ما إن انتشرت أنباء إطلاق" مركز تكوين" في مصر، والذي انطلق فعلياً قبل عدّة أشهر عبر السوشيال ميديا، حتى ظهر بالتزامن مع انطلاقته هاشتاج" إغلاق مركز تكوين". يرى المشاركون في الهاشتاج أن المركز، بناء على تاريخ قادته، هو مجرّد مؤسسة تلعب دوراً خفياً في تشكيك المصريين في معتقداتهم الدينية، الإسلامية خاصةً، وأن مواجهة تلك الأبواق الإلحادية، على حد وصف كثيرين، يجب أن يكون بكتمها تماماً.
أبرز حضور تدشين المركز هم إبراهيم عيسى وإسلام البحيري ويوسف زيدان وفاطمة ناعوت، أسماء نجحت في الحصول على الشهرة وامتلاك وضع مميز داخل أروقة المجتمع المصري، ثقافياً وإعلامياً، سواء كان ذلك يعني جماهير عريضة توافق على ما يعرضونه من أفكار أو العكس، جماهير تهاجمهم في كل خطوة تخصّهم.
على كل حال، بالطبع لن أتفق مع هؤلاء الذين يودون كتم أصوات المفكرين، لكني أتساءل: متى أصبح مجهود مفكرين مصر التنويرين مقتصراً على تجديد الخطاب الديني؟ أو دعوني أصيغ استفساري بشكل آخر، إذا كانت العلمانية تهدف إلى فصل الدين عن السياسة، ألا يجب أن تتبع تلك الخطوة تناول السياسة بلا شوائب أو تحكّمات دينية؟ فكيف لمن يعتبرون أنفسهم داعين للعمل بالعلمانية أن يؤمنوا كل جهودهم بعد هذا الفصل المزعوم من أجل تناول الدين منفرداً، لا السياسة، وهي الهدف الأصلي الذي ظهرت من أجله أو ناضلت للحصول عليه حركات التنوير والعلمانية؟ ماذا يعني ذلك؟
يُمكنك اختصار المجهود الفكري في السنوات الأخيرة للطرفين في التالي: قرّر المستنيرون إزعاج الصحابة وقرّر الشيوخ إزعاج المرأة، واتفق الطرفان على عدم إزعاج السلطة
في وصف أعضاء المركز عبر صفحتهم على فيسبوك، ترى أنهم قد أطلقوا على أنفسهم ثلاث صفات بالتحديد: "مفكرون ومستنيرون وفلاسفة"، وأنا لا أعرف عن الفلسفة اقتصارها على محاربة فكر سلفي أو أصولي، لكنها تمتد دائماً لتناول العدالة والشكل الأمثل للجمهوريات والحريات الفكرية والأنشطة السياسية، لكن أن يتخصص فيلسوف في مجابهة أصولية دين ما فقط، فذلك يعني أنه رجل دين مستنير لا أكثر.
أحاديث ناقصة
الحديث الدائم عن حكايات الصحابة الشائكة في تقاتلهم على السلطة، كما سترى إن تابعت تلك الفئة من المفكرين المستنيرين، يجب أن يؤدي إلى الشك في جدوى استعادة نموذج ديني لإدارة الدولة، يُصبح تقريباً لغواً فارغاً إن لم يقترن بتحذيرات واقعية تلامس حاضرنا، كذلك نقد آلية اختيار الخلفاء بناء على دمهم القرشي لا جدوى منه إن لم يكن استدعاؤه بهدف محاربة كل قبلية أو عصبية في الحكم، سواء كانت بالدم أو بالزي. رفض التداخل بين الدين والسياسة بالتوقف عند سرد قصص تاريخية لأثر ذلك، يبقى ناقصاً دون إعلان الحكواتي رفضه أن يستخدم قادة البلاد الخطاب الديني في مقام اقتصادي أو سياسي، مثلما يفعل الرئيس مثلاً.
بناء على ذلك، لا عجب إن هاجم بعض المتشددين مراكز أو حركات أو شخصيات تنويرية بحجة الإساءة للتراث الديني دون هدف آخر، وعلى هؤلاء المفكرين إثبات العكس.
شيوخ علمانيون
من ناحية أخرى، نجد الشيوخ في مصر، كعبد الله رشدي باعتباره وجهاً بارزاً يوصف بالشجاعة أو حتى شيخ الأزهر ذاته، قد توقفوا أيضاً عن الصراع من أجل ربط الدين بالسياسة، مؤقتاً ربما، لكن على كل حال، فأمور أخرى باتت تسترعي انتباههم جعلتهم ينصرفون عن عاداتهم القديمة تلك، كالمرأة وزي المرأة وعطر المرأة وجسد المرأة، وإن امتلك أحدهم جرأة بسيطة قد يناقش السياسة من باب أن "المرأة لا يجب أن تحكم قط".
لا يعني ذلك أن كبار الشيوخ قد نسوا أمر السياسة تماماً، لأنهم مستمرون في البحث عن هوايتهم لكن خارج البلاد، فتجدهم مثلاً يناقشون القضية الفلسطينية وقضية مسلمي الصين والسلام العالمي والخطط الصهيونية الكبرى، أي سياسة لا تُغضب الحكومة بشكل عام.
وفي تلك النقطة، اتفق المفكرون المستنيرون مع الشيوخ العلمانيين بلا شك، ففي أحلك الأوقات السياسية والاقتصادية التي تمرّ على مصر، صرف إبراهيم عيسى، على وجه المثال، وقتاً طويلاً في مناقشة مخاطر حركة حماس داخل قطاع غزة، وكذلك فعل آخرون أيضاً.
في النهاية، يُمكنك اختصار المجهود الفكري في السنوات الأخيرة للطرفين في التالي: قرّر المستنيرون إزعاج الصحابة وقرّر الشيوخ إزعاج المرأة، واتفق الطرفان على عدم إزعاج السلطة.
إن كان التنوير خطوة أساسية للدعوة إلى علمانية الدولة، فلا يجب أن ينسى مفكرونا ذلك، فيغرقون في بحار الجدال الديني للدرجة التي تجعلهم لا يتذكرون الشاطئ المراد الوصول إليه أصلاً
ماذا ننتظر؟
إن كان التنوير خطوة أساسية للدعوة إلى علمانية الدولة وعقلانية القرارات على تنوّعها، فلا يجب أن ينسى مفكرونا ذلك، فيغرقون في بحار الجدال الديني للدرجة التي تجعلهم لا يتذكرون الشاطئ المراد الوصول إليه أصلاً، وامتناع هؤلاء المفكرين عن دورهم الناقد للأوضاع السياسية البعيدة للغاية عن قيم الحريات التي ينادون بها، يعطي إشارة كاذبة للمشككين في التنوير والعلمانية والحريات، إذ سيُحسب عليهم بالطبع أن صمتهم يعني اتفاقهم مع النموذج السياسي الحالي، كشكل مثالي للأفكار التي يروجون لها، وقد نتفق أو نختلف حول سوء أداء النموذج السياسي لمصر حالياً، لكن النظام الذي يقوم على إسكات المفكرين ومحاربة الكلمة وتحويل الفن إلى عرائس ماريونت وكذلك الإعلام المحلي، بالإضافة إلى السماح بإنشاء تنظيمات قبلية ورعايتها، والتذرع بالخطاب الديني عند كل خطر، ذلك النظام هو أبعد ما يكون عن أي تنوير أو علمانية أو حريات.
فعلى الأقل، إن خشي هؤلاء المفكرون عواقب قول ذلك، فليقدموا أنفسهم على أنهم رجال دين مجدّدون، حينها سيكون إنقاذ سمعة الحركة التنويرية في مصر ممكناً.
كل ما سبق لا يعني أن الرافضين للأفكار العلمانية والتنويرية تقتصر أسبابهم على شخصيات متصدّري المشهد من المفكرين، لكن ما ذُكِر في المقال سبب يجعلني، مع آخرين من المحسوبين على التيار العلماني التنويري في مصر، لا أتحمّس لمشروعات مثل مركز تكوين، فتجديد الخطاب الديني دون مناقشة تجديد الحال السياسي، سيهدف حينها فقط إلى هدم ثوابت، ربما نحتاج لهدمها فعلاً، لكن اقتصار النشاط الفكري على نصف المشكلة يُلهينا عن نصفها الآخر، ويجعلنا نبدو كالأطفال الذين ألقى والدهم بالكرة بينهم وتركهم يتقاتلون عليها كي لا يُزعجه أحد، ولا أرى خيراً يأتي من هذه اللعبة المصنوعة باستمرار في بلادنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه