شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تبدّلات في سلوك الدلافين في سوريا... هل التغيّرات المناخية هي السبب؟

تبدّلات في سلوك الدلافين في سوريا... هل التغيّرات المناخية هي السبب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأحد 26 مايو 202412:56 م

"قبل عدة سنوات كانت رؤية هذا المخلوق الجميل تدخل السعادة لقلوبنا، ونتسابق لتصويره واللعب معه، ولكن اليوم باتت رؤيته تعني لنا الخسارة"، يتحدث صياد في مدينة بانياس السورية عن الدلافين، موضحاً أن أعدادها باتت تزداد بشكل غير مألوف في السنوات الأخيرة.

يرفع الصياد أحمد جميل، الشهير بلقب العتيق، شباكه الممزقة، ويقول إن هذه الثقوب الكبيرة سببها الدلافين النهمة للطعام، والتي وجدت في ما يجمعه الصيادون وسيلة سهلة للحصول على حاجتها من الأكل من دون عناء، والأصعب مع هذا الكائن أنه ذكي جداً، ما يعني أن صيده عملية مستحيلة، كما أنه محظور بموجب القانون.

وبحسب بمبادرة مسح الحوتيات عام 2019، تعتبر الدلافين من الحيوانات المستوطنة في سوريا، كما تأتي لهذه المياه دلافين مهاجرة من مياه أخرى ضمن المتوسط، وهذه الكائنات محمية بموجب اتفاقية حفظ حوتيات البحر المتوسط التي وقعت عليها سوريا، كما يوجد قانون محلي يوفر لها الحماية، وهو قانون رقم 11 لعام 2021 الخاص بإحداث الهيئة العامة للثروة السمكية والأحياء المائية.

اليوم باتت رؤية الدلافين تعني لنا الخسارة، بعدما كان يدخل السعادة لقلوبنا.

ويوضح جميل لرصيف22 أنهم كانوا يصادفون الدولفين مرة أو مرتين في السنة، ولكن اليوم بات يظهر بأعداد كبيرة، وسبّب خسارة له بالشباك هذا العام تفوق قيمتها خمسة ملايين ليرة (نحو 350 دولاراً).

ولا يعرف الصياد السبب الرئيسي لزيادة أعداد الدلافين في المياه السورية، ولكنه يعتقد بأن التغيرات المناخية لعبت دوراً، وكذلك قلة أعداد الأسماك بسبب تناقص المغذيات الخاصة بها، إلى جانب الصيد المخالف والجائر من خلال الديناميت وقوارب الجرف وغيرها، وكل ذلك يدفع بالدلافين النهمة للاستماتة في البحث عن غذاء لها، فاهتدت لشباك الصيادين.

وعلى الشاطئ حيث يقف أحمد، يتشارك مع صيادين آخرين مهمة صيانة الشباك ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه منها، ويتخلل عملهم انتقادات للدلفين وتناقل أحاديث عن حلول تمارسها دول أخرى لمحاربة هذه الظاهرة، وهي أحاديث لا تخلو من الشائعات.

بحر ممتلئ

في مدينة جبلة القريبة لم يكن الوضع أفضل، فرئيس جمعية الصيادين هناك، سميح كوبش، خسر شباكاً تقدّر قيمتها بسبعة ملايين ليرة، مزقها الدولفين بالكامل وسرق منها الأسماك، ويصف الوضع بالقول: "البحر ممتلئ الآن بالدلافين".

ويشرح أنه في الماضي كانت أعدادها تزيد في المياه السورية خلال الربيع أثناء تكاثر السردين، كما أن الدلفين يتبع سمكة الرنجة التي يحبها، لكن لاحقاً استقر في المنطقة واعتمد التنويع في طعامه، فهو يأكل حالياً الجمبري وأي شيء يستطيع الحصول عليه من الشباك أو بجهده الخاص، وبالتالي يؤثر على رزق الصيادين، كما أنه يقترب من الشباك كي يحصل على طعامه بدون عناء، فيمزقها ويلتهم ما بداخلها.

تبدّلات في سلوك الدلافين في سوريا... هل التغيّرات المناخية هي السبب؟من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً

من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً - رصد الدكتور علاء الشيخ أحمد

لم نكتفِ بمشاهدات صيادي جبلة وبانياس، وتابعنا القضية في اللاذقية، فكان الكلام ذاته والوضع غير مختلف، ويقول رئيس جمعية الصيادين هناك نبيل الفحام، إنها السمكة الوحيدة التي لا تؤكل لأن لحمها دهني، كما أنه حيوان غير عدائي، لذلك لا يمكن أن يؤذيه أحد، فهو يلعب مع الصيادين ويقترب من البشر، لكنه يبحث عن رزقه ولا يعرف بأنه يضرّنا في الشباك.

ويؤكد الفحام لرصيف22 موضوع زيادة الأعداد، فمنذ دخل المهنة عرف بوجود هذه الحيوانات، وكانت تظهر في فترات متباعدة جداً ولطالما أطعمها بيده، ولكن الأمر اختلف في السنوات الأربعة الفائتة، فأعدادها اليوم في ازدياد.

تراجع عالمي

عموماً، وفي كثير من أنحاء العالم، تشهد الدلافين تراجعاً في أعدادها، وفي بعض المناطق هي مهددة بالانقراض نتيجة عوامل مثل الصيد الجائر غير المقنن، وفي مناطق أخرى عانت من حالات نفوق جماعي، مثلما حدث في البرازيل في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت حينما عُثر على مئة دلفين نهري نافق تعرضت للحرارة والجفاف الشديدين في نهر الأمازون.

في الماضي كانت أعداد الدلفين تزيد في المياه السورية خلال الربيع أثناء تكاثر السردين، لكن لاحقاً استقر في المنطقة واعتمد التنويع في طعامه، كما أنه يقترب من الشباك كي يحصل على طعامه بدون عناء، فيمزقها ويلتهم ما بداخلها

وتتحدث تقارير عن تراجع كبير بأعداد الحياة البرية حول العالم في الخمسين عاماً الأخيرة، ومنها الدلافين والحيتان والأسماك، ويشير تقرير نشرته بي بي سي عام 2018 إلى أنه "كل عام ينفق قرابة 600 من خنازير البحر والدلافين والحيتان على السواحل البريطانية".

وفي البحر المتوسط، كان الدلفين قصير المنقار شائعاً بكثرة، وحتى أوائل السبعينيات، كان واحداً من أكثر الأنواع وفرة في مياه هذا البحر، ولكنه شهد منذ ذلك الحين انخفاضاً كبيراً وصل إلى حد الاختفاء التام. وكانت حملات الإعدام المنظمة في العديد من دول المتوسط عاملاً أساسياً في ذلك، إذ كان يُنظر إلى الدلافين على أنها منافسة للأسماك واعتبرت بمثابة "آفات".

ولكل هذا قد يبدو غريباً ما يتحدث عنه الصيادون في سوريا، ويشرح لرصيف22، الدكتور علاء الشيخ أحمد مدير فرع الهيئة العامة للثروة السمكية والأحياء المائية في الساحل السوري، أنه أصبح معروفاً في العقود الأخيرة زيادة حدة التدهور في النظم البيئية البحرية والساحلية وتدهور مكوناتها الحية وغير الحية على مستوى العالم.

تبدّلات في سلوك الدلافين في سوريا... هل التغيّرات المناخية هي السبب؟من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً

من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً - رصد الدكتور علاء الشيخ أحمد

ويتابع المتحدث: "بسبب الضغوط البشرية المتنامية والمشاكل البيئية المتزايدة من تغيرات مناخية وتلوث وسواهما، فإن قدرة النظم الطبيعية على ترميم نفسها والمحافظة على مكوناتها الحية وغير الحية تتضاءل مع مرور الزمن، ويبدو الأمر أكثر خطورة في منطقة حوض البحر المتوسط، ولا سيما مع الزيادة المطردة في نمو المدن الساحلية وما يرافق ذلك من ملوثات بأشكال مختلفة".

وتلعب الثدييات البحرية دوراً مهماً في التوازن البيئي، ولهذا أدى تناقص أعداد الحيتان والدلافين وغيرهما في البحر المتوسط في الوقت الحالي، لتأثير سلبي على الشبكات الغذائية وسلاسلها الغذائية المختلفة، وتالياً تغير قوام معظم النظم البيئية في المنطقة، وفق حديثه.

ويفسر الخبير كلام الصيادين بخصوص رؤيتهم المتكررة لهذه الدلافين، في وقت يشهد العالم فيه تراجعاً بأعدادها، ويرى أن الأمر متعلق بمرورها أثناء هجرتها إلى مناطق بيئية أخرى أكثر ملائمة بسبب التغير المناخي، أو بحثها عن مصادر غذاء في الكثير من الأماكن بسبب قلة وفرة الغذاء مقارنة بالسنوات السابقة، وخلال بحثها المستمر أصبحت تُشاهد أكثر من قبل الصيادين.

تبدّلات في سلوك الدلافين في سوريا... هل التغيّرات المناخية هي السبب؟من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً

من الدلافين التي تظهر على الشواطئ السورية مؤخراً - رصد الدكتور علاء الشيخ أحمد

اجراءات احترازية

يشير الدكتور الشيخ أحمد إلى أن زيادة مشاهدة الدلافين في الشواطئ السورية لا تعني بالضرورة كثرة أعدادها، ولكن ذلك يعني أننا أمام ظاهرة تحتاج للدراسة ومعرفة أثر التغير المناخي عليها في بيئتنا البحرية.

ويعلق بأن الدلفين لا يهاجم البشر، وهو من أهم الكائنات البحرية المحببة للإنسان والصيادين، وأماكن سباحته ووجوده المعتادة تكون على أعماق أكبر من مكان وضع شباك الصيادين، وقليلاً ما يرصد في أماكن وضع الشباك.

ويتابع: "الصيد العرضي للدلفين ووقوعه في شباك الصيد يكون بسبب أن الصيادين يضعون الشباك العالية الارتفاع التي تمتد لأكثر من خمسة أمتار ارتفاعاً في عمود المياه، ولمسافات طولية تمتد أحياناً لألف متر أو أكثر، وبالتالي تصبح هذه الشباك كالحواجز المائية، والحل يكون باستخدام وسائل صيد مناسبة، فلا توضع بارتفاعات كبيرة، وأن تستخدم الشباك العائمة في أوقات معينة، إذ يجب عدم وضعها في الليل كي يتمكن الدلفين من رؤيتها وعدم الوقوع فيها".

زيادة مشاهدة الدلافين في الشواطئ السورية لا تعني بالضرورة كثرة أعدادها، ولكن ذلك يعني أننا أمام ظاهرة تحتاج للدراسة ومعرفة أثر التغير المناخي عليها في بيئتنا البحرية

وينوه إلى أن موسم وجود الدلفين في مياهنا الاقليمية يكون مع اقتراب ودخول أسراب السردين صيفاً إلى سواحلنا. أما مشاهدات اقترابه من شباك الصيادين للتغذي على الأسماك العالقة فيها، فهي نادرة في مياهنا البحرية، وفق رصده.

من الميناء اليوغسلافي في مدينة اللاذقية أنهيتُ جولتي، حيث جلس أحد البحارة يحيك شبكته المتمزقة، لم يتردد في شتم هذه الحيوانات الجميلة، وهو يتحسر على شبكة كلفته الملايين، قضمتها أسنان الدلفين ومزقت معها صيداً ثميناً كان يحلم بحمله لسوق السمك وبيعه.

لا يملك هذا البحار وغيره أي أمل بحل لمشكلتهم، خاصة أن هذا الحيوان ممنوع صيده، وهو حيوان ذكي لا يمكن أصلاً صيده بسهولة، وليس أمام البحارة سوى الصبر والدعاء بعدم مصادفة الدلافين خلال رحلات صيدهم، أو ازدياد الأسماك في البحر المتوسط كي يشبع الجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

البيئة هي كل ما حولنا، وهي، للأسف، تتغير اليوم باستمرار، وفي كثير من الأحيان نحو الأسوأ، وهنا يأتي دورنا كصحافيين: لرفع الوعي بما يحدث في العالم من تغييرات بيئية ومناخية وبآثار تلك التغييرات علينا، وتبسيط المفاهيم البيئية كي يكون الجميع قادرين على فهمها ومعرفة ما يدور حولهم، وأيضاً للتأكيد على الدور الذي يمكن للجميع القيام به لتحسين الكثير من الأمور في حياتنا اليومية.

Website by WhiteBeard
Popup Image