منذ فجر الأسطورة قبل التاريخ المكتوب، وثّـقت مصر القديمة، المسماة خطأ بالفرعونية، روايات الانتصار، صيغة عابرة للعصور والأديان، ولعل أقدم رواية رسمية للنصر، في التاريخ، مصدرها أسطورة إيزيس وأوزير وابنهما حورس، البطل المنتصر على عمّه سِت، إله الشر في العقيدة المصرية.
رواية حورس المنتصر وثقها نقش بارز على لوحة حجرية للملك المتوّج شامخاً، يطعن سِت، في هيئة ثعبان. وكعادة المؤرخين والفنانين في توثيق روايات المنتصرين، تجسد منحوتة في المتحف المصري بالقاهرة حورس، برأس صقر، يطعن رمز الشر سِت، ممثلاً في هيئة تمساح يقبع بين قوائم حصان يمتطيه حورس. ومحاكاة لحورس جاءت أيقونة الشهيد مار جرجس يطعن التنين، للخلاص من شروره.
في زمن لاحق نُسخ الأصل، اسلتهمته تصاوير الفارس أبي زيد الهلالي، بطل السيرة السعبية. وبين الثلاثة، حورس ومار جرجس وأبي زيد، اختلافات في التفاصيل، وفي مواد التوثيق. حورس، كما يليق بإله، لا يتنازل عن خلوده على الحجر. وأيقونة مار جرجس تكتنز الدلالة، وتضيف عناصر من بيئتها.
هشاشة المنتصرين نصراً غير أخلاقي تفرض رواية رسمية، وتمنع أخرى: راوية إيشمان عن التحالف النازي الصهيوني. رواية صدام حسين عن التخلي الأمريكي. رواية معمر القذافي عن قادة عرب وغير عرب ممن أغدق عليهم
والوصول إلى أبي زيد الهلالي، وغيره من أبطال السير الشعبية، ينزل بالمعنى ليمشي بين الناس، وَشْماً على الوجوه والسواعد، "وعلى الزَّند أبو زيد سلامة ممسكاً سيفاً، وتحت الوشم نبش كالكتابة"، ورسْماً على الجدران، لعله الأصل التلقائي لرسوم الجرافيتي الحالية. أما ملوك مصر، من مينا إلى رمسيس، فتوارثوا العروش والانتصارات، وسجلوها تسجيلاً يستعصي على المحو.
فالملك نعرمر (نارمر) يواجه زائر المتحف المصري بالقاهرة، بنقش بارز على حجر الشيست البركاني الصلد يخلّد مؤسس الأسرة الأولى (3100 قبل الميلاد تقريباً)، وهو يؤدب عدوه. هذا التصميم عبر الأزمنة، وانتقل من نقش على صلاية، وهي وعاء حجري تُدقّ فيه التوابل، إلى محافظة الأقصر الجنوبية، محفوراً في جدار معبد هابو، الخاص برمسيس الثالث (نحو 1198 ـ 1166 قبل الميلاد)، آخر الملوك المقاتلين، في نهايات ما يسميه علماء المصريات عصر الإمبراطورية المصرية (1567 ـ 1085 قبل الميلاد). بهذا التوثيق يضمن الملوك صيانة تاريخهم، الحقيقي أو الزائف. فالزعماء المهزومون تلاحقهم اتهامات تطعن في وطنيتهم، ومن الضحايا أحمد عرابي الذي أنقذته ثورة 1952.
في فيلم "العملية الأخيرة"، إخراج كريس ويتز، يرهق أدولف إيشمان آسريه في الأرجنتين، يريدون توقيعه، ليتمكنوا من إخراجه إلى تل أبيب، وتتأكد له عواقب المحاكمة، فيقول لضابط الموساد بيتر مالكين إن اثنين من زملائه في معسكرات الإبادة استسهلا اتهامه كهارب؛ لكي يفلتا من حبل المشنقة. والضابط يغريه: "ادحض مزاعمهما، تعال إلى إسرائيل، برّر أفعالك للعالم"، فيسخر إيشمان، بأداء متمكن من الممثل بن كينجسلي، قائلاً: "أفضّل الموت عن أن يسرد تاريخي بالطريقة التي قد يودّها أحد آخر". يكرر الضابط: "يمكنك سرد روايتك الحقيقية". ويوقن إيشمان باستحالة ذلك. إنه رجل يقبل مصيره، فالموت ينتظره في إسرائيل، ولا تخيفه إلا رواية تزيف تاريخه.
يختتم أستاذا الأدب الفرنسي إيمانويل فريس وبرنار موراليس كتابهما المشترك "قضايا أدبية عامة"، ترجمة الدكتور لطيف زيتوني، بهذا السطر: "أن أقرأ، أن أقرأ الآخر، معناه دائماً أن أعيد تحديد ذاتي".
وفي كتابه "مبارك وزمانه... من المنصة إلى الميدان" (2012)، ذكر محمد حسنين هيكل حكاية دالة، وهو يجهز لكتابه "حرب الخليج" (1992)، إذ اتصل به حسني مبارك، بعد انقطاع طويل، وسأله مباشرة عن صحة ما نشرته الصحف عن سفره، لمقابلة الملك حسين، وقال لهيكل إن الملك سيكذب عليك. وبعد عودته إلى القاهرة اتصل به مبارك، وعرض عليه الإطلاع على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج، وأرسل الدفعة الأولى مع مصطفى الفقي سكرتير الرئيس للمعلومات. وبدأ هيكل قراءة الدفعة الأولى، ولم يكمل؛ فالملفات تبدو "مكتوبة بأثر رجعي"، بعد الحرب، "محررة بتوجيه، لكي ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!!".
من موقع السلطة يريد الحاكم، بما يملكه من نفوذ، أن يرسم صورة مثالية عن نفسه، والتاريخ من أسفل لا ينسى. يذكر هوارد زِن، الملقب بمؤرخ الشعب الأمريكي، في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، أن بيل كلينتون واجه، أثناء حملته الانتخابية، اتهاما بتفاديه أداء الخدمة العسكرية أثناء حرب فيتنام، "مثل شباب آخرين كثيرين كانوا يعارضون هذه الحرب. وبعد دخوله البيت الأبيض بدا كلينتون مصمماً على مسح صورته كهارب من تأدية الخدمة العسكرية، وكان يغتنم أية فرصة لكي يصور نفسه مؤيداً صميماً للمؤسسة العسكرية"، وبعد عامين في السلطة، أقام حفلاً، وأعلن زيادة الإنفاق العسكري بمقدار 25 مليار دولار في السنوات الست التالية.
هشاشة المنتصرين نصراً غير أخلاقي تفرض رواية رسمية، وتمنع أخرى: راوية إيشمان عن التحالف النازي الصهيوني. رواية صدام حسين عن التخلي الأمريكي. رواية معمر القذافي عن قادة عرب وغير عرب ممن أغدق عليهم. الأمريكان سمحوا بعناوين عمومية من جلسات محاكمة صدام. وأُخرس القذافي؛ تفادياً لثرثرته.
المهزومون هم الآخرون، جحيم قد تمس نيرانه طرفاً من ثياب المنتصرين، فيعيد القراء النظر في الرواية الأولى، وينقضونها بعد رؤية مصححة للذات، عبر الآخر، هكذا يختتم أستاذا الأدب الفرنسي إيمانويل فريس وبرنار موراليس كتابهما المشترك "قضايا أدبية عامة"، ترجمة الدكتور لطيف زيتوني، بهذا السطر: "أن أقرأ، أن أقرأ الآخر، معناه دائماً أن أعيد تحديد ذاتي".
تحت وطأة المصالح والشعور بالذنب، لا تريد أوروبا الرسمية "تحديد الذات"، فتستسهل المنع. قيام كارهي المسلمين بحرق القرآن حرية رأي يكفلها القانون. ولا يأبهون لمن ينكر وجود الله. لكنهم يحاكمون من يجرؤ على إنكار الهولوكوست، أو يشكك في عدد ضحاياه من اليهود
تحت وطأة المصالح والشعور بالذنب، لا تريد أوروبا الرسمية "تحديد الذات"، فتستسهل المنع. قيام كارهي المسلمين بحرق القرآن حرية رأي يكفلها القانون. ولا يأبهون لمن ينكر وجود الله. لكنهم يحاكمون من يجرؤ على إنكار الهولوكوست، أو يشكك في عدد ضحاياه من اليهود. وبعد محنة روجيه جارودي، ازداد الأمر إرهاباً، نتيجة لطوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ففي فرنسا منع كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه. دار فايار، التي نشرت الكتاب وتوزعه منذ عام 2008، سحبته بحجة انتهاء العقد مع المؤلف، في شباط/فبراير 2022. وقيل إن السبب الحقيقي هو ارتفاع مبيعات الكتاب، منذ بداية العدوان على غزة.
كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لمؤرخ إسرائيلي ينقض الرواية الرسمية لقيام إسرائيل باعتباره استقلالاً، ويرى أن للضحايا رواية أخرى، عن سنة 1948، اسمها "نكبة" شعب له تاريخ، وتعرض لإبادة وتطهير عرقي. بلد فولتير ارتكب جرائم حرب في الجزائر، ويرفض الاعتذار عنها، وفي سجلات الجرائم الفرنسية تفاصيل أخرى، وقد قرأت عن منع فرنسا نشر كتاب "في قلب الدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا"، في كانون الثاني/يناير 2024، عن مؤامراتها في النيجر، بشهادة مؤلف الكتاب سيلفان إيتي، السفير الفرنسي في النيجر بين عامي 2019 و2022. لعل هناك تاريخاً غير أخلاقي مارسته فرنسا، يؤثق الكتاب خفاياه، وآثاره العسكرية والاقتصادية. بؤساء ما بعد الكولونيالية تخيفهم روايات الضحايا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...