني لأني على يقين أنه منذ رحيله لن يكون هناك شي كما كان على الإطلاق. ولكن في كل مرة سأستجمع قواي، لأن أهم ما كان يريده هو ألّا أغرق في دوامة الظلام والحزن… وحتى في آخر لحظات حياته، طلب مني وأخواتي أن نتمسك بالسعادة في تفاصيل حيواتنا الصغيرة. كيف لذاك القلب أن يمتلك كل تلك الطاقة من الحب؟ كيف لرجل يعلم أنه يعيش آخر لحظات حياته وكل ما يفعله أن يذكرنا بالسعادة.
حاولتُ جاهدةً أن استمع لقصص من خسرن آبائهن وتضاربت القصص، إلّا أن أكثر ما لفتني أنه رغم اختلاف القصص، تشاركنا نفس الوجع، ولعل أكثر ما أذكره تلك التي قالت: "كان كتير قاسي وكنت أكرهو بس يا ريت بعده هون"
الحقيقة الموجعة هي أن ليس كل الآباء هم كما تتمنى بناتهم، هناك من حاول أن يلبس دور الأب النمطي، والذي يخجل أن منح بناته العاطفة، وهو أيضاً ضحية منظومة مجتمعية أبوية ترى العاطفة ضعفاً
قد يتساءل البعض ما الفرق الذي قد يحدثه صوت رجل لم يكن ذو أثر في حياتنا، مثلما أفعل هنا وأحكي عن والدي، حتى نتمسك بصوته بعد مماته. صدقوني أنه يعني الكثير الكثير حقاً، فعلى الرغم من تلك الصورة "المألوفة" للأب وللأسف، باعتباره مستبداً ومتسلطاً، إلّا أن آباء كثيرين اليوم باتوا يقتربون أكثر من بناتهن، خصوصاً لدى جيل الشباب، حيث أنهم يعلمون أن الأبوة لا تعني التسلّط وفرض القوانين بالقوة، وأن دورهم لا يقتصر فقط على توفير الاحتياجات المادية، فيعودون إلى قواعد الأبوة السليمة.
لكن الحقيقة الموجعة أن ليس جميع الآباء هم كما تتمنى بناتهم، هناك من حاول أن يلبس دور الأب النمطي، ذاك الذي يختصر دوره فقط في تأمين حاجات الأسرة، والذي يخجل أن يعطي أولاده تلك العاطفة، وهو أيضاً ضحية منظومة مجتمعية أبوية ترى العاطفة ضعفاً. وهناك من الآباء من لم يكن لوجوده أي معنى في حياة بناته، فتمنين رحيله أو عدم الحديث عنه، علهن ينسين الأسى الذي سببه وجوده.
الخسارة شي مؤلم فكيف لنا أن نشرح خسارة الأب؟ حتى اللواتي عشن تجارب أليمة مع آبائهن، منهن من فضّلن وجوده مع كل قساوته رغم غيابه… ولهذا تفسيرات عديدة اجتماعية ونفسية أيضاً. أخبرتني حنان إنها تتخيل والدها بكل مواقف حياتها، وتتمنى لو يعود بها الزمن لكي تعيش معه تلك الأوقات التي تلتمس فيه الحنان والحب منه، رغم أنها لم تتخط المرات القليلة، فأصبحت الآن تتخيل حياتها مع الشريك الذي اختارته أن يكون أباً لبناتها كحياتها مع والدها، هي التي بحثت عن رجل لديه ملامح تشبه والدها. الآن مع مرور الوقت لو كان والدها موجوداً لأخبرته أنه لم ينقصها شيء سوى المزيد من العاطفة، وهذا ما ستعلّمه لزوجها كي تبقى ذكرياته ترافق يوميات بناتها بكل تفاصيلها.
وبالعودة الى أبي، فقد مرت تسع سنوات على وفاته، يشبه الحزن التجوال في حقل ألغام، مهما تدوس بعناية فقد يحدث تفجير مفاجئ يأتي من العدم، يمكن أن يكون الحزن هو تلك القوة الشريرة التي تأكل أجزاء منك، هو ذاك الجرذ الصغير الذي يدخل إلى أعماقك وينهش.
ليس لدينا أي فكرة عما إذا كانت ثقافتنا التي تربينا عليها ستتعامل مع الموت بالطريقة الصحيحة أم لا، تلك الفكرة التي زرعوها في عقولنا منذ الصغر أن الموتى يعيشون في أولئك الذين تركوهم وراءهم تجعلني أنزعج بشكل كبير، لكن ربما هذا صحيح، نحن جزء منهم، جزء من أولئك الذين نحبهم ورحلوا.
بعض التجارب تجعلنا أقوى، يمكن أن تجعلنا أكثر لطفاً وأكثر تقديراً للحياة. بعض التجارب تجعلنا نندهش من قوتنا، تدهشنا أننا استطعنا الاستمرار رغم كل الألم والوجع. وهذا شي يجعل أولئك الذين رحلوا يشعرون بالفخر.
الحزن على فقدان الأب عملية صعبة وشاقة تستنزف طاقتنا، تجعلنا لا نرى الضوء في نهاية النفق رغم وجوده. لكلّ من مر بهذه التجربة أو من يمر بها الآن... كل التعازي لقلبك الذي ينزف، إذا كنت تخطيت ذلك يمكنك فعل أي شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com