لم أشاهد مسلسل لعبة الحبار في الوقت الذي عرض فيه وتابعه الجميع. وبينما نوقش المسلسل وأحداثه، وعرضت مقاطع منه على مواقع التواصل الاجتماعي، تجاوزتها من دون فضول.
كنت اطلعت على فكرته وحسب، فقررت عدم مشاهدته، على الأقل في ذلك الوقت، لأنّي لم أكن في حالة نفسية تسمح لي بتفسير مشاهده الدموية، والتفاعل معها كاستعارة لواقع حقيقي نعيشه ولا ندركه، أو ندركه ولا نريد أن نعرف أننا ندركه.
أثناء حرب الإبادة على غزة، وبعد أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر، اقترح عليّ صديق مشاهدة المسلسل. ترددت في البداية، لكنّي انصعت لذائقته ولمحاولات إقناعه، وشاهدته.
وقفتُ كثيراً عند كل حلقة، واشتبكتْ المشاهد المصوّرة بتلك الموجودة في ذاكرتي عن واقعنا الاستعماري، أو تلك التي تمر الآن أمام عينيّ.
على بُعد كيلومترات قليلة منّي، تجري أحداث تتقاطع مع الأفكار التي يجسّدها المسلسل الكوري، صناعة الموت والمأساة من أجل أهداف سلطوية. وموازين قوى مختلّة تصفع فيها الكفّة الثقيلة، الكفة الأخرى الضعيفة بأقسى أدوات الشرّ، وعلى مرأى من العالم.
وللأسف، لا تنويه على الشاشة يخبرنا بأن المسلسل من خيال الكاتب، وأن أي تشابه بينه وبين الواقع هو محض صدفة.
هذه المرة، لم يكن موسماً آخر من مسلسل لعبة الحبار، إنما موسم سابع من حروب الإبادة على قطاع غزّة. لم أستطع منع نفسي من إجراء مقارنة وإسقاطات بين المسلسل الكوري والمسلسل الذي تقترفه إسرائيل في غزة، بتمويل إنتاجي ضخم – يُشهد له- من العالم الغربي والعربي.
إن أحد الأسباب التي دفعت المليونير الذي يشعر بالملل إلى الاهتداء إلى فكرة اللعبة، هو فقدانه الإيمان بالإنسانية، وبفكرة وجود خير داخل الإنسان
أضحوكة الإنسانية
إن أحد الأسباب التي دفعت المليونير الذي يشعر بالملل إلى الاهتداء إلى فكرة اللعبة، هو فقدانه الإيمان بالإنسانية، وبفكرة وجود خير داخل الإنسان. ما دفعه إلى المراهنة بحياته على هذه الفكرة. إلّا أن المخرج لم يهن عليه أن يلقي المشاهدين في غياهب اليأس، وأبقى على لمحة رومانسية لاحتمال وجود الخير، أومضت بإغماض البرجوازي المسنّ عينيه إلى الأبد.
في الوقت الذي كانت فيه أضحوكة الإنسانية والعدل سبباً في كتابة سيناريو المسلسل، تجلّت في واقع الحرب أو الإبادة كنتيجة قاسية، ضربت بعصور الحضارة عرض الحائط، وسنوات بناء الإنسان لأخلاقياته ومبادئه وبروزها في إعلانات عالمية ودساتير، ورمت الإنسانية كوحدة واحدة في البحر.
أدّت الإبادة المنقولة بالصوت والصورة عبر شاشات العالم إلى محاكمة فردية أجراها كل واحد منا على نفسه، وعلى العالم، تنطلق من سؤال أساسي: كيف تقبل الإنسانية كل هذا؟ الإنسانية بوصفها نحن أولاً، كوننا النواة لمجموعة المبادئ والأعراف المُسقطة علينا، لتجعل للإنسان من اسمه نصيباً، ويبدو أنها لم تفلح.
فقد المليونير الكوري إيمانه بالإنسان، فقرر أن يشيّئه ويهينه باللعب في حياته، بينما فقدنا نحن إيماننا بالإنسان، بعدما تمّ تشييؤنا واللعب والمراهنة على حياتنا.
وبالحديث عن اللعب، فإن الاستعارة الأساسية التي مثلتها لعبة الحبار، تكمن في تلاعب النخبة الثرية بالفقراء أو الضعفاء، واستغلالهم من أجل الترفيه، على اختلاف معانيه. في حين، تخرج الفكرة وتتجلّى من الاستعارة إلى الواقع من خلال الظلم الممنهج الذي يعاني منه قطاع غزة بسبب صراعات سياسية، ونزاعات بين موازين القوى التي تمسك بخيوط دمى "الماريونيت" في إسرائيل، وتلك الخيوط التي تمسكها إسرائيل في العالم خارج حدود دولتها المقدّسة.
في حين تدار اللعبة على مسرح خشبي هش، يسمى قطاع غزة. كانت النتيجة في كلتا الحالتين، المصوّرة، والحقيقية، هي خلق مُشاهِد "فوق أخلاقي"، لم يعد يأخذ الأخلاق على محمل الجدّ.
لطالما شكلت السلطة بمفهومها الاستعماري والسياسي علاقة ثنائية يصفها فرانز فانون بأن الأول، المستعمِر، يلعب دوراً عن طريق خلق عالم ثنائي يمثّل فيه الثاني، المستعمَر، النموذج الأدنى من البشر. إنها علاقة نرجسية حكمتها حالة نفسية استعلائية لصاحب السلطة؛ جعلت منا الآخر الدونيّ والحقير في عينه دائماً.
لذلك، اتسمت سلوكيات النخبة المُصطفاة من دول مختلفة، والتي صممت اللعبة وشاهدتها في أجواء احتفالية، مرتدية أقنعة حيوانات لها دلالتها في شريعة الغاب، بالاستعلاء المحض تجاه العاملين تحت إمرتها في اللعبة.
يتضح ذلك في مشاهد خدمتهم وارتدائهم أزياء متماهية مع جلود الحيوانات والبيئة غير العاقلة المحيطة بهم، يتخذون وضعيات المقاعد والطاولات. في الوقت الذي كانت النخبة تراهن فيه على الفائزين في كلّ لعبة، كأن كل ما يجري بالنسبة لهم عبارة عن حلبة مصارعة ثيران، أو ديكة، مستخدمين عبارات نخبوية وثقافية، تساوي اللاعبين بالأشياء الماديّة في حياتهم.
وعلى صعيد حرب الإبادة، لم نكن بالنسبة لإسرائيل أكثر من "أشياء" تريد التخلّص منها، بموافقة أقنعة بيضاء تبرر للاحتلال عدوانيته، ولا ترى مشكلة في ازدواجية مواقفها تجاه حقوق الإنسان والحق في التحرر، ما دامت الألعاب لا تجري ولا تُدار على أراضيها.
يتضح ذلك بشكل جلي في مقولات إسرائيلية ظهرت في بداية الحرب، تضع الفلسطيني في مرتبة دُنيا، وتعتبر أنه يستحق ما يحدث له. وبالنسبة لأوروبا، فعلينا أن نتعامل مع الإبادة دون إصدار صوت، كي لا تضطر إلى الالتفات لنا، واتخاذ "مواقف" مؤنّبة لإسرائيل.
في حين تدار اللعبة على مسرح خشبي هش، يسمى قطاع غزة. كانت النتيجة في كلتا الحالتين، المصوّرة، والحقيقية، هي خلق مُشاهِد "فوق أخلاقي"، لم يعد يأخذ الأخلاق على محمل الجدّ
اليأس والبقاء
تحوِّل لعبة الحبار مواقف الحياة إلى ألعاب، يواجه فيها المشاركون عواقب وخيمة ومعضلات أخلاقية يضطرّون إلى التعامل معها من أجل تفادي الموت. تتحول هذه المواقف إلى اختبارات إنسانية يتجرد فيها اللاعب من كل شيء قد يعيق غريزته للبقاء، في حياة وصفتها النخبة المتحكمة في اللعبة، بالعادلة والمرفّهة.
فمن أجل الجائزة المالية، تدفع النخبة السلطوية اللاعبين إلى معاناة متمثّلة بالقتل والغدر والتحالف مع القوي، ونبذ الطبقات الأقل قوة من النساء وكبار السن وذوي الإعاقة.
وعلى الرغم من عدم التشابه البنيوي والثقافي في سلوك الأفراد بين الاستعارة والواقع، دفعت حرب الإبادة الإسرائيلية وأساليب التجويع، الناس في غزة إلى إخراج إنسان غير الذي كانوه طوال حياتهم، حتى في أحلك أيامهم، وطوال خمس عشرة سنة من الحصار.
لا يمكن توقّع ما قد يستطيع الإنسان اليائس أن يفعل، وكما يقول ابن خلدون في القهر، إن ضرب المتعلم وقهره يفسدان معاني الإنسانية لديه، لذلك، تسلّت النخب التي تراقب اللعبة في الرهان على سلوكياتهم المتطرّفة في ذروة الألعاب، من أجل النجاة.
وكذلك تراقب النخب نفسها سكّان القطاع المقهورين، يحاربون الفقر والتجويع بكل الطرق المتاحة، مهما كانت "غير إنسانية". فمن يتوقع منهم سلوكاً إنسانياً، في حرب بصقت كل صفات الإنسانية في وجههم؟
لذلك، نشهد على العنف المتبادل في الحالتين، المصوّرة والواقعية، كوسيلة دفاعية تزيد من صعوبة الواقع المفروض عليهم.
أمّا الإنسانية المفقودة التي يجب الوقوف عندها، فهي التي يفقدها العالم خارج غزّة كلّ يوم، في صورة العجز التي غلّفها بشرائط رومانسية وصدقها واقتنع بها، كي لا يحرّك ساكناً.
أشد أشكال الحنين قسوة، كان الحنين إلى البيت الذي لم يعد موجوداً، لأن آلة الحرب الإسرائيلية التي تتقن تفتيت الأجساد وقتلها، تقتل البيوت أيضاً
نوستالجيا "البيت"
في مسلسل لعبة الحبار، جمعَ اللاعبين شعورٌ عاطفي، هو الحنين إلى البيت. فتجلّت النوستالجيا في الحنين إلى مرحلة الطفولة والوطن والأم، والبيت بمفهومه المجرّد، والعائلة. وفي الحرب على غزة، لعبت النوستالجيا دوراً كبيراً في فكرة صمود الغزّيين وانكسارهم، على السواء.
دفعت شدّة العنف الواقع على الناس في القطاع، إلى السفر من أجل احتمال الظروف التي يعيشونها في نزوحهم وموتهم المستمر. لذلك، تجلت صور الحنين إلى يوم عادي، وإلى لحظات قد تكون كاميرات الهواتف قد وثّقتها بالصور، أو تُركت للذاكرة وحدها.
وأشد أشكال الحنين قسوة، كان الحنين إلى البيت الذي لم يعد موجوداً، لأن آلة الحرب الإسرائيلية التي تتقن تفتيت الأجساد وقتلها، تقتل البيوت أيضاً. وتقتل شعور البيت في ذاته، وتنزعه من الذاكرة الوجدانية.
وربما ذهب الحنين إلى أبعد من البيت المجرّد، والمقتول، إلى الأصدقاء الذين غابوا، أو غُيّبوا، بالطريقة نفسها التي غُيّب بها البيت. حنين مستمر يأتي بأمل حيناً، وبيأس من حقيقة أن مدينتهم استحالت حرفياً، إلى لا شيء، أحياناً كثيرة.
لكن كما لحظات المرونة التي كان يبديها اللاعبون في لعبة الحبّار، والتي تمثّلت بمثابرتهم في مواجهة الصعاب الساحقة في الألعاب المقرّرة لهم، على الرغم من الوحشية التي سرقتهم معظم الأوقات، كذلك الأمر بالنسبة إلى غزة التي أظهرت تضامناً مع نفسها، وفتحت أبوابها في الجنوب لنازحيها من الشمال، وأبدت شجاعة بمجرد محاولاتها للبقاء، بسبب إيمان راسخ ربما، أو غريزة إنسانية عامة، وغزية خاصة، تألف هذه المحن جيّداً.
وعلى صعيد آخر، هناك صحوة إنسانية تبعث الأمل لدى الناس في قطاع غزة، تتمثل بالتضامن العالمي معهم. ولو أن هذه "الأعمال الخيّرة" لا تفعل شيئاً كبيراً في الواقع، ولا ترقى لفعل حقيقيّ تجاه الوضع الواقع على غزة، وتتسم بالرومانسية الثورية أحياناً. إلّا أنها تتيح منفذاً لفكرة مقاومة الظلم، ولتفريغ الغضب عن الغزيين غير القادرين على الغضب الآن.
خيال ديستوبي
ليست أول حرب يعيشها قطاع غزة. لكنها المرة الأولى التي تصل فيها الوحشية إلى مرحلة تكاد عقولنا في لحظات يأس، تُنكر حقيقتها من شدة قبحها، لحمايتنا من الاستغراق في صدمة يصعب مراوغتها. قبح متمثّل بطرق القتل واستسهاله، وكأن جنود الاحتلال داخل لعبة من ألعاب الديجيتال. وليس الغزيون بالنسبة لهم سوى أرواح تزيد نقاط الفوز في اللعبة.
إن النظرة الدونية التي ترى بها إسرائيل الإنسان الفلسطيني في غزة، أدت إلى إغراق القطاع في رماد مطلق، وإغراقنا نحن الشاهدين على هذا الرماد، في حلكة مطلقة.
لم تعد تتسع أرصفة المدن في غزة إلى أجساد أبنائها، الأموات منهم، والناجون حتى الآن، على لسواء. ولم يسلم إنسان واحد من إصابة بليغة في الجسد، أو الروح. ولم يصمد وجه القطاع وقلبه من مبانٍ وبيوت، ولم تُبقِ لنا إسرائيل ذكرى سليمة من غزة؛ بعدما قتلت الذاكرة.
ليس خيالاً ديستوبياً ذلك الذي استلهم منه مخرج المسلسل ألعابه، بل هو عالم نُعمي أنفسنا عن قتامته الواضحة. لا ينفع إغماضنا كل ذلك الوقت عنه، في إنكار حقيقة ألعابه. أو كما يصف الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك الأمر بأن طريقتنا التشكيكية للواقع والأشياء، والمسافة الساخرة التي نضعها بيننا وبين تلك الأشياء، لا تنكر وجودها، ولا تلغي أن الإنسان ما زال يفعلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...