يُعدّ التطريز الفلاحي هويّة المرأة الفلسطينية، نقلته من مدنها وقراها المهجّرة، وحوّلته من هواية لسد الفراغ إلى حرفة ومصدر رزق لكثير من النساء في قطاع غزة، حيث وجدن في مهنة الجدّات القديمة محاولةً لتحسين ظروفهن المعيشية ولو بالحدّ الأدنى.
أصبح التطريز لصابرين أبو ذوابة (31 عاماً)، المقيمة في وسط قطاع غزة، مصدر دخلها الوحيد. فبرغم دراستها تصميم الأزياء في كلية متوسطة، فإن تلقيها تدريباً قصيراً في التطريز في مؤسسة مجتمعية جعلها تتقنه وتتخذه مهنة.
تقول صابرين لرصيف22: "كنت أنجز قطع مطرزات تبيعها المؤسسة مقابل مبلغ زهيد مقارنة بحاجاتي، حتى أتقنته وأصبحت أدرّب نساء أخريات في المؤسسة نفسها وفي غيرها أيضاً".
وتضيف: "اشتريت ماكينة حياكة وطورت عملي. صرت أشارك في المعارض أو البازارات. وأصبح لدي زبائن كثر، أنجز لهم قطع مطرزات حسب الطلب، بين محفظات و"خدجيات" وتطريز على العباءات التي أصممها مستثمرةً ما درسته. وقد وظفت معي نساء يرغبن في العمل لتحسين وضعهن الاقتصادي".
في بازار للمطرزات والتراث الفلسطيني نُظّم أخيراً في غزة، قابلت رصيف22 مريم أبو مدين (45 عاماً). تعرض أبو مدين معلقات وشالات من المطرزات صنعتها بنفسها على طاولة. تقول "تعلقت بالتراث الفلسطيني ووجدت فيه فرصة لجني بعض المال، فزوجي مريض لا يقوى على العمل. لذا أتكفل برعايته وتأمين مصروف البيت من بيع ما أصنعه من مطرزات".
تشرح أبو مدين أن لكل قطعة مطرزة وقتاً لإنجازها، مثلًا يستغرق تطريز الثوب الفلسطيني 20 يوماً، ووضع اللمسات المناسبة عليه أسبوعاً، خاصة في ظروف غزة الصعبة التي تنقطع فيها الكهرباء معظم اليوم، بينما تأخذ الإكسسوارات والمفارش وقتاً أقل.
كذلك أن المدن والقرى الفلسطينية تتميز بعضها من بعض من خلال أثواب النساء والخيوط والألوان والأشكال المستخدمة. فرام الله مثلاً تتميز باللون "الأحمر النبيذي"، وكانت تعرف باستعمالها شكل "النخله" في مطرزاتها. أمّا منطقة الخليل فتتميز باللون "الأحمر البني" وتستخدم شكل "خيمة الباشا". منطقة يافا معروفة برسمة "السرو"، ومنطقة غزة برسمة "الوسادة أو المقص" ولونها هو الأحمر البنفسجي. أما بئر السبع فتعرف بـ "الأحمر البرتقالي". ويتميز ثوب مدينة القدس بوجود كنائس وجوامع ونقوش خاصة.
تبدع الفلسطينيات في التطريز باستخدام خيوط الحرير، وتراوح أسعار القطع المطرزة، بحسب عدد بكر الخيط المستخدمة، ما بين 5 و70 دولاراً للشال المطرز، ومن 150 إلى 200 دولار للثوب الفلسطيني، وذلك حسبما أوضحت العاملات في هذا المجال لرصيف22. ونظراً لارتفاع أسعارها فإن ذوي الدخل المتوسط والمرتفع هم من يشترون المطرزات، بينما تقبل الطالبات الجامعيات على اقتناء الإكسسوارات المطرزة الأرخص سعراً.
32.4% البطالة عند النساء
وجدت خريجة إدارة الأعمال إيناس سكيك (28 عاماً) في التطريز الذي تعلمته من جدتها في المرحلة الثانوية، وسيلةً للارتزاق.
تقول سكيك: "لم أكن مهتمة بالتطريز، كنت أعمل في مجال تخصصي الجامعي فترات قصيرة عانيت خلالها كثيراً في الحصول على وظيفة دائمة، فكرت ومجموعة من الصديقات في تقديم مشروع وطلب تمويل من إحدى مؤسسات التمويل. إلا أن الفكرة لم تلقَ قبولاً. هنا قررت أن أبداً بإمكانات بسيطة مستعينة بما تعلّمته من جدتي التي كانت تصنع مطرزات لنفسها لتهديها إلى الصديقات".
وتتابع: "أنشأت صفحة على الفيسبوك لعرض وتسويق ما أصنعه من المطرزات، ووجدت إقبالاً كبيراً، وأصبح لدي زبائن ودخلٌ جيّد، وهذا ما يعفيني من عناء البحث عن وظيفة بلا جدوى".
ومنذ فرض الحصار على قطاع غزة قبل 8 سنوات حتى الآن، ساءت الأوضاع المعيشية لسكانه، وتأثرت النساء جرائه بشكل كبير، كونهنّ الأكثر فقراً في المجتمع، والأقل مشاركة في سوق العمل. وبحسب إحصاءات الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء للعام 2012 فإن مشاركة المرأة في سوق العمل في فلسطين بلغت 17.4%، أمّا عند الذكور فقد بلغت 69.1%، ويرتفع معدل البطالة بين النساء إلى 32.4%، أما لدى الرجال فيبلغ 20.5%.
ويعود فن التطريز الفلسطيني إلى الكنعانيين، وقد تطور كثيراً اليوم، فلم يبقَ مقتصراً على الثوب الفلسطيني أو على الشال فحسب، بل اتسعت دائرته وارتبط بحاجات النساء الآنية من إكسسوارات وحقائب وأحذية وأغلفة هواتف محمولة وتعليقات ووسائد وبعض أواني الزينة كالصواني والأكواب.
صعوبة تسويق المطرزات
أُسست مؤسسة البيت الصامد العام 1989 للحفاظ على الهوية التراثية الفلسطينية، ولدى المؤسسة معرض دائم للمطرزات في مقرها في مدينة غزة. ترى مسؤولة وحدة التطريز في المؤسسة عطاف صالحة "أن الإقبال كبير على التطريز الفلسطيني كمهنة تدرّ دخلاً لنساء غزة، بسبب عسر حالتهن المعيشية"، مشيرةً إلى أن بينهن طالبات جامعيات يطلبن العمل من أجل تأمين نفقات الجامعة، كالمواصلات والأقساط وغيرها.
صالحة التي تركت المدرسة في المرحلة الإعدادية، تعلمت التطريز وأمضت نحو 14 عاماً في هذه المهنة. تقول: "أحببت التطريز، فعملت فيه وأصبحت أجني دخلاً لأسرتي وأساعد زوجي في مصروف البيت".
تتولى مؤسسة البيت الصامد بحسب رئيسة مجلس ادارتها د. فاتن الحمامي تدريب العديد من النساء على الأشغال اليدوية وفنون التطريز بهدف إطلاق فرص عمل للنساء داخل بيوتهن. "كل بضعة أشهر نوفر فرص عمل لربات بيوت في مجال التطريز، ونبيع ما ينتجنه في بازارات محلية لمساعدتهن وتأمين رواتب لهن".
وتشكو الحمامي صعوبة تسويق المطرزات، خاصة دولياً، بسبب إغلاق المعابر المستمر والتكلفة العالية للسفر ونقل المنتجات، وهذا ما يجعل من تسويق المطرزات الفلسطينية أمراً صعباً لدى المؤسسات. فتكتفي بتنظيم بازارات محلية للتسويق، تقتصر غالباً على ذوي الدخل المتوسط أو المرتفع.
وبرغم أن قلة من الفلسطينيات يرتدين الثوب الفلسطيني الذي كان زياً شعبياً قبل نكبة 48، فإن ارتداءه لا يزال سائداً لدى حضور بعض المناسبات الوطنية والتراثية، فضلاً عن اقتنائه كهدايا في مناسبات عدة.
وتعلّل وفاء أبو شرخ سبب اهتمامها الكبير باقتناء الأثواب الفلسطينية والمطرزات، وزياراتها الدائمة للبازارات والمعارض التي تُعدّ لهذا الغرض بالقول: "نعتز كفلسطينيات بتراثنا، لأنه جزء من هويّتنا الاجتماعية والثقافية. بيتي قائم كلّه على المطرزات والقطع التراثية التي أصنعها بنفسي، وذلك جزء من المعركة الثقافية والاقتصادية مع الاحتلال الذي يسرق تراثنا ويعرضه في المعارض الدولية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...