هذه النصوص القصيرة التي تتناول مواضيع متعلقةً بالصحة الجنسية والحقوق الجنسية والإنجابية وملكية الجسد، تندرج ضمن مشروع تعاون بين رصيف22 ومؤسسة "براح آمن"، وهي مؤسسة نسوية مصرية تناهض العنف الأسري. الهدف من هذا المشروع إفساح المجال أمام الأشخاص، وتحديداً النساء، للتعبير عن ذواتهنّ ومشاعرهنّ وجنسانيتهنّ وعلاقتهنّ بأجسادهنّ.
في عامي الثامن عشر، عرفتُ مفهوم ازدواجية الميل وظننته المصطلح الأنسب لاحتواء ميولي. انخرطتُ في علاقات مغايرة، رغم انجذابي لأشخاص من نفس جنسي، وفسّرت الأمر بازدواجية الميل، أي بميلي للجنسين، لكن جزءاً ما بداخلي ظلّ متعطشاً لإشباع من نوع جهلت طبيعته حينها.
في فترة الحجر الصحي، أثناء انتشار وباء كورونا عام 2020، كنت في الثالثة والعشرين، تعثّرت وقتها بمفهوم "الغيرية القسرية" أو "Comphet" ويعني هذا المفهوم انجذاب النساء للجنس الآخر، ويحاول الفصل بين الانجذاب الإجباري والانجذاب الاختياري.
بمعنى، أي جزء من انجذابنا للرجال حقيقي بالفعل ونابع من إرادتنا الحرة، وأي جزء هو نتيجة لمحاولة المجتمع إقحامنا في المعيارية الغيرية؟
رحلة الغوص في الذات
في رحلتي لتحقيق هذا الفصل وتكوين فهم أفضل عن ميولي الجنسية، أعدت النظر لتاريخ علاقاتي الحميمة وإجاباتي العاطفية المتعدّدة. عثرت على الكثير من التفاصيل التي تؤكد انجذابي، عاطفياً وجنسياً، للجنس الآخر. أعجبت بصبي لأوّل مرة في سن السادسة، وكان لدي أحلام يقظة عن علاقات مثالية مع الشباب الذكور في مراهقتي.
"ظننت دائماً أني نسوية مستقلّة، تحتاج للمسافة في علاقاتها، لكن خلال أول موعد لي مع امرأة، عرفت أني على أتم الاستعداد لربط حياتي بأكملها بها"
على الناحية الأخرى، جزء ما بداخلي كان دائم التوق لعلاقةٍ مثلية. تصوّر المتبقي من حياتي مع امرأة ملأني بمشاعر حب وسعادة لم أشعر بها يوماً وأنا أحاول الهروب من تحويل علاقتي العاطفية مع شريكي لزواج رسمي.
ظننت دائماً أني نسوية مستقلّة، تحتاج للمسافة في علاقاتها، لكن خلال أول موعد لي مع امرأة، عرفت أني على أتم الاستعداد لربط حياتي بأكملها بها.
هذا اليقين الذي استشعرته خلال أول موعد معها لم أستشعره طوال أربع سنوات مع شريكي الذكر. يقين لم أستشعره طيلة ثلاثة وعشرين عاماً مضت من حياتي دون أن أعرفني جيداً فيها. ما ظننته انجذاباً للرجال، كان انجذاباً للتقدير الذي شعرت به عندما أُعجب بي رجل.
المجتمع الذكوري
منذ سن مبكرة لاحظت كيف ينجذب جميع الرجال لأمي، وكيف مثّلت معياراً للأنوثة والجمال بمعاييرهم. أُغرقت بالمجاملات والتقدير في كل مناسبة. وأنا، كطفلة عادية الشكل، أردت أن أحظى بالتقدير ذاته، ما يمثّل إقراراً مجتمعياً بقيمتي.
لوّحت قريناتي بشهادة الإقرار المجتمعي في وجهي طيلة الوقت. الفتاة الأجمل كانت الفتاة المرغوبة من الرجال أكثر، ومعيارنا للجمال والقبح الأنثوي كان معياراً ذكورياً بامتياز: جلد أملس بلا شعرة يتيمة، نهود ضخمة، جسد مكتنز لكن في الأماكن الصحيحة فقط، شعر أملس وطويل. جاهدنا لنتوافق مع هذه المعايير.
نقول إن الرجال يطاردوننا ساعين لنيل إعجابنا، لكننا في سعي أكثر دأباً لنحظى بإعجاب النظرة الذكورية. لم أفكر يوماً فيما أردته، ما الذي أعجبني وما الذي لم يعجبني؟
حين أتذكر الأمر، أدرك أني اخترت من أعجبني إعجابه، لا من أعجبت به فعلاً.
في مجتمع المثليين/ات يكثر الحديث عن ال type (النوع) المفضّل، لكن بين المغايرات لا ينتشر على السطح سوى معيار المرأة الجذابة. بالطبع يهمّ الرجال أن يحظوا بتوكيد مجتمع الرجال لهم، فكلما ازدادت قيمته بينهم كلما ازدادت قيمة الإعجاب الذي يمنحه، كأننا في مسابقة للحصول على إعجاب الرجل الأكثر ذكورة.
في مجتمع يهيمن عليه الرجال، منذ سنّ مبكر، يُفرض على الإناث كل ما يناسب رغبة الرجال وموافقتهم. تُهدى الفتيات الصغار العرائس ليتدرّبن على دور الأمومة، يتعلّمن الطبخ ليملأن بطون أزواجهن، يرتدين ما يجذب الرجال أو ليرتفع شأن حيائهن في أعين الرجال... إلخ.
لم يكن من السهل أن أختار التملّص من الأنماط المجتمعية وأقرّ بانجذابي للإناث، أن أتخلّى عن تقدير الرجال وأغيّر مظهري ليكون غير نمطي ولا مرغوب في أعين الرجال.
في مجتمع كالذي نعيش فيه، والذي يصنف أي علاقة بين رجل وامرأة، أي شعور وأي قرب، على أنه حب، وقتها يغيب معنى الحب الأساسي.
أشمئزّ حين أراقب الأهالي يسارعون لإقحام أطفالهم في هذه النمطية، كأن لا يتعدّى الصبي الخامسة وحين يفضّل اللعب مع قريبته تكون هي خطيبته المستقبلية، وفقاً لرؤية وتصوّر المحيطين به، أو حين ينظر بشكل عابر إلى أثداء امرأة، نضحك ونقول: "الرجال سيبقون رجالاً".
"حين أدركت ميلي للجنس نفسه لم أستطع قمعه، ولكني على الناحية الأخرى اعتبرت ميلي للذكور أمراً مسلماً به، وبدت ازدواجية الميل الجنسي المنطقة الأكثر راحة، بلا تضحيات ظاهرية، لكني شعرت في كل مرّة ضاجعت فيها رجلاً بخسارة جزء مني"
تحولت كل صداقاتي مع الرجال لعلاقات عاطفية، لأن قربي من الجنس الآخر كان غير قابل للتأطير بطريقة أخرى. لا أحد يرى رجلاً وامرأة جالسين على الطاولة نفسها في كافيه ويفترض أنهما صديقان، ولا أحد سيرى امرأتين متعانقتين وسيفترض أنهما حبيبتان.
حين أدركت ميلي للجنس نفسه لم أستطع قمعه، ولكني على الناحية الأخرى اعتبرت ميلي للذكور أمراً مسلماً به، وبدت ازدواجية الميل الجنسي المنطقة الأكثر راحة، بلا تضحيات ظاهرية، لكني شعرت في كل مرّة ضاجعت فيها رجلاً بخسارة جزء مني.
بالطبع هذه التجربة الشخصية جداً، حتى وإن شاعت بين النساء في ظل تنميطنا اللاواعي في الغيرية المعيارية، هي ليست دليل طعن في حقيقية ازدواجية الميل الجنسي، فالكثير من مزدوجي الميل الجنسي على أتم تملّك لميولهم.
وبالطبع فإن العديد من المغايرات ينجذبن للرجال انجذاباً واعياً وحرّ الإرادة، لكن إعادة تفكيك الميل الغيري هي عملية ضرورية للجميع عند مرحلة ما، أي جزء منا اخترناه وأي جزء لم نختره في عقلنا اللاواعي؟ هو سؤال مهم لطرحه على أنفسنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون