يتخذ تراث الحديث مكانة مركزية في صياغة الأحكام والتشريعات، وكذا الخطابات الدينية الشعبية التي كثيراً ما تكون مستمدة من الحديث. ويأتي ذلك بالتوازي مع صياغة صورة جديدة لـ"الرجولة"، مفادها أن الرجل كلما كان أكثر سيطرة على النساء في عائلته، كلما ارتقى في مراتب الإيمان، حتى لو كان فاسداً أو ظالماً أو مرتشياً.
وعليه، بتنا نسمع تعابير مثل "ده بيت مفهوش راجل"، أو "دي حارة مجابتش راجل"، في إشارة سلبية إلى الرجل الذي لا يسيطر بشكل كامل (ومُرضٍ للمجتمع) على ملابس وتصرفات زوجته وأخته وابنته، أو على كل نساء الشارع الذي يقطن فيه.
فهل يستند هذا التصوّر عن "الرجولة" على أحاديث صحيحة؟ وهل يتوافق مع سلوك مَن تجلّت به الرسالة في أبهى صورها، أي النبي محمد؟
هذا هو موضوع جزء كامل من كتاب "العدل والإحسان في الزواج: نحو قيم أخلاقية وقوانين مساواتية" الذي صدر مؤخراً عن دار الكتب خان، ويغطي السنّة القولية والفعلية للرسول وكيف يمكننا التعامل معها للوصول إلى صيغة زواج تتسم بالعدل والإحسان تجاه طرفي العلاقة.
لِم لم يصبح زواج النبي من خديجة نموذجاً؟
تشرح المحاضرة في العلاقات الدولية في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة شيفيلد البريطانية سارة عبابنة، والمحاضِر في الإسلام والعلاقات المسيحية-الإسلامية في كلية اللاهوت في جامعة إدنبرة في إسكتلندا شاداب رحمة الله، كاتبا الفصل الرابع من الكتاب، أن النبي جمعته بالسيدة خديجة علاقة زوجية استمرت 25 عاماً، وهي زيجة تقدّم لنا تجربة علاقة زوجية تشاركية بامتياز. ثم يتساءلان لماذا لا يتخذ المسلمون تلك الزيجة بوصفها أحد أشكال النهج النبوي التي تخبرنا عن الزواج المثالي، لا سيما في ظل التآلف الذي كان يغلّف العلاقة بين طرفيها؟
"كانت زيجة الرسول بخديجة دوماً قريبة إلى قلبي، ربما لأني رأيت تشابهاً كبيراً بينها وبين زيجتي أنا وشاداب"، تشرح عبابنة لرصيف22 وتوضح: "فأنا أكبره بثلاث سنوات ونصف، وفي بداية زواجنا كنت أعمل وكان هو لا يزال يعمل على أطروحته لنيل الدكتوراه، وهو ما يختلف كثيراً مع الرؤية السائدة للزواج في الأردن والمجتمعات المسلمة الأخرى، حيث يكون الرجل هو الأكبر في السن وهو المعيل بشكل أساسي".
يحاول الكاتبان إذاً تقديم تصور أرحب لرجولة النبي، عبر عرض زيجته التي لا تغلّفها الهيمنة والتسلط، وإيضاح كيف تعامل النبي مع خديجة بقدر كبير من الثقة والسلاسة، إذ لا يرد إلينا أي دليل على أن النبي كان يشعر بالتهديد في أي مرحلة من مراحل هذه الزيجة. بل على النقيض، تقدّم لنا الصورة الرجولية النبوية اللامتسلطة نمطاً مغايراً للصور السائدة عن الرجولية في قرننا الـ21.
ومن ثم يدعوان إلى إعادة تنقيح تراث الإسلام المعرفي التاريخي، وعلى الأخص المنظومات الأسرية، خاصة أن العلاقة بين النبي والسيدة خديجة لا تمثل تحدياً لعُرْف الزوج المنفِق والزوجة المُعيلة فحسب، بل تقدّم لنا نموذجاً بديلاً للعلاقات الزوجية يتأسس على تبادل الرعاية والدعم والحب، ويعكس الصورة الذهنية السائدة عبر تجربة تكون فيها الزوجة هي الأكبر في العمر، والطرف الأقوى من الناحية الاقتصادية.
ترى عبابنة، في حديثها لرصيف22، أن التغيير سيأتي عندما نكسر التابوهات التي خلقناها حول الطلاق، والترمل، والزواج بمَن هم أصغر/ أكبر، أو مَن يختلفون عنّا في الطبقة الاجتماعية. ولو كنّا جادين في اتّباع سنة الرسول، يجب أن نعلم أن هذه التابوهات ليست من الإسلام أبداً، بل ترتبط أكثر بالحداثة، فلماذا نتمسك بها بينما لدينا البديل في سيرة الرسول؟
نظرة أكثر نضجاً لتراث الحديث
لا شك في أن تراث الحديث اتخذ مكانة مركزية في السنّة بالتزامن مع فترة ظهور المدارس الفقهية، إذ تنامى الدور الذي لعبه في صياغة الأحكام. بيد أن الباحثين والباحثات المسلمات لا يزالون يواجهون تحديات في التعامل معه، ومع استخدامه في تبرير ظلم النساء.
واستمراراً للبحث في هذا الموضوع، تقدّم المحاضِرة في "مركز اللاهوت الإسلامي" في جامعة مونستر الألمانية ياسمين أمين، في فصل آخر من الكتاب، نموذجاً للزواج مستقى من السنّة النبوية، ويعكس تعاليم القرآن الأخلاقية، ويدعم علاقة زوجية ليس فيها تراتبية.
تراث الحديث يدلنا على أن المتعة والإشباع الجنسي ليسا حكراً على الرجال، وهو ما يتأكد لنا في أحاديث مثل: "إذا أراد أحدكم أن يأتي زوجته فلا يعجلها فإن للنساء حوائج"
تقوم أمين بقراءة شاملة للأحاديث التي تتناول الزواج في جوانبه المختلفة، منها النفقة وحل الخلافات الزوجية والعلاقة الحميمة. وتذكر حديث: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" وتبيّن كيف أنه يؤكد على التشارك في المسؤولية بين الزوجين وليس على التراتبية كما نجد في الخطاب الفقهي.
وتتعرض لمفهوم العلاقة الزوجية التي تنطوي على اللهو والمرح كما تسلط الضوء على أن تراث الحديث يدلنا على أن المتعة والإشباع الجنسي ليسا حكراً على الرجال، وهو ما يتأكد لنا في أحاديث مثل: "إذا أراد أحدكم أن يأتي زوجته فلا يعجلها فإن للنساء حوائج".
تقول مؤسِّسة ومديرة المؤسسة المصرية لتنمية الأسرة هالة عبد القادر لرصيف22 إن العديد من الأحاديث استُخدمت بشكل يضر بالمرأة، مثل حديث سجود المرأة لزوجها ("لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها")، والذي استُخدم لتأسيس مبدأ الطاعة العمياء، وكذا حديث لعن الملائكة ("إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبانَ عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح")، وما صاحَبه من تخويف وترهيب للمرأة والتلويح الدائم بالعذاب الشديد، إلى درجة قد تمنع بعض النساء من إبداء التعب أو عدم الرغبة.
وتضيف: "ربما، لم تؤثر هذه الأحاديث على سن القوانين، لكنها بلا شك أثّرت في أعراف المجتمع، وأثرت كذلك على ثقافة بعض القضاة".
وترى أن الوضع قد يتغير باتباع وصية الرسول بالنساء في خطبة الوداع، وكذا أحاديث مثل، "استوصوا بالنساء خيراً"، و"النساء شقائق لرجال"، لكن ربما ما نحتاجه بشدة هو أن نقتدي بالرسول الذي كان يعبّر عن حبه لزوجته وبناته على الملأ، ولا يخجل من ذكر أسمائهن، ولا يعتبرهن عاراً يجب ستره، بل يفزع إليهن للمشورة في ما ألم به.
من المعنى الحرفي إلى الرؤية الشاملة
هناك كتب كثيرة فيها تفسيرات للأحاديث تتسم بمعاداة النساء، إذ يستعمل مؤلفوها منهجية حَرْفية تجعلهم يزعمون، على سبيل المثال، أن النساء مصدر لغواية الرجال. كذلك تقدّم لنا هذه الكتب الرجال في هيئة القادة المتسلطين على النساء.
هناك كتب كثيرة فيها تفسيرات للأحاديث تتسم بمعاداة النساء، إذ يستعمل مؤلفوها منهجية حَرْفية تجعلهم يزعمون، على سبيل المثال، أن النساء مصدر لغواية الرجال، بجانب تقديمها الرجال في هيئة القادة المتسلطين على النساء
يقدّم المحاضر في مادة الحديث في المعهد الحكومي للدراسات الإسلامية في إندونيسيا فقيه الدين عبد القادر، في فصل من ذات الكتاب، منهجية أكثر شمولاً، تؤمن بمرجعية تراث الحديث، ولكنها تفسح، في الوقت ذاته، المجال لإعادة تفسيره، بصورة تحقق المساواة. ويعتبر أن منهجيته التي أسماها "القراءة المبادلة" قادرة على التوفيق بين النصوص المجتزأة ومبادئ الإسلام الأساسية.
تجعل هذه المنهجية، والتي تستلهم الدراسات التي قام بها عبد الحليم محمد أبو شقة، النساء والرجال ذواتاً متساوية تخاطبها الأحاديث، ما يستوجب إعادة تفسير الأحاديث التي شاع فَهْمها على أنها تخاطب الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال، بغرض استجلاء معانيها الجوهرية، ومن ثمّ جعْلها تخاطب الجميع.
كما يلفت الكاتب إلى أن اللغة العربية بطبيعتها لغة مدموغة باعتبارات الجندر، فترد فيها معظم روايات الحديث بصيغة المذكر، كما يؤكد على أهمية الوعي بالسياق الزمني والمكان الذي رُويت فيه الأحاديث والذي كان يعتمد التمييز بين الرجال والنساء.
تنبثق هذه المنهجية عن عدة منطلقات، من أهمها التوحيد، وهو مبدأ قرآني يؤكد أن الله خلق البشر كافة، رجالاً ونساء كخلائف له في الأرض، لذا، يجب أن تنبني العلاقات بين الأفراد على التآزر والشراكة، لا التسلسلات الهرمية.
ويضرب أمثلة لأحاديث يرى تطبيق مبدأ المبادلة عليها، مثل حديث "إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ، فأبَتْ أنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتَّى تُصْبِحَ".
ظل مفهوم الرجولة لعقود مرتبطاً بالتحكم والسيطرة، مع إشاعة أن هذا هو النهج النبوي. لكن بعد ما وصلنا إليه من معرفة، ربما علينا إعادة النظر في قراءتنا لتراث الحديث
يُلزم الفقهاء النساء بتلبية رغبات أزواجهن، ولكننا نعلم أن الإسلام لا يفرض أمراً على شخص أو يهدده لمجرد كونه امرأة، الأمر الذي يبرز حاجتنا إلى إيجاد معنى للحديث ينطبق على النساء والرجال. إذاً، يتعين أيضاً أن يشعر الرجل بمسؤوليته الإيمانية تجاه زوجته، ويلبي رغباتها الجنسية.
وبالمثل، تنطبق الأحاديث التي تخاطب الرجال بحسن معاملة الزوجات أيضاً على النساء، مثل حديث، "َخيارُكُم خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهمْ".
آفاق رحبة وحلول واقعية
كما هو واضح، ظل مفهوم الرجولة لعقود مرتبطاً بالتحكم والسيطرة، مع إشاعة أن هذا هو النهج النبوي. لكن بعد ما وصلنا إليه من معرفة، ربما علينا إعادة النظر في قراءتنا لتراث الحديث، بحيث يصبح مفتاحاً لنشر العدل والإحسان، وليس سيفاً مسلطاً على رقاب النساء.
وخلافاً للعقود السابقة التي شهدت احتكار المعرفة الدينية، نشهد الآن انفتاحاً مشهوداً على مصادر المعرفة المختلفة، وتنامياً لوعي النساء بذواتهن وإيمانهن العميق بإنصاف الخالق لهن، وهو ما يجب أن يحفز الاجتهاد وهو الطريق الذي خطّه العلماء واستمروا عليه، ولم يزعم أحدهم أنه أبداً لا يخطئ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع