بجانب آلة القتل الإسرائيلية التي ارتكبت، ولا تزال، إبادةً جماعيةً في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هناك آلة أخرى لا تقلّ إجراماً عنها، هي تلك المُسماة بالآلة الدعائية والثقافية التي امتلكتها على مدار سنوات عديدة، الولايات المتحدة الأمريكية.
وفيما أسفرت آلة القتل عن دمار وموت ونزوح آلاف الفلسطينيين، أنتجت الآلة الدعائية، قصصاً زائفةً ومزيّفةً تخص بالتحديد قضية النزاع العربي الإسرائيلي، وكذلك أخرجت للعالم "الغربي" مروياتٍ مزيفة حول تاريخ الوجود العربي في فلسطين المحتلة. ازدهرت هذه الآلة الدعائية الجبارة منذ منتصف الثمانينيات، وهي الفترة التي تأججت فيها هستيريا الإسلام في أمريكا والغرب، وراحت تروسها تلتهم الصورة المشوهة للإنسان العربي المسلم التي ترسخت في العقل الجمعي الغربي، عبر الحملات والعمليات الاستخباراتية وأحياناً الاستشراقية، لتُخرج لنا زيفاً ناصعاً يُستخدم كمادة خام في إنتاج الفنون الإبداعية كافةً، وتحديداً الروايات والأفلام السينمائية.
في السطور التالية، سنتناول نماذج من الرواية الأمريكية المعاصرة، التي لعبت دوراً خطيراً في تزييف التاريخ الفلسطيني، والخطورة هنا تكمن في الانتشار الذي تحقق لهذه الأعمال، عبر دعم اللوبي الصهيوني لها، حتى أن إحداها، احتفى بها الكونغرس الأمريكي، ورفعها إلى مصاف الروايات العظيمة مُطالباً بإدماجها في المناهج الدراسية للطلبة.
وقبل الخوض في هذه السرديات المُضلِّلة، علينا أن نذهب إلى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، فهو أول من عرّى وفضح الرؤية الاستشراقية للغرب، في مشروعه الأكاديمي الهائل، عبر تفكيكه بعض الأعمال الروائية الأمريكية والأوروبية، حتى أمكننا أن نرى بوضوح التمثلات العنصرية كافة تجاه العرب والشرق عموماً، كامنةً وراسخةً في مؤسسة الاستشراق الاستعمارية.
في هذا المقال نتناول نماذج من الرواية الأمريكية المعاصرة، التي لعبت دوراً خطيراً في تزييف التاريخ الفلسطيني، والخطورة هنا تكمن في الانتشار الذي تحقق لهذه الأعمال، عبر دعم اللوبي الصهيوني لها، حتى أن إحداها احتفى بها الكونغرس الأمريكي
رأى إدوارد سعيد أن الرواية الغربية هي فن استعماري بالأساس؛ إذ نشأت الرواية مع ظهور الإمبراطورية الاستعمارية، كونها الفن الأكثر تمثيلاً لنمط الحياة، وكذلك بقدرتها على التوغل في عوالم نائية تقع في ما وراء البحار، رأت فيها الطبقة البرجوازية الفن الأكثر قدرةً على التعبير عن طموحاتها الاستعمارية، وهنا حدث التواطؤ بين الاستعماريين وصنّاع الرواية، الذين كانوا يبحثون عن شرعية لفنهم الجديد. ولم يخذل الروائيون المستعمرين، إذ سخّروا كتاباتهم لنشر القيم الاستعمارية وعلى رأسها القيم العنصرية، التي اتضحت بعنف في خلقهم للتمايز بين الذات الغربية والآخر. هناك مقولة شهيرة تقول "إن الأمم مرويات وقصص"، فلكل أمة قصتها ومرويتها، التي تُمثل كينونتها وهويتها، وتحكي تاريخ أرضها. ومن ثم عندما يأتي المستعمِر، كما ذكر فرانز فانون في كتابه المُلهم واللاذع "معذَّبو الأرض"، فإنه لا يسعى فقط إلى إحكام سيطرته العسكرية، بل يقوم في الوقت نفسه، بشنّ عملية إجرامية مماثلة على تاريخ البلد المُحتل، فيقوم بتشويهه أو محوه، لتُجرّد الأرض من هويتها، وتصبح ممهدةً أمام الاحتلال، ليغرس فيها ما يشاء من بذوره السامة، حتى يصير البلد المحتل ذا تاريخ مشوّه وضائع، وهنا يأتي دور الآلة الدعائية والثقافية، في إنتاج مرويات بديلة تصبح متناً شاهقاً للبلد الذي مزقه المستعمِر.
قبل شنّ العدوان الإسرائيلي المستمر إلى الآن على قطاع غزة، كانت المرويات البديلة والتاريخ الزائف الذي صنعه حلفاء إسرائيل، راسخةً في العقلية الغربية كتاريخ حقيقي، ونستشهد هنا بالاستبيان الذي أُجري عقب "عملية الجرف الصامد" على غزة عام 2014، حيث وُزّع الاستبيان إلكترونياً على طلبة بعض الجامعات الأمريكية والكندية، وكان يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وأظهرت نتائجه مدى تغلغل النفوذ الصهيوني في تشكيل العقل الجمعي للأجيال الصاعدة في أمريكا الشمالية وكندا، فأكثر من 80% ممن شاركوا في الاستبيان، كانوا يعتقدون أن فلسطين هي أرض يهودية محتلة من العرب الفلسطينيين، وأن إسرائيل دولة مضيافة لأنها سمحت للفلسطينيين بالبقاء على أرضها.
لا شك في أن الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، قد عرّت إلى حدٍ كبير صورة إسرائيل أمام شعوب أمريكا والغرب، وهو ما ظهر بشكل صارخ في المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني في العواصم الأوروبية والولايات الأمريكية، والأخطر من ذلك ما تشهده الجامعات الغربية حالياً من انتفاضات ومظاهرات داعمة لفلسطين، وهو ما سيؤدي مستقبلاً إلى تحولات فكرية وأيديولوجية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف استطاعت آلة الحرب الدعائية والثقافية، صناعة هذا الزيف، ونشره وترويجه، حتى يترسخ ويتجذر بهذه الصلابة في العقل الجمعي الغربي؟ وحيث أننا نتناول في هذا المقال تزييف التاريخ الفلسطيني عبر السرد الأمريكي، فسيكون السؤال: إلى أي مدى ساهمت الرواية الأمريكية في ارتكاب هذه الجريمة التاريخية، التي بشكلٍ أو بآخر ساهمت وحرضت على الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟
في كتابه "شايلوك في مروج الجليل"، الصادر مؤخراً عن دار صفصافة للنشر في القاهرة، يُحلل الباحث والأكاديمي صديق محمد جوهر، وفقاً لنظرية النقد المعاصرة، ودراسات ما بعد الكولونيالية، ثلاث روايات أمريكية معاصرة: "الحاج"، للكاتب الأمريكي ليون يوريس، و"الحياة على الضد"، و"العملية شايلوك: الاعتراف"، للكاتب الأمريكي فيليب روث. ويوضح جوهر أنه اختار هذه الروايات الثلاثة لأنها تُمثل الرؤية السائدة للصراع العربي الإسرائيلي بين المثقفين والكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية.
لسنوات عديدة، كانت رواية "الحاج" على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جنى منها كاتبها ليون يوريس، أموالاً طائلةً، وطالب اللوبي اليهودي في أمريكا، بضرورة اعتماد الهيئات والمؤسسات الدولية على هذه الرواية والرجوع إليها قبل اتخاذ أي قرار يخصّ الصراع العربي الإسرائيلي.
وقد نُشرت "الحاج" في عام 1984، وهو العام الذي بلغ فيه النقاش والجدل ذروته حول السياسات التوسعية لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان قد مرّ عامان على الغزو الإسرائيلي للبنان وعلى ارتكاب الجيش الإسرائيلي لمجزرة صبرا وشاتيلا في مخيمات اللاجئين.
عكف يوريس في روايته على محو التاريخ الفلسطيني واجتثاثه من الأرض المحتلة، فهو يُقزّم الوجود العربي في فلسطين، ويُلقي به في قرية صغيرة هي "طابة" فيها -حسب الرواية- "مجموعة من العرب الهمج، الذين جاءوا من الصحراء إلى أرض الميعاد، لتحقيق المكاسب الاقتصادية"، ويعتمد الكاتب على خطابات توراتية وتلمودية وسرد استعماري ونزعات استشراقية من شأنها أن تفرض الرؤية الصهيونية للنزاع العربي الإسرائيلي عبر إقصاء الفلسطينيين خارج إطار التاريخ.
ويرى جوهر أن هذه الرواية تُعدّ واحدةً في سلسلة الأدب الروائي الغربي الذي يلعب دوراً مشيناً في تشكيل الصورة العدائية للعرب الفلسطينيين في الذاكرة الجمعية الأمريكية. يقول نصّاً: "الرواية تمنح المستعمرين الصهاينة الحق في إقصاء الشعب الفلسطيني عن أرضه من أجل تحرير أرض الميعاد وتسليمها للمستوطنين من منطلق أن الفلسطينيين ليسوا سوى همج، متوحشين، تحكمهم ثقافة قبلية بدائية، ويدينون بدين يحض على العنف والكراهية. وهؤلاء الفلسطينيون كما جاء في الرواية المفبركة "تسللوا إلى فلسطين من الصحراء العربية منذ حوالي مئتين وخمسين سنةً، وأكرهوا أهل المنطقة على الدخول في الإسلام بالحديد والنار".
يتبدى من خلال ما ذكره الناقد أن الكاتب الذي جعل من روايته مسرحاً لمزاعم أيديولوجية، يهدف في الأساس إلى تسويغ عملية الاستعمار، وتقديمها كحتمية تاريخية، لجلب الحضارة إلى "هؤلاء الهمج المتوحشين، الذين ينامون على جلد الماعز، ويرتدون الملابس الرثة، ولا يعرفون سوى القتل". هذا الذي أطلق عليه كاتبه اسم رواية، استشرى كالسرطان في الأوساط الثقافية والأدبية الأمريكية -وبحسب صديق جوهر- لا يزال له حتى الآن ولهذه الأكاذيب قرّاء يُصدقونها ويؤمنون بها.
الروايات الثلاث تُمثل بشكل فاضح عمليات التزييف التي لحقت بالتاريخ الفلسطيني، وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي، عبر كتّاب ومثقفين ومفكرين، طوّعوا أقلامهم وكتاباتهم للتحريض بشكلٍ أو آخر على الإبادة الجماعية التي اقترفتها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة
وإذا كان يوريس قد تخلى في روايته المشينة عن كونه كاتباً، مقدّماً نفسه كصهيوني ومزدرٍ للعرب والمسلمين، فإن الكاتب الأمريكي فيليب روث في روايتيه "الحياة على الضد"، و"العملية شايلوك"، كان أكثر خبثاً ودهاءً، باعتماده بنياتٍ سرديةً مركبةً، وتعدد الشخصيات والأصوات داخل روايتيه، ما بين فلسطينية وإسرائيلية، لكن هذا ما يتبدى على السطح، أو من خلال القراءة الأولية، فعبر القراءة المتأنية، نرى أن روث هو الآخر، قد بنى عملَيْه الروائيَين على تيمات متقاربة مع يوريس، ساعياً إلى تحقيق الهدف نفسه وهو إقصاء الشعب الفلسطيني واجتثاثه من أرضه.
يقول جوهر إن القراءة السطحية لرواية "الحياة على الضد"، التي صدرت في عام 1988، توحي لنا أن الكاتب يهدف إلى عرض النزاع العربي الإسرائيلي من منظور حيادي مختلف عن المعالجات المعادية للعرب، ولكننا عبر القراءة التأويلية، سنعرف أنه لا وجود لنصوص ذات طابع حيادي، حيث اعتمد روث إستراتيجيةً روائيةً يظهر خلالها الفلسطينيون المقتلعون من وطنهم إما شخصيات لا صوت لها ولا منطق أو بإسناد أدوار إليهم تتسم بالدونية والانحطاط. وكانت محاولة روث هذه باصطناع صوت فلسطيني ضدي بمثابة تقويض للقضية بسبب الكم الهائل للأصوات المناصرة للصهيونية التي تغشى وتهيمن على فضاء النص الروائي، متبنيةً خطابات استعماريةً، تتمحور في مجملها حول الفساد، وتحلل كل ما هو غير غربي، وتؤكد عدم مشروعية نضال السكان المحليين الوطنيين من أجل الاستقلال والحرية.
وفي "العملية شايلوك: الاعتراف"، الصادرة عام 1993، يختفي الصوت الفلسطيني تماماً، باستثناء زياد الذي يُظهره روث في صورة الأصولي العربي المعادي للسامية. وتطعن "العملية شايلوك" في الرواية الفلسطينية المضادة للرواية اليهودية، وتحطّ من قيمتها التاريخية والإنسانية، وبحسب جوهر، فإن إستراتيجية العرض الروائي في نص روث متجذرة في الخطاب الاستعماري التقليدي ولغة التحريض العنصري، فالرواية تحلّ المستعمِر محل القلب من النص، في حين يتم تهميش المستعمَر، لأن الأخير "يُمثل الجانب المظلم الشرير في عالم الإنسان، ومن ثم فلا بد من احتلال أرضه ومحو تاريخه".
هذه الروايات الثلاث تُمثل بشكل فاضح عمليات التزييف التي لحقت بالتاريخ الفلسطيني، وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي، عبر كتّاب ومثقفين ومفكرين، طوّعوا أقلامهم وكتاباتهم للتحريض بشكلٍ أو آخر على الإبادة الجماعية التي اقترفها العدوان الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة، وهم الذين ارتكبوا قبل هذه الإبادة وعمليات سفك دماء الفلسطينيين، إبادةً ثقافيةً مشينةً في حق شعب عريق، ثقافةً وتاريخاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com