كان الروائي عبدالله البصيص في الصف الأول الابتدائي عندما استعار كتاباً للمرة الأولى من مكتبة المدرسة. استمر في الاستعارة حتى الصف الثالث الابتدائي، وقتها أضاع كتاباً استعاره قبلها أسبوعين.
أمين المكتبة هدده بالضرب إن لم يُعده، فلم يدخل المكتبة من يومها، وصارت بالنسبة له مثل الفردوس الذي طُرد منه آدم. يضيف لنا: "ربما هذا سبب حبي لمكتبتي وخوفي من فقدان كتبي، فلا أعير كتاباً أحببته لأحد أبداً".
حكاية الكاتب الكويتي تحيلنا لقول الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس" "أنا الذي تخيلت الجنة دوماً على شكل مكتبة"، وكأن صُحبة المكتبة ومؤانستها خيط يجمع محبي القراءة. مع الوقت، يمسي الكتاب جزءاً أصيلاً من المكان، يصعب التخلي عنه، بل ويعتبرون تبادل الكتب –إعارة واستعارة- ممارسةً غير مقبولة. ثمة أشخاص أكثر مرونة يتبادلون كتبهم مع المحيط والمقربين، وآخرون لديهم حكايات استثنائية حول إعارة الكتب واستعارتها، نرويها في السطور التالية.
يذهب ولا يعود
عبر سنوات شكّل الكاتب عبدالله البصيص صداقة وطيدة مع كتبه، ليحتفظ بها ولا يتبادلها مع أحد"، فتبادل الأصدقاء فعل غير إنساني"، يقول لرصيف22.
لما طيارة، ناقدة وصحفية سورية حائزة على الدكتوراه في الإعلام، فالأمر الطبيعي أنها محاطة بكتب الإعلام والمسرح والسينما، هي أيضاً قلما تعير كتبها لأحد: "أحياناً، وعندما أكتب عن رواية أو كتاب يُطلب مني، ونادراً ما ألبي، سيذهب الكتاب دون عودة، وإن عاد سيكون بعد الكثير من التذكير والإلحاح. هذا التشبّث بالكتاب ليس دليل اهتمام به بقدر ما هو استهتار بإعادته، كما هو رائج في عالمنا العربي، الاستهتار بأي شيء يُستعار لدرجة أن صاحبه قد ينساه أو يتخلى عنه مرغماً".
إعارة الكتب ليست عادة منتشرة في سورية، تعلل بأن غالبية الشعب السوري ليس قارئاً، كذلك عجلة الحياة تستهلكه، فيتسرب الوقت دون أن يكون للكتاب أية مساحة. "كنت في صغري أتبادل الكتب مع أطفال آخرين، بينما اليوم لا أفعل. أشخاص محدودون وموثوقون هم من يستعيرون بعض كتبي".
"تشبُّثُ المُستعير بالكتاب ليس دليل اهتمام به بقدر ما هو استهتار بإعادته، كما هو رائج في عالمنا العربي، الاستهتار بأي شيء يُستعار لدرجة أن صاحبه قد ينساه أو يتخلى عنه مرغماً"
يقف الكاتب المصري مُحب جميل على عتبة مقابِلة، ويتبادل الكتب مع دائرة أصدقائه المقربين، جرت العادة أن يسأل أحدهم عن عنوان بعينه فيسعى آخر من ذات الدائرة لتوفيره: "يفتح لي الأصدقاء المقربون مكتباتهم طوال الوقت، ولا يبخلون بما تحتويه، وهو ما اعتدت أيضاً فعله. خاصة إذا كانت حاجة الصديق جديّة للحصول على الكتاب، فلا أتردد أبداً".
كذلك لدى الشاعر المغربي سفيان البالي مجموعة أصدقاء يتشاطر وإياهم الشغف بالكتاب والثقافة، فيستعير منهم ويعيرونه أثناء الزيارت المتبادلة أو لقاءاتهم في المقاهي والأماكن العامة. يضيف لرصيف22 أنهم قلة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، و"واحد منهم فقط له البطاقة البيضاء للاستعارة من مكتبتي ما يشاء".
يلفت إلى المشاكل التي يعانيها قطاع توزيع الكتب بالعالم العربي فيما يتعلق بالترويج للكتاب والتركيز على ما يُعتبر الأكثر مبيعاً، "ما يغيّب السواد الأعظم من العناوين عن رفوف المكتبات العامة، ويدفع القارئ للتوجه نحو مكتبات معارفه وأصدقائه بحثاً عن الكتب المفقودة. بالتالي النشاط الطبيعي والتلقائي لكل قارئ عربي، تبادل الكتب مع الآخرين".
"يستعير أحدهم الكتاب للفت النظر وليس بهدف القراءة، ليبقى الكتاب عنده ويتراكم الغبار عليه دون لمسه أو عودته لصاحبه. بيننا العديد من هذه النماذج"
حواشي ورماد وقهوة
بوضوح وشفافية يعير مُحب جميل الكتب لأصدقائه: "إذا كان الكتاب نادراً أو ليس لدي منه سوى نسخة واحدة فإنني أُذّكر من استعاره بإعادته بعد فترة كافية. ومؤخراً بدأت أهدي الكتب المكرّرة في مكتبتي للأصدقاء المقربين. يحدث أيضاً أن نتبادل العناوين، أحضر للصديق عنواناً ما فيبادلني بآخر".
عودة الكتاب أمرٌ عسير، شأنها شأن إعارة أي شيء ذي قيمة، يؤكد سفيان البالي ويضيف: "بيني وأصدقائي تتم بشكل تلقائي ولا سر في هذا، كون لكل واحد منا لدى الآخر عنواناً قيماً يخاف عليه. لا أنفي وقوع حوادث، كأن تختفي كتب داخل مكتبة أحدنا مصادفة، هذا يعطينا الحق أن تختفي كتبه في مكتباتنا بالمقابل، في لعبة تكتنفها روح التشارك الرفاقية أكثر من السرقة عن سبق الإصرار والترصد".
عبر سنوات شكّل الكاتب عبدالله البصيص صداقة وطيدة مع كتبه، ليحتفظ بها ولا يتبادلها مع أحد، "فتبادل الأصدقاء فعل غير إنساني". مثقفون يتحدثون عن إعارة الكتب واستعارتها
لا يتردد الشاعر المغربي في طي أطراف صفحات الكتاب ويخطط عليه حواشي واقتباسات، كما حصل أن لطخت صفحات كتبه بقع قهوة أو رماد سجائر. يعتبر هذا جزءاً من العلاقة الحميمة مع الكتاب، لذلك يتحاشى قدر الإمكان استعارة الكتب، وإن حصل يكون الضغط أكثر كيلا يدع عليها أي أثر قد يصيب صاحبها بخيبة.
"إعارة الكتب ليست من عادتي، لا أطلبها من أحد، وعندما أرغب بقراءة كتاب أتوجه للمكتبة وأشتريه، كذلك لا أُعيرها إلا في الحدود الضيقة جداً"، تقول الصحفية المصرية إيمان علي، وتستثني صديقة لها، طبيبة تثق بذائقتها، فتطلب منها بعض العناوين كل فترة لتردها فور الانتهاء من قراءتها.
استثناء آخر في استعارتها للكتب، تحكي عبره قصتها مع مكتبة والدها بشغف وفخر واضحين: "مكتبة والدي المكان الوحيد الذي أستعير منه الكتب، أقرؤها وأعيدها وفقاً للقواعد الواجب اتباعها للإعارة، والتي تحافظ على الكتب وتحفظ الودّ بيننا. أتعامل بصرامة معها لأني أقدر علاقة أبي بها.
على مدار عقود شكل والدي مكتبته المميزة والنادرة، ليس عبر شراء الكتب فقط، بل كان يقتني محتوياتها عبر المزادات وأسواق الكتب المستعملة ومكتبات الراحلين، على رفوفها طبعات أولى لكتب لم تعد موجودة، أبحاث نقدية وقواميس وكتب في التراث والأدب".
"مكتبة والدي المكان الوحيد الذي أستعير منه الكتب، أقرؤها وأعيدها وفقاً للقواعد الواجب اتباعها للإعارة، والتي تحافظ على الكتب وتحفظ الودّ بيننا، أتعامل بصرامة معها لأني أقدر علاقة أبي بها"
عبء وخديعة
لا تملك إيمان مكتبة بالشكل المعروف للمكتبة، بيتها مليء بالكتب الموزعة في الأنحاء، حتى أن بعضها خزّنته تحت الأسرة، تدثرها بالأغطية خوفاً عليها من الأتربة. لعل هذا الحرص هو سبب استيائها من تبادل الكتب –إعارة أو استعارة- تعتبره أمراً ثقيلاً ويُشعِر بالعبء حول مصير الكتاب. وإن تم فيجب أن يكون منظماً ووفق اتفاق واضح وصارم، حتى بين الأصدقاء، فالتساهل يسبب المشاكل، "الموضوع غير محكوم بين الأصدقاء ما يولد التسيب والإهمال، أمرٌ مررت به عند إعارتي بعض الكتب لأحدهم".
غير بعيدٍ عنها، تؤكد لما طيارة أن إعارة الكتب تكون أحياناً خديعة للتباهي ورسم صورة المثقف ليس إلا: "يستعير أحدهم الكتاب للفت النظر وليس بهدف القراءة، ليبقى الكتاب عنده ويتراكم الغبار عليه دون لمسه أو عودته لصاحبه. بيننا العديد من هذا النموذج".
رغم أن ثمة عناوين في مكتبة سفيان البالي لا تبرح مكانها لمُستعير، يرى أن إعارة الكتب جزء من اجتماعية الإنسان وجبر الطبيعة في أنه محكوم بالتواصل مع الآخر، عبر الكتب أو وصفات الطعام أو الصور الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
"بطبيعة الحال شرط وجود الكتاب هو أن يُقرأ، لا أن يزين رفوف المكتبات. في بعض المرات أدخل بيوتاً لأقارب أو أصدقاء تزين صالوناتها مكتبات فارهة وضخمة، مؤثثة بمجلدات غالبها دينية كتبت عناوينها بخطوط مذهبة -أظن أن هذا المشهد شائع في العالم العربي- وأنا أعرف أن علاقة أهل تلك الدار بالكتاب أو الثقافة هي نفس العلاقة التي تجمع هرة الحي بحل معادلة رياضيات، هناك الكثير ممن يتعاملون مع الكتاب بهذا المنطق"، يقول البالي.
محب جميل الذي يفضل القراءة في هدوء تام بعيداً عن المكتبة، لأن عناوين الكتب المرصوصة تشتت انتباهه، يعتبر أن تبادل الكتب أمر وارد وتفرضه الظروف أحياناً: "قد يحتاج صديق أو شخص ما لكتابٍ لأمر مُلح أو ظرف طارئ، ويحدث أن الوقت لا يكون سانحاً لذهابه إلى المكتبة. ولا بد أن يحرص الكاتب على إيداع نسخة من كُتبه في المكتبات أو يوصي بأن تنتقل كتبه في نهاية المطاف إلى رفوف المكتبات العامة لتكون متاحة للجميع".
استعارة الكتب أمر ثقيل ويُشعِر بالعبء حول مصير الكتاب. وإن تم فيجب أن يكون منظماً ووفق اتفاق واضح وصارم، حتى بين الأصدقاء
افتتان الكتاب وأوقاته
شغف القراءة والافتتان بالكتاب، يجمع الأصوات السابقة، جميعهم حريصون على محتويات مكتباتهم، ويعيشون في ظلّها أوقاتهم الخاصة.
إلى جانب مكتبة لما طيارة المتخصصة، تقف مكتبة والدها الغنية والمنوعة، تفخر بها وتحرص على محتوياتها. رغم ثقل الحياة الذي يلتهم يوميات السوريين، تخطف بعض الوقت ليلا لتقرأ: "الليل يمنحني الهدوء والمتعة والمزاج المناسب، خاصة لقراءة كتب المسرح، أتكيف مع قطع الكهرباء الدائم، بالمطالعة عبر اللابتوب أو الآيباد، وأرجئ متعتي مع الكتاب الورقي لوقت لاحق".
إيمان أيضاً بَنت علاقة خاصة مع مكتبتها التي اقتنت كتبها بتأنٍ ووعي، تجلس برفقة الكتاب صباحاً وخلال النهار، تتفاعل مع شخوصه لدرجة أنها تؤديها بصوت جهوري عالي خلال القراءة. تقول إن علاقتها الحميمة مع الكتاب سببها مكتبة والدها، "تلك الأرفف منحتني الاكتفاء وجعلتني أكثر حرصاً وعلمتني أن الكتاب ليس مجرد باقة من الورق أستطيع شراءها وقتما أشاء، الكتاب قيمة وكيان عزيز والتفريط به ليس أمرا هيناً.
يمتلك سفيان البالي مكتبة متضمنة حوالي 130 عنواناً، يحدثنا أنه اتجه منذ سنوات للكتاب الإلكتروني، ويشجع على ذلك معللاً أنه أسهل توفراً وأكثر صداقة للبيئة، يقرأ في أي زمان أو مكان ولا يشترط وجود موسيقى أو قهوة كي يسعد بالقراءة، تكفيه صحبة الكتاب، ليذكرنا بقول الروائي السوري خليل صويلح في إصداره "ضد المكتبة": "القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة، اقرؤوا من أجل متعتكم، ولأجل أن تسعدوا فهذه هي الطريقة الوحيدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...