ما إن تأتي الثامنة صباحاً كل يوم أحد، حتى يزدحم شارع "نخلة" في انتظار تلك الفتاة الجميلة التي ترتدي ملابس محتشمة، وتمشي إلى كنيسة "سانت تريزا" لتؤدي الصلاة. لا يخلو طريقها من معاكسات المارّة والقابعين فوق كراسي على المقاهي، تضحك مرّة وتلوح لأحدهم بـ"الشبشب" إذا تمادي في معاكسته. تعبر "كوبري شبرا" وتمرّ من أمام مقهى يجلس عليه مفتشو السكة الحديد وبينهم كمساري وقع في غرامها، وبات يمشي خلفها، يلقي على مسامعها كلامه المعسول. كانت كلمات الغزل تخرج منه أسرع من القطار الذي يقطع تذاكره، ودخل "محطة" قلبها دون صافرة إنذار.
البدايات عند شفيقة
تزوجت شفيقة من الكمساري، ورفضت أن تترك بيتها في شارع نخلة وتعيش في بيت آخر، وعاشت معه سنة كاملة، وفي نهايتها دعا زوجها عدداً من زملائه في السكة الحديد، ومعهم زوجاتهم، لحفل بمناسبة الذكرى الأولى لزواجه من شفيقة، التي قالت عنها إحدى صديقاتها ليلتها إنها ترقص أفضل من أي راقصة في زمنها، وتحت إلحاح زوجها وأصدقائه الكمسارية، رقصت شفيقة وكأنها لا يجب أن تمتهن سوى الرقص، وآخر الليل، عرض عليها أحد الضيوف أن يتوسّط لها للعمل في المسرح، ووافقت على العرض هي وزوجها، بينما تقول رواية أخرى إن شفيقة رقصت لأول مرة أمام الناس في حفل زفاف نجل إحدى الأسر، وشاهدتها الراقصة شوق التي كانت تحيي حفلات زفاف العائلات الكبيرة، وهي الراقصة الوحيدة التي يُسمح لها أن ترقص في حفلات يقيمها الخديوي، وطلبت من شفيقة أن تعلمها الرقص، وأدركت شفيقة يومها أنها محظوظة حتى تنال إعجاب وتشجيع "شوق" وبدأت تتردّد على بيتها في شارع محمد علي، ولقنتها الدروس الأولى في الرقص وسط معارضة أسرتها، التي تبرّأت منها عندما أحيت حفلاً في مولد بالوجه البحري، ومع وفاة شوق باتت شفيقة خليفتها في الرقص وخلت لها الساحة.
كانت الأسر الكبيرة تتباهى بأن شفيقة القبطية أحيت لها أفراحها، وعرض عليها أصحاب الملاهي الكبرى العمل لديهم، وبلغت شفيقة قمة المجد والثراء، لا تقيم حفلاً إلا وتحضره سيدات الطبقة الراقية ليستمتعن برقصها
الكمساري وعدوّه صاحب عربات الحنطور
لم يمرّ على عملها في المسرح سوى 6 شهور، حتى ذاع صيتها وبات اسم "شفيقة القبطية" يتردّد في مسارح القاهرة، وجرت الأموال في يدها مجرى النهر، ما جعل زوجها يطمع في أموالها، وعرفت الخلافات طريق بيتها في شارع نخلة، وفي النهاية ساومها الكمساري أن يتركها مقابل أن تترك له بيتها، ووافقت مع أنها لم تكن تملك غيره، واشترت بيتاً في حارة "السقايين" وافتتحت مقهى بكل ما جمعته من أموال، وسرعان ما بات مقصداً للعمد والكبراء الذين يجتمعون كل ليلة لمشاهدة رقص شفيقة، ومع مرور الوقت انهالت عليها الأموال من رواد المقهى، حتى ظهر في حياتها الجديدة الكمساري وبدأ يطالبها بأن تعطيه بعض المال فرفضت، وعندما عكف على مضايقتها تطوّع أحد زبائن المقهى، وهو "معلم" يمتلك ألف عربة حنطور، على حمايتها من غدر الكمساري.
شمع ونجف
توسّعت بالمقهى وبات مسرحاً كبيراً تضيئه ثلاث نجفات، كل نجفة بها 10 شمعات، ويتبارى الأغنياء في شراء الشمع غالي الثمن، بينما العمد يقسمون بالطلاق أن لا أحد سيضيئ مسرح شفيقة غيرهم في تلك الليلة. كان من بين زبائن المسرح شاعر يلقى قصائده عليها وهي ترقص، ويزدحم المقهى بالجمهور في الليلة التي يحضر بها "الشاعر الولهان"، ما إن تقف شفيقة على المسرح، وهي ترتدي حذاء مرصعاً بالماس وتتحلّى بمجوهرات يصل ثمنها إلى 5 آلاف جنيه، حتى تخطف الأنظار والعقول، وتدهش برقصها كل الحضور وتميل أيديهم للحمرة من شدة التصفيق.
معجبو شفيقة
كانت الأسر الكبيرة تتباهى بأن شفيقة القبطية أحيت لها أفراحها، وعرض عليها أصحاب الملاهي الكبرى العمل لديهم، حتى استطاع ملهي "الأندرادو" التعاقد معها، وبلغت شفيقة قمة المجد والثراء، لا تقيم حفلاً إلا وتحضره سيدات الطبقة الراقية ليستمتعن برقصها، بينما صالة المسرح تستقبل كل يوم عشرات الصناديق المكتظة بـ"الشمبانيا" من المعجبين، وامتلكت عربة حنطور تجرها خيول بيضاء في النهار وأخرى سوداء اللون في الليل، حتى إن أحد معجبيها كان يسقى خيولها التي تجرّ عربتها الشمبانيا لينال منها نظرة واحدة، وأحياناً يسكب الشمبانيا داخل حذائها ويشرب منه، بينما أحد الأغنياء أنفق ببذخ في سبيل رضاها مئات الألوف من الجنيهات، حتى فقد ثروته ولم يظفر من شفيقة بأكثر من لمس يدها، وكانت عندما تصعد على خشبة المسرح تلقى تحت أقدامها الجنيهات الذهبية تحية من العشاق والمعجبين، يجمعها ثلاثة من الخدم ويقدمونها لها بعد انتهاء وصلتها، وقيل إن أحدهم كانت يحتفظ لنفسه كل ليلة ببعض الجنيهات خلسة، فاستطاع في فترة قصيرة أن يجمع ثروة اشترى بها عقارات في شبرا واعتزل الخدمة عند شفيقة.
الوصول إلى العالمية
لم يكن مقهى شفيقة مقتصراً على المصريين، وكان يرتاده الأجانب الذين اقترحوا عليها أن تشترك في معرض باريس، بإقامة ديكور طبق الأصل من المقهى بالنجف والشمع، وقدمت شفيقة نفس التابلوهات التي تقدمها في القاهرة، وعادت من باريس راقصة عالمية، وتلقت العديد من العروض لإقامة حفلات في تونس وإسبانيا ورفضت، وظهر في حياتها شاب ثري من عائلة راقية، أحبها واتفقا على الزواج، ولكن والدته رفضت وذهبت إلى شفيقة القبطية تتوسّل إليها أن تترك ابنها الذي يصغرها بـ10 سنوات، وظلت تبكي بين يدي شفيقة حتى وعدتها أنها لن تتزوجه، وبكت حينها شفيقة لأول مرة.
انكسر قلب شفيقة وتبدل حالها بين عشية وضحاها، وباعت المقهى وقبلت العروض التي كانت ترفضها وسافرت إلى تونس، وظلت هناك عدة شهور، وسقطت في فخ القمار والكوكايين والكحول
أيام القمار والكوكايين
انكسر قلب شفيقة وتبدل حالها بين عشية وضحاها، وباعت المقهى وقبلت العروض التي كانت ترفضها وسافرت إلى تونس، وظلت هناك عدة شهور، وسقطت في فخ القمار والكوكايين والكحول، وخسرت صحتها وكل ما كسبته من مال، وعادت من رحلتها إلى القاهرة معدمة فقيرة، وانفض من حولها المعجبون بعد أن صارت مثل الشبح، وداهمها مرض السكر ولم يتبق منها سوى اسمها الذي كان يوماً ملء السمع في مسارح القاهرة.
هامت على وجهها في الشوارع تبحث عن عمل تقتات منه، وساقتها قدماها الحافيتان والتي كانت تلبس بهما حذاء من الماس إلى "مكتب المخدماتي"، ومشت خلفه للعمل كخادمة في أحد بيوت الأثرياء، وهناك لمحت صاحب البيت ووجدته نفس الشاب الذي أحبته وضحت من أجله ووقفت والدته حجر عثرة في طريق زواجها منه، وخرجت مسرعة قبل أن يراها على تلك الحالة.
بيت شارع نخلة، منه خرجت وإليه تعود
ضاقت بها السبل ولم تجد مأوى غير بيت شارع نخلة الذي تنازلت عنه لزوجها الكمساري، وهناك نامت على حصيرة بالية، ولم تجد لقمة عيش تبقيها على قيد الحياة، وفي أحد الأيام دخل رجل مكتب أحمد سري بك، مفتش صحة شبرا، وطلب منه أن يزور سيدة وحيدة فقيرة تعاني من الجوع ويقتلها المرض، وعندما ذهب إلي بيتها وجدها تشبه المومياء بعد تحنيطها وسألها عن اسمها، فردت بصوت يخرج بالكاد: "شفيقة القبطية"، وفي صباح يوم من أيام سنة 1926 ماتت شفيقة، وخرجت جنازتها من شارع نخلة إلى كنيسة سانت تريزا، ولم يمش في جنازتها سوى زوجها الأول الكمساري، وصاحب عربات الحنطور الذي كان يحميها منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.