لطالما حيّرني التعاطي، في عالمنا العربي، مع مصطلحيّ "رسالة الماجستير" و"أطروحة الدكتوراه"، والتفريق بينهما من حيث المعنى اللغوي للمصطلح وما يستتبعه من فهم لجوهر ومضمون كل منهما، وليس فقط لكونهما درجتين من درجات التحصيل العلمي. لتبسيط الأمر، سأقول إن رسالة الماجستير هي إثبات أن هذا الباحث أو الطالب قد وصل إلى درجة معينة من فهم الموضوع الذي يبحث فيه، ما يؤهله لإثرائه وزيادة المعرفة به في أي نقاش أو دراسة، بينما أطروحة الدكتوراه هي طرح جديد لفكرة لم تكن مطروحة من قبل، أو لم يتم التطرّق لدراستها من قِبل دارسين آخرين، ومحاولة إثباتها أو نفيها بنفس أساليب ومناهج البحث العلمي التي تتبعها رسالة الماجستير.
ما الذي استفزّ واستنفر كل هذه الجموع والجماعات لمهاجمة الفكرة، والتحذير منها ومن آثارها علينا وعلى الأجيال القادمة من أبنائنا؟
إذن كلمة أطروحة تعني طرحاً جديداً لم يقله السابقون، وهذا يحيلنا إلى التساؤل في معنى أن يحمل أحدهم درجة الدكتوراه في موضوع لا يمكن التجديد فيه. بلغة أخرى: هل يمكن لأحد الدارسين أن يتحصّل على درجة الدكتوراه في موضوع مغلق أمام البحث، أو يُمنع البحث فيه، لاعتبارات دينية أو اجتماعية أو أخلاقية؟ أمام هذا التساؤل، كيف يمكننا فهم أن فلاناً يحمل درجة الدكتوراه في الفقه مثلاً؟
بالمنطق البسيط، إن من يريد أن يقدّم أطروحة في الفقه سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يقول ما قاله السلف، ولكن من زاوية أخرى أو بإثباتات جديدة أو بلغة مختلفة، كما هو حاصل في معظم أطروحات الدكتوراه في عالمنا العربي والإسلامي، وفي هذه الحالة فإن هذا الجهد، مهما كان كبيراً، لا يمكن اعتباره طرحاً جديداً يمكن أن ينال الباحث بسببه درجة الدكتوراه، وإما أن يأتي الباحث بشيء جديد لم يقله أحد من قبله، وهنا سيصبح عرضة للاتهام بالهرطقة ومخالفة السائد، باعتبار أن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة، ولنا في تاريخنا، البعيد والقريب، عشرات الأمثلة، ليس أولها ولا آخرها ما حصل مع المصري علي عبدالرازق في أطروحته الشهيرة "الإسلام وأصول الحكم" في بدايات القرن الماضي.
كلمة أطروحة تعني طرحاً جديداً لم يقله السابقون، وهذا يحيلنا إلى التساؤل في معنى أن يحمل أحدهم درجة الدكتوراه في موضوع لا يمكن التجديد فيه. بلغة أخرى: هل يمكن لأحد الدارسين أن يتحصّل على درجة الدكتوراه في موضوع مغلق أمام البحث،كالفقه؟
وما يجوز على الأطروحة يجوز على مجمل فكرة التقدم إلى الأمام، كما أن ما يجوز على الفقه يجوز أيضاً على مجمل الحزمة الثقافية التي تميّز مجتمعاً عن آخر، وتشكل عنصراً أساسياً من عناصر هويته، فغني عن القول إن الثقافة الحية هي الثقافة المتحركة، وإلا أصبح المجتمع أسيراً لمجموعة من الرتوش الفلكلورية وعادات وتقاليد الأجداد، وفي عالم تتحكّم به وتديره التكنولوجيا وتميّزه السرعة، فلا يمكن للفلكلور أن يكون هو الأداة الملائمة لحجز مكان لائق فيه.
هذا بالطبع ليس له علاقة بمكانة الفلكلور، بل بمكانه، فلا يوجد أمة في الدنيا إلا ولها تاريخ تعتز به وفلكلور تفخر بمكوناته، لكنها لا تواجه استحقاقات اليوم بمحطات التاريخ أو بعناصر الفلكلور.
ما سبق يقودنا إلى ما احتدّ من نقاش، مؤخراً، حول مؤسسة "تكوين" للثقافة العربية، والتي تم الإعلان عن تشكيلها في جمهورية مصر العربية قبل أيام قليلة، من شخصيات لها ثقلها في المشهد الفكري والثقافي المصري والعربي.
ما الذي استفزّ واستنفر كل هذه الجموع والجماعات لمهاجمة الفكرة، والتحذير منها ومن آثارها علينا وعلى الأجيال القادمة من أبنائنا؟ فلا يوجد في تعريف المؤسسة عن نفسها، أو في أهدافها المعلنة، ما يشير من قريب أو بعيد إلى ما روّجه المهاجمون، من أنها مؤسسة تريد نشر الإلحاد، أو مهاجمة الدين، أو تخريب أخلاق وقيم الأجيال الجديدة. ولأن كل ذلك غير موجود، فعلينا تخمين عدة افتراضات حول هذه الحملة غير المسبوقة والمنظمة جيداً:
أول هذه الافتراضات هو أن جزءاً من القائمين على الحملة يخافون من خسارتهم لمكتسبات حققوها من تمثيلهم للناس، رغماً عنهم، على مدار قرون طويلة، وأن هذه المكتسبات، سواء كانت مادية أو معنوية، ستختفي إن تحلّت هذه القاعدة بالوعي الكافي والقدرة المعرفية الذاتية على تمييز الصواب من الخطأ.
ثاني الافتراضات يتعلق بنظرة المهاجمين لأتباعهم، واعتبارهم مجموعات من الجهلة، قد يتخلون عن دينهم وقيمهم وأخلاقهم فيما لو قرأوا مقالاً نقدياً أو دراسة بحثية، سواء في الفلكلور أو في التاريخ أو حتى في الفقه.
الافتراض الثالث يقول إن كل ما نحن فيه من تأخر عن ركب الدول، ومن صراعات مذهبية وطائفية وسياسية مزّقت أوطاننا، ومن تأخر في معدلات النمو رغم الموارد الضخمة، ومن تراجع في التعليم والصحة، وحصّة الفرد من الناتج القومي، والجهل المستشري في كل مناحي الحياة، وعشرات المؤشرات والمقاييس التي تضعنا في مؤخرة الأمم والدول، كل ذلك ناتج عن صواب في الثقافة وفي الفكر وفي مسلّمات التاريخ والحاضر. لا يوجد أخطاء في كل هذه المنظومة، وكل ما يصيبنا هو نتيجة حتمية لصوابنا.
لا يمكن للمجتمعات أن تتقدّم إلا بالحوار بين مكوناتها، وتحديداً كما ورد في ختام بيان "تكوين" أمس الأول: حوار بالقلم لا بالسكين
الافتراض الرابع هو اعتقاد المهاجمين، أو رغبتهم، في أن المسلّمات يمكن أن تكون دينية وفقط. لا يرى من يقرأ هذه الكلمة لا مسلّماتنا في الثقافة العشائرية، ولا في السلوك، ولا في فكرة المصلحة العامة، ولا في السياسة، ولا في الأخلاق، ولا في قيم الخير والجمال.
الافتراض الأخير ينطلق من الفكرة القائلة إن الفقه هو الدين وليس أحد تأويلاته. بمعنى أن الدين ليس هو الخطاب الإلهي والنبوي الموجّه للبشر وحسب، بل هو كل ما أضافه بعض البشر إلى هذا الخطاب من تأويلات وتفسيرات واستنباطات عبر التاريخ. وهنا تكمن معضلة الفكر العربي الإسلامي إن جازت تسميته كذلك، إذ ليس مسموحاً لا لـ"تكوين"، كمؤسسة أو كأفراد، ولا لغيرها، من مراكز أو مفكرين، أن يخوضوا في هذه الإضافات إلا من باب الموافقة عليها، تماماً كمن يقدم أطروحته حول سؤال معروف الإجابة سلفاً.
هذه مساهمة في الجدل الدائر حول "تكوين" وأهدافها، وهي لصالح المؤسسة بكل تأكيد، ولو استرشاداً بما قالته الكاتبة المصرية فاطمة ناعوت، في إحدى مقابلاتها، مؤخراً: "لدينا مثقفون، لكننا لا نملك تياراً ثقافياً"، وذلك على أمل أن تشكل هذه المؤسسة تياراً حقيقياً يثير النقاش والحوار حول كل ما يعجبنا وما لا يعجبنا، على حد سواء، فلا يمكن للمجتمعات أن تتقدّم إلا بالحوار بين مكوناتها، وتحديداً كما ورد في ختام بيان "تكوين" أمس الأول: حوار بالقلم لا بالسكين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...