شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل تنقذنا القصص الفردية من سلطة التاريخ؟

هل تنقذنا القصص الفردية من سلطة التاريخ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الثلاثاء 28 مايو 202401:10 م

إذا اقتنعنا بأن الفن وسيلة لكتابة التاريخ بشکل آخر ومختلف، من حيث هو فعل ومنجز، فإن السؤال اليوم يدور حول قدرة الأنا المبدعة على تجاوز استسهال التجربة الذاتية، ومدى استعدادها لمدّ خطوط مع تجارب أخرى وتبنّيها ومحاورتها. لا يزال سؤال جدوى الفن في علاقته بالآخر وبالأنا الصانعة، والعلاقة بين هذه الأنا والآخر، ضرورياً ومؤسساً برغم كل التطورات التي لحقت بالفنون كممارسات وأدوات تعبيرية والفضاءات التي تنبلج وتتطور فيها.

تصلنا أخبار صدور كتب هنا وأفلام هناك، تُقتبس من قصص شخوص حقيقية وسيَر فعلية، وتكاد تسيطر على عوالم الصناعة الثقافية. إذ تبدو السير مادةً جيدةً في ظل عطل الإتيان بالمميز الفني الذي يستجيب لغواية طرح السؤال الفلسفي والتميز الإبداعي من جهة وللعبة السوق من جهة أخرى، فتتحول القصص الفردية إلى مادة غير قابلة لمحاكمة سيرورة صناعتها وموقف صاحبها من جهة وفرصة للاحتفاء بتفرد التجربة، خصوصاً في الفضاءات التي ميّزتها التجربة الكولونيالية أو الاستعمارية. وإن كانت الميكروهيستوريا أداةً مجديةً للتفسير والعلاج، ولكتابة أخرى من الأسفل نحو الأعلى للتاريخ الكولونيالي، إلا أنها تحوّل أحياناً منجزها إلى فضاء عزلة وقطيعة إضافي.

إذا اقتنعنا بأن الفن وسيلة لكتابة التاريخ بشكل آخر، من حيث هو فعل ومنجز، فإن السؤال اليوم يدور حول قدرة الأنا المبدعة على تجاوز استسهال التجربة الذاتية، ومدى استعدادها لمدّ خطوط مع تجارب أخرى وتبنّيها ومحاورتها

قبل فترة، أصدر المؤرخ الفرنسي ذو الأصول الجزائرية بنجامين ستورا (1950-)، كتاب سيرة "من قسنطينة إلى باريس" (منشورات تالوندييه، 2023)، ويحكي قصة مغادرته قسنطينة (400 كلم شرق العاصمة الجزائرية)، ووصوله إلى فرنسا برفقة عائلته (اليهودية)، ثم مراهقته، بداياته، حياة الفاقة التي لفّت يومياته، ثم شبابه ونضاله اليساري.

ولكن عند مطالعة سيرة ستورا، سرعان ما نجد أنفسنا أمام أشياء سبق لنا أن طالعناها في حواراته أو في كتبه السابقة والأفلام الوثائقية التي شارك في إنجازها. وإن كان ستورا من أوائل من تطرقوا إلى مناطق جديدة في تاريخ القوة الاستعمارية السابقة وثورة التحرير الجزائرية (على سبيل المثال هو من أوائل من اشتغلوا على أتباع مصالي الحاج 1898-1974، ونضالهم من أجل استقلال الجزائر)، فالأمر لا ينسحب على باقي المنجزات وأصحابها.

وقبل سنوات قليلة، أصدرت الكاتبة الصحافية الفرنسية أوليفيا القايم (1976-)، ذات الأصول اليهودية الجزائرية التونسية، رواية "خياط غليزان" وتحكي فيها قصة جدّها اليهودي الذي كان يخص "العقيد عميروش" أحد قادة ثورة التحرير، بألبسة من إنجازه، قبل أن يجد نفسه مجبراً على مغادرة الجزائر غداة استقلالها، ثم حياة عائلتها في الأرض الجديدة، ومن خلالها قصة يهود الجزائر الذين غادروا البلد في ستينيات القرن الماضي. ولم تمرّ سنتان حتى أصدرت روايةً ثانيةً عنوانها "فتاة من تونس" (منشورات ستوك، 2023)، وتتناول فيها سيرة جدّتها التونسية. تجربتان كثيرتا الحضور في المشهد الأدبي وكذا السينمائي الفرنسي، منذ فيلم "لفحة سيروكو" (1979) للفرنسي ألكسندر أركادي (-1947).

رشيدة براكني (1977-)، ممثلة سينمائية فرانكو-جزائرية مميزة وقوية الحضور في السينما الفرنسية، أصدرت قبل فترة قريبة رواية (سيرة) عنوانها "قدور" (منشورات ستوك، 2024)، تتناول فيها حياة والدها المهاجر الجزائري الذي استقرّ في فرنسا وأسس عائلةً هناك. قصة أخرى لا تختلف كثيراً عن سير كثيرة وثّقت حياة المهاجرين وأبنائهم في فرنسا. وكانت صديقتها المخرجة والوزيرة السابقة الفرنسية-الجزائرية يمينة بن قيقي (1955-)، من أوائل أبناء المهاجرين الين فتحوا الطريق لسينما الأجيال الهجينة بين البلدين من خلال الأفلام الوثائقية، ثم السينما لقصص أبناء المهاجرين بفيلمها "الأحد إن شاء الله" (2001)، وتحكي فيه قصة والدتها "زوينة".

برغم تفرّد السيَر وتنوعها، بناءً وتأثيراً وانعكاساً للتاريخ وميكانيزمات حركته، إلا أننا عند مطالعتها سنحسّ بالبعد الاستعراضي لبعض التجارب السيرية، كما سنقف أمام تساؤلات حول المسكوت عنه في أي محاولة لكتابة ذاتية للتاريخ تحيل لا محالة إلى موضوعية مؤسسة من خلال المقارنة والتراكم. تعطي كثرة السيَر الانطباعَ بانفتاح كامل على التاريخ، إلا أن الواقع يؤكد عكس ذلك.

اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ملفَّ "الحركي" (الموالين للاستعمار خلال حرب التحرير) ليجعله مدخلاً للتصالح مع التاريخ الكولونيالي الموجَّه إلى الداخل الفرنسي (وحتى الخارج كموقف صريح من التاريخ الوطني الاستعماري)، ما أثار استياءً على الضفة الجنوبية، وعُدّ تحرشاً إضافياً للقوة الكولونيالية السابقة، وهو الملف الذي يندر أن يتم تناوله بعيداً عن صراعات أيديولوجية وحسابات سياسية بين الجزائر وفرنسا، رسمياً وشعبياً، إلا في بعض الأعمال الأكاديمية التي ظلت حبيسة مخابر البحث والمؤتمرات، ومحاولات ميدانية كتلك التي أنجزها الصحافي الفرنسي بيير دوم (1966-)، والتي أكد فيها -بعد رحلة بحث ميدانية داخل الجزائر- أن معظم المسمّين "حركي"، ظلوا داخل الجزائر عكس الفكرة السائدة بين الضفتين.

التجارب التي تمّ سوقها، وإن كانت ضمن تجربة ما بعد الكولونيالية، وهي تجربة فرنسا في علاقتها مع الجزائر كمستعمرة سابقة، إلا أنها تدفعنا لمساءلة الكتابة (صورةً ونصاً)، وفن السيرة تحديداً، عن قدرته على استيعاب الآخر إذ ينغمس في ذاتيته، ثم عن مكانة الآخر المختلف في التجربة الفردية.

التجارب التي تمّ سوقها، وإن كانت ضمن تجربة ما بعد الكولونيالية، وهي تجربة فرنسا في علاقتها مع الجزائر كمستعمرة سابقة، إلا أنها تدفعنا لمساءلة الكتابة، وفن السيرة تحديداً، عن قدرته على استيعاب الآخر إذ ينغمس في ذاته، ثم عن مكانة الآخر المختلف في التجربة الفردية

حتى وقت قريب، كان اقتران مفهوم الفن بمفهوم "الغيتو" للتنديد ومساءلة نخبويته وعلاقته بجماهيره، وسلبيات تسييسه و/أو خوضه لعبةَ الأسواق. لكن الملاحظ المطالع والمتابع للمنجز ما بعد الكولونيالي غير الرسمي يرى أن محاولات الكتابة الفردية للتواريخ المجهرية (وذلك المقصود من الميكروهيستوريا)، وسير المنسيين والهامشيين، هي وقود التاريخ وأشخاصها هم فاعلو التاريخ الحقيقيون، وفي سَيرها الذاتي، سرعان ما تنطبع صورة ذهنية لأرخبيل جزر لا تجمع بينها سوى الموضوعات المطروقة في علاقتها بالتجربة الجماعية الأشمل (الاستعمارية)، بينما تغيب خطوط الربط إلا في التجارب المتشابهة والتي تأتي لتؤكد تفرد جماعة على حساب أخرى.

ويتحول الأرخبيل إلى مجموعة غيتوهات متجانسة، لسنا نعلم إن كانت عاجزةً ومستسهلةً ومتكاسلةً أو فاقدةً شغفَ البحث في تاريخ الآخر المختلف، أم أن لعبة الأضواء أبسط من مغامرة طرق باب الآخر، والبحث عن أصوات مختلفة واستنطاقها، ثم ربما طرح فروض تحرج حالة الاستقرار الفكري العام، والمتفق عليه مرحلياً، ومنطق السردية السائدة، بل قد تطرح أيضاً مسألة واقع ثقافي نيو-كولونيالي أيضاً يستثمر في تاريخه الاستعماري الطويل لفرض خطابه عن صعوبة الخروج من عباءته، إذ -وللأسف- تندر التجارب الفكرية والفنية التي تسائل التاريخ الاستعماري أن تزهر بحريةٍ (نسبياً) سوى على أرض وضمن لعبةٍ وبأدواتِ إنتاجِ المستعمر القديم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image